نُصب قاسم سليماني: تذكير بالغطرسة وعنجهية جوفاء
منذ 4 ساعات
مثنى عبد الله
3
حجم الخط
قبل بضعة أشهر أسقطت الشعوب في أمريكا وأوروبا نُصبا تمثل زعامات وشخصيات وطنية، لها أثر كبير في صنع تاريخ هذه البلدان، فقط لأنهم اكتشفوا أن هؤلاء كانوا عنصريين في أفعالهم وكتاباتهم، فأزالوا ذكراهم من الشوارع والساحات، كي لا يستقروا في وعي الأجيال كأبطال. فكيف تُقام نصب وجداريات لغرباء بأفعالهم، طفح أديم الارض العربية بدماء أبنائها؟
هل يُعقل أن يوصف القاتل بأنه حامي الحرية والبلدان والأعراض؟ أيُعقل أن يصبح الزعيم الطائفي زعيما شعبيا، تُلطم عليه الخدود وتُشق الجيوب بذكرى مقتله؟ أم أن كل ما هو متعارف عليه أصبح مقلوبا في عصر الطائفيين، إلى الحد الذي بات الثعلب حامي بيت الدجاج، والكاذب يُقسم ليل نهار أنه صادق، والسارق مهمتة حماية بيت المال، والذئب واجبه حماية القطيع، والمتسلط يناضل من أجل صون الحرية، والمجرم تسيّد على منصة سلطة القضاء، والحرباء باتت تأخذ موقفا ثابتا.
- اقتباس :
- التلاعب بالنسيج الاجتماعي لمجتمعاتنا العربية، تمارسه إيران بزرع الميليشيات والأحزاب الطائفية، ونشر ثقافة الولاء خارج المنظومة الوطنية
إن تسابق الأتباع والأنصار في العراق ولبنان واليمن وسوريا، لإقامة نُصب وجداريات تحمل صور قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، الذي قتلته القوات الأمريكية في الثالث من يناير عام 2020، بضربة جوية من طائرة مُسيّرة، حين خروجه من مطار بغداد قادما من دمشق، هو مشهد زائف من قبل هؤلاء، وفعالية سياسية لتثبيت دالة لحاضنتهم إيران على أنها موجودة على هذه الأرض، وأنهم أدواتها وأذرعها وميليشياتها. وقد اتخذوا من هذا السلوك وسيلة لتجديد البيعة والولاء والوفاء لأسيادهم. فأهلنا في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين، وكل الأرض العربية، يعرفون جيدا أن قاسم سليماني ورهطه في فيلق القدس، لم يقاتلوا يوما من أجل فلسطين، ولا لسواد عيون القدس، بل هم قاتلوا ويقاتلون من أجل ثوابت جيوسياسية لإيران، هي نفسها كانت قبل الاسلام، وكانت نفسها قبل التشيع، وكانت نفسها في زمن الشاه محمد رضا بهلوي، ونفسها بعد ثورتهم عام 1979 وحتى اليوم. إنها ثوابت براية واحدة وشعار واحد وعقلية واحدة، تقودهم دائما إلى الغرب، لأنهم يعتقدون أن العرب هم أكبر تهديد لهم. إبحثوا في عقول وقلوب وجيوب كل الإيرانيين ساسة ورجال دين، إصلاحيين ومحافظين، معارضة وموالاة، سوف لن تجدوا خريطة فلسطين أو صورة للقدس لديهم. ستجدون خريطة واحدة تسكن ضمائرهم هي لكيان امبراطوري إيراني، يمتد من إيران إلى اليونان، ولأنهم لا يعرفون الطريق إلى فلسطين ولا الطريق إلى القدس، لذلك كانوا في كل مرة تطأ أقدامهم الأرض العربية، يكون شعارهم/ الزحف إلى القدس. توجهوا إلى بغداد في حرب الثماني سنوات، وكان شعارهم الطريق إلى القدس يمرّ من بغداد وكربلاء، فصموا آذانهم عن الدعوات المتكررة لوقف الحرب وصون الدماء. وفي عام 2003 تستروا بنيران الغزاة، واحتلوا معهم العراق، ثم فعلوا الكوارث فيه بأسم الزحف المقدس إلى فلسطين. وفي سوريا مارسوا القتل بالجملة وحطموا البلاد، وزرعوا فيها الخراب، تحت شعار تحرير فلسطين والقدس يمرّ من الجولان. وفي لبنان صنعوا ميليشيا حزب الله، فكان دولة داخل الدولة، وسلطة أعلى من كل السلطات، وكان الشعار والراية هما نفسهما في العراق وسوريا. والسيناريو نفسه جرى في اليمن، دولة داخل دولة، وسلطة موازية من أجل الوصول إلى فلسطين. ولو أمعنا النظر في كل هذه الحواضر العربية، نجد أن كل الشهداء العرب من أجل فلسطين من غير الفلسطينيين، كانوا من هذه البلدان، وأن الجيوش الوطنية لهذه البلدان هي التي تحملت العبء الأكبر في كل المعارك التي حصلت مع الكيان الصهيوني. كما كانت كل المنظمات الفدائية الفلسطينية فيها فدائيون عرب، وهبوا دماءهم لفلسطين. في حين كان الإيرانيون من أخلص حلفاء إسرائيل في زمن الشاه، وعندما جاء النظام الإيراني الحالي هرول نحو إسرائيل في أول مأزق مرّ به في حربه مع العراق، للحصول على الدعم العسكري الأمريكي، فيما عُرف بـ(إيران كونترا). فهل يستقيم شعار تحرير فلسطين والقدس الشريف، مع تحويل عواصم عربية مهمة إلى حطام؟ فهذه بغداد ودمشق وبيروت، وتلك صنعاء، كلها دول فاشلة يعم الفقر فيها والوباء والفقر والجوع والقتل الحر، بسلطة الميليشيات، فيما يتجول جنرالات وعناصر الحرس الثوري الإيراني في مدنها وشوارعها بعد أن جعلوا منها دروعا أمامية للدفاع عن مصالح إيران، منكبين على خرائطها يرسمون عليها ساحات حربهم مع الأمريكيين.
هناك هدف واحد مُلح في العقل السياسي الإيراني، هو تغيير هوية منطقتنا ومحو صفة العروبة عنها، وهذه السياسة ليست وليدة اليوم، بل منذ الحكم الشاهنشاهي، ثم جاء النظام الحالي ليعلن، من خلال سياساته المستمرة منذ وصولهم إلى السلطة وحتى اليوم، أنهم في المسار السابق نفسه. فالتلاعب بالنسيج الاجتماعي لمجتمعاتنا العربية، لم ينفكوا يمارسونه يوميا من خلال زرع الميليشيات والأحزاب الطائفية، ونشر ثقافة الولاء خارج المنظومة الوطنية، وصناعة الولاء الديني لرجال دين خارج الحدود، وهذه كلها ممارسات سياسية صُنعت كي تكون مبررا لهم للتدخل في شؤون دولنا ومجتمعاتنا، وصولا إلى افتعال مناسبات ووضع نصب وصور تمثل رموزهم السياسية والدينية في مدننا العربية، كي تتركز في وعي أجيالنا القادمة هذه الشخصيات على أنها هي التي حررتنا، ودافعت عن وجودنا، وصنعت سيادتنا، وضحت من أجل مستقبلنا. وهذه كلها عملية مدبرة لصنع ولاءات جديدة، لا تقوم على أساس الولاء للوطن، بل الولاء لأفراد وشخصيات غرباء عنا، تم إسباغ صفة القداسة عليهم لصفتهم الدينية، أو بسب وقوعهم قتلى في صراع إيراني أمريكي لا علاقة لنا به، لكنهم يُصوّرونه على أنه من أجلنا ومن أجل فلسطين وهذه كذبة كبرى.
الحقيقة التي لا غبار عليها أن العلاقات بين إيران وأمريكا وبين إيران وإسرائيل، نسمع فيها نبرة عداء فقط، لكن ليست فيها سياسة حقيقية. إسرائيل بالنسبة لإيران ليست العدو الجيوستراتيجي الأول، فعدوها الجيوستراتيجي الأول هم العرب. فالفعل الإيراني ضد العرب يقابله صفر فعل إيراني تجاه إسرائيل. ابحثوا في التاريخ ستجدون كل حروب إيران كانت على أراضينا العربية. وابحثوا أيضا في التاريخ الحديث، كي تعلموا جيدا أن إيران لم تطلق إطلاقة بندقية واحدة ضد إسرائيل. تقول لي إنها تدعم هذا الطرف الفلسطيني وتلك الجهة. أقول إنه يدخل في مجال الاستثمار السياسي لا أكثر. دعمت قضيتنا الفلسطينية دول كثيرة في العالم، ليس لسواد عيون فلسطين، بل لأنها كانت حقل استثمار ناجح في الحرب الباردة بين المعسكرين. واليوم إيران تستخدمها في النطاق نفسه، وتوظفها في تحقيق نظرية الأمن القومي الإيراني. المراقب السياسي للدور الإيراني في المنطقة العربية، يرى لها وجوها عديدة ومتناقضة، وهذا يشير بوضوح إلى أنها تستخدم كل المسارات الممكنة لتحقيق مصالحها. فلها وجه عنصري بغيض عرفه العرب وترى بعض عناصره الان. وإيران لها وجه آخر وهو الظهور بمظهر زعيمة مذهب، وتريد أن تكون من خلاله محجة الإسلام المتحرك، لكن انظروا إلى موقفها الرافض لأذربيجان الشيعية والقريب من أرمينيا المسيحية.
إن افتعال مناسبة مقتل قاسم سليماني، وإقامة تماثيل وجداريات له في مدننا العربية، ممارسة سياسية قامت بها إيران وأعوانها، الهدف منها عكس الصورة المضادة لها التي شهدتها مدن وساحات العراق ولبنان، حين هاجم الشباب الثائرون القنصليات الإيرانية وأحرقوها وهتفوا بصوت عال منددين بها وبأذرعها.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية