مأزق الديمقراطيّة الامريكيّة واستراتيجيات المواجَهَة… تركة دونالد ترامب الثقيلة أمريكياً وأوربياً وشرق أوسطياً-عربياً
د. سوسن إسماعيل العسّاف*
مأزق الديمقراطيّة الامريكيّة واستراتيجيات المواجَهَة… تركة دونالد ترامب الثقيلة أمريكياً وأوربياً وشرق أوسطياً-عربياً
لم يبق للرئيس الامريكي سوى ايام معدودة لكي يترك البيت الابيض. وعلى الرغم من كون هذه حالة معتادة في الانتخابات الامريكية، يغادر فيها الخاسر او من تَنتهي ولايتهِ كي يتسلم الفائز الذي يليه بحفل تنصيب وطني هادئ ومعبر عن ديمقراطية القوة العظمى في العالم، ثم تستمر الحياة السياسية والاجتماعية على ما هي عليه. الا أن الولايات المتحدة في هذه المرة لازالت تحبس انفاسها تحسباً لما قد تأتي به الايام القادمة، وحتى تسلم الرئيس الجديد سلطاته في العشرين من الشهر الجاري. وهذا يعني أن ما كان روتينا معتاداً حتى في الاجراءات الامنية في مسالة انتقال الرئاسة اصبح الان حالة لا يمكن التنبوء بها وبعواقبها. فالاجواء الامنية التي تمر بها واشنطن DC حالياً لم يكن لها مثيل، (رعب وخوف وقلق وانتشار عسكري لاكثر من 20.000 جندي مع غلق بعض الشوارع وتقسيم المناطق بين اللونين الاحمر والاخضر وغلق لطرق من أجل تأمين الوضع وبشكل بالغ الدقة لحفل تسليم الرئاسة للرئيس ال 46 وتحسباً لأي طوارئ، وهذه المرة ليس المقصود به الارهاب الخارجي وإنما الشغب الداخلي). ووصل الامر الى أن هذا الظرف الاستثنائي ذَكَرَ بعض الاعلاميين الامريكيين، وعبر تغريدات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بالحالة الامنية في شوارع بغداد والموصل والفلوجة أثناء تغطية اوضاع الحرب والاحتلال هناك.
الاخطر من كل ما قد تحمله الايام القادمة من مفاجئات وحركات غير محسوبة، هي التركة الثقيلة المتمثلة بجملة تحديات ومشاكل خلفتها سياسات وقرارات الرئيس ترامب خلال الاربع سنين الماضية، والتي ستحتاج الى رؤى واستراتيجيات وقرارات جديدة تعالج اثارها وانعكاساتها السلبية، ليس فقط على الصعيد الداخلي الامريكي وانما حتى عالمياً، وبالذات اوربياً وشرق اوسطياً وعربياً. داخليا أحدثت سياسات ترامب العنصرية انشقاقات كبيرة داخل المجتمع الامريكي، وخاصة بعد حادثة مقتل المواطن الامريكي (الاسود) جورج فلويد على يد ضابط شرطة (ابيض)، وما نتج عنها من تظاهرات داخلية واسعة لم يُظهر خلالها الرئيس ترامب اي اهتمام بما جرى، وظل يدعم السياسات العنصرية ويقوي اليمين المتطرف الى الحد الذي خلق أجواءا تعيد التفكير بالحرب الاهلية. ناهيك عن السياسة العنصرية التي انتهجتها إدارته قبل ذلك ضد المهاجرين، وخاصة العرب والمسلمين، (ومن اميركا اللاتينية)، وهم غالبية لا يستهان بها. كما وتبقى طريقة استهانته بجائحة كورونا وعدم التعامل معها بجدية، وتكرار القاء اللوم على منظمة الصحة العالمية والصين، السبب الرئيس الذي أدى الى ارتفاع في عدد حالات الاصابة والوفيات. وأخر وأخطر ما أرتكبه ترامب من إخطاء هو تشكيكه بالعملية الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، بحيث أسس لحالة من الانفلات والاعتراض على ما هو قانوني ودستوري من خلال دعم التظاهرات والإحتجاجات التي قادها مؤيديه على نتائج الانتخابات، بل ورفض التسليم بخسارته بها بصورة سلمية. اضف الى ذلك محاولته استمالة مسؤولين في ولاية واحدة على الاقل لغرض تغيير النتائج أو محاولة التلاعب بها. كل ذلك شجع أنصاره من اقتحام بناية الكونكرس لمنع التصديق على فوز الرئيس بايدن، وهذه حالة لم تحدث بتاتاً في تاريخ الولايات المتحدة، ونتج عنها المطالبة بمحاكمة ترامب وعزله من منصبه. ويمكن ادراك خطورة هذه الهجوم عند استعادة تحذير الامن الداخلي الامريكي (FBI) الذي يقول ان هناك احتمال ان تشهد خمسين ولاية فوضى واضطرابات عنيفة مسلحة في حالة عزل الرئيس ترامب واحالته للمحاكمة، مثلما تم التنبأ بحدوث مثل هذه الاضطرابات في موعد حفل التنصيب. بكلمة اخرى ان اي اجراء لملاحقة ترامب سوف يُحدث اعمال شغب وزعزعة داخلية لا تحمد عقباها. طبعا ما يخشاه ترامب هو ان تتم ملاحقته قانونيا وحرمانه من اي دور قيادي سياسي مستقبلي بعد ان ترفع عنه الحصانة إثر انتهاء ولايته، خاصة وان هناك قوانين مختلفة في كل ولاية من الولايات الامريكية يمكنها ان تستند عليها لملاحقة ترامب واقامة الدعاوى ضده. أضف الى كل ما سبق أن الحزب الجمهوري الذي يتزعمه ترامب قد اصابه الانشقاق وتشتت المواقف السياسية داخله بين موافق ومعارض ومندد بسياسات قيادته وخصوصاً في مسألة اقتحام الكونكرس وقضية محاكمة الرئيس قبل انتهاء ولايته.
اوربياً، ادت سياسات ترامب الى اضعاف الوحدة الاوربية والدعم الامريكي المعتاد لها. فلقد طالب الدول الاوربية بدفع اموال لكي تبقى الولايات المتحدة في حلف الناتو، (من خلال طرحه إستراتيجية تقليل الانتشار الامريكي وسحب الجنود النظاميين والعودة الى ديارهم). وانسحب من اتفاق باريس للمناخ الذي تتمسك بها كل الدول الاوروبية المهمة (أعلن الرئيس المنتخب بايدن يوم امس انه سيعود الى هذه الإتفاقية). كما شجع سياسة تفكيك الاتحاد الاوروبي بطريقة غير مباشرة من خلال تشجيع بريطانيا على المضي قدما في عملية الانسحاب من الاتحاد وقطع الصلات مع اوروبا، واعِدّاً رئيس وزرائها باتفاقيات تجارية غير مسبوقة اذا ما اكمل عملية الانسحاب. وهذا ما فعله السيد جونسون، والذي ربما إعتقد ان ترامب سيبقى لفترة ثانية وسيحصل منه على امتيازات تجارية مهمة. ثم كانت هناك محاولته (ترامب) لتوريط رئيس وزراء اوكرانيا لكي ينشر معلومات عن ابن منافسه في الإنتخابات (الرئيس الجديد بايدن) في عمليات تجارية غير سليمة لكي يقلل من حظوظه في الانتخابات، وهي المسألة التي احيل بسببها الى المحاكمة الاولى وتمت تبرئته منها انذاك، وذلك لان حزبه الجمهوري كان يمتلك الاغلبية في مجلس الشيوخ الذي، وحسب الدستور، هو الجهة التي تجري المحاكمة. اما الان فان الديمقراطيين يمتلكون الاغلبية في كلا المجلسين (الشيوخ والنواب).
على الرغم من تأكيد ترامب في احاديثه على اهمية الدور الامريكي في صناعة السلام العالمي ونشره إلا إنه اقرن ذلك بالقوة في حوادث متفرقة وتهديدات بإمكانية استخدامها فعلياً لإشعال حروب جديدة، (وفي الشرق الاوسط أمثلة كثيرة). وتسبب نهجه هذا بأزمات بل كوارث، كل واحدة منها يمكن تهدد ليس أمن المنطقة لوحدها، وانما السلم العالمي بأكمله. فاولاً قام بالانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران، هذا الاتفاق الذي نجح في ضبط وتحجيم طموحات ايران في الحصول على سلاح نووي، وفرض على ايران عقوبات جديدة، مقابل ذلك زادت ايران من نسبة اليورانيوم المخصب المطلوب لصناعة سلاح نووي. ثانياً التصعيد وحرب النيابة التي استخدمتها إدارته مع ايران ووصلت الى حد اتخاذ قرارات الاغتيال لقادة عسكريين ايرانيين بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر توفير معلومات لاسرائيل لكي تقوم باغتيال علماء ايران او قادة مقاومة عرب. ثالثاً حاولت إدارة ترامب خصخصة الحرب والإعتماد على الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة في افغانستان من خلال قبول مقترحات رجال أعمال لخصخصة هذه الحرب (هذا المقترح جاء من قبل ايرك برنس مؤسس شركة بلاك ووتر الامنية الخاصة والذي تربطه علاقة معه ومع صهره ومستشاره جاريد كوشنر)، وذلك عن طريق إرسال متعاقدين أمنيين تابعين لشركات خاصة مقابل سحب الجنود الامريكيين من هناك، ولكن وزير الدفاع الأمريكي آنذاك رفض هذا الامر (حسب صحيفة نيويورك تايمز). مع العلم صدرت تحذيرات دولية من حلف الناتو تحدثت عن تداعيات الانسحاب الامريكي المتسرع من افغانستان على دول الحلف نفسها.
عربياً، تمادى الرئيس ترامب في الاستهانة بالحقوق العربية الى درجة غير مسبوقة، (وهو أمر لا يلام لوحده عليه، وانما من يجب ان يلام حقا وبالدرجة الاساس هي القيادات العربية، والفلسطينية منها بالذات، لانها رضت واستكانت لما فعله). وتوج هذه الإستهانة باعترافه وبكل عنجهية بالقدس الموحدة (عاصمة ابدية) للكيان الغاصب، واعطاه الحق في ضم الجولان المحتل ووعد حكومة نتنياهو بدعم اي قرار تتخذه بشان الضفة الغربية. ثم قام بإعلان ما اسماها (صفقة القرن) والتي بموجبها وعد الانظمة العربية التي تعترف باسرائيل وتقبل توطين الفلسطينيين في دولها بمبالغ مالية كبيرة. ثم زاد من تواجد القوات الامريكية في سوريا لابقاء الحرب الاهلية فيها مشتعلة، (بعد ان وعد بالانسحاب منها)، ودعم الحرب على اليمن واستمرارها والحصار على لبنان والخروقات الاسرائيلية لاجواءه، ونفذت القوات الامريكية بامر منه هجمات جوية داخل الاراضي العراقية بدعوى محاربة النفوذ الايراني هناك، الامر الذي اصبح ينذر بأن العراق سيصبح ساحة القتال بين ايران والولايات المتحدة اذا ما اندلعت اية مواجهة بين الطرفين بالوكالة عنهما أو مباشرة بينهما. كما وكان لقراره الفظ في الاعفاء عن اربعة حراس من شركة بلاك ووتر سيئة الصيت، الذين قاموا بقتل 17 عراقيا وجرح أكثر من 20 آخرين في مذبحة ساحة النسور-بغداد عام 2007، من ما تبقى من الأحكام الصادرة بحقهم (التي تراوحت بين 30 سنة سجن ومدى الحياة) دون الاهتمام بمشاعر أهالي الضحايا أو إنصافاً وإحقاقاً للعدالة الانسانية ولحقوق الانسان في العراق.
كما حث وشجع عبر سياسة الترغيب والترهيب بعض الانظمة العربية على التطبيع مع إسرائيل، واعداً بدعمها ضد ما اسماه ب(التهديدات الايرانية) بالنسبة لدول الخليج، او برفعها من قائمة الدول الارهابية، كما في حالة السودان، والاعتراف بتبعية الصحراء الغربية بالنسبة للمغرب. ولمن يفهم في الاستراتيجيات فإن كل هذه الوعود لن تغير من واقع الامر شيئا. فيما يتعلق بالسودان مثلاً لم تصبح دولة آمنة او مستقرة او قادرة على تجاوز ازماتها بعد توقيعها على اتفاقية التطبيع، ولا المغرب تمكن من حل الازمة الصحراوية بصورة نهاية. بكلمة اخرى وباستثناء ما حصلت عليه اسرائيل من امتيازات بسبب قرارات ترامب فان الدول العربية المعنية كافة قدمت تنازلات مجانية لدعم اسرائيل بدون اي مقابل بالنسبة للحقوق الفلسطينية او اي ضمان لحماية هذه الانظمة من اية تهديدات محتملة داخلية او اقليمية. بالعكس فإن قراراته احدثت شرخاً داخلياً في كل الدول العربية هذه، وذلك لان هناك اغلبية شعبية ترفض الاعتراف بإسرائيل أو التهادن معها ولا تقبل بغير إقامة دولة فلسطينية وعودة اللاجئين لها. وكل قراراته وإجراءاته لم تخدم الاستقرار والامن في الشرق الاوسط، بل اصبحت تحديات رفعت وزادت من حالة الكراهية الامريكية وعززت من غليان وتصاعد العنف الدموي والارهاب داخل هذه المنطقة. كل هذه المشاكل الداخلية والخارجية أصبحت أزمات وتركة سياسية ثقيلة من الادارة السابقة المثيرة للجدل، منذ دخولها البيت الابيض وحتى خروجها منه، ويتوجب على إدارة الرئيس بايدن الجديدة مواجهتها.
بنظرة إستشرافية فإن صناع القرار الجدد قد يلجاؤن الى واحدة من إستراتيجيات ثلاث: الاولى تدعو الى العزلة عن العالم من أجل إعادة اللحمة الوطنية واستعادة ثقة وولاء الذين صوتوا لصالح ترامب (حوالي 75 مليون نسمة)، مع رفع شعار أمريكا للامريكيين من جديد. وعند ذاك فان الإنكفاء الداخلي والتخلي عن سياسة التدخل بشؤون الدول الأخرى والتركيز على الوضع الامني والصحي والمجتمعي سيكون هو الخيار الذي لا بديل عنه أمام صناع القرار الامريكي، مع كل ما يحمله من إنعكاسات قد تقود الى تراجع ملحوظ لدورها العالمي كقوة كبرى وشرطي العالم. وسيقود هذا الخيار حتما الى إنهيار هيكلية النظام الدولي الحالي القائم على القطبية الاحادية بقيادة امريكية، حيث سيشجع على بروز القوى المنافسة المترقبة والمتلهفة لنظام دولي متعددة الاقطاب والاستراتيجيات (وهو إحتمال بدأ بالظهور منذ أن تورطت الولايات المتحدة في المستنقع العراقي). أما الاستراتيجية الثانية فتقوم على سياسة المضي في الطموحات العالمية والابقاء على تحقيق حلم القرن الامريكي مع التغطية على المشاكل الداخلية من خلال افتعال الازمات الخارجية وتوسيع نطاق التدخلات الخارجية والاحتكام الى منطق القوة لفرض النظرة الفوقية والتسلطية في السلوك السياسي الخارجي الامريكي. أما الخيار الثالث وهو الاكثر ترجيحاً فإنه يعتمد على المزج بين الإستراتيجيتين السابقتين من خلال السير بخطى هادئة ومتوازنة وحذرة من أجل تخطي العوائق الداخلية مع انتهاج سياسات خارجية مصلحية-براغماتية لا تثير الحروب ولكنها لا توعِّد أو تبشر بالسلام المبتغى عالمياً، فعلى الرغم من اختلاف نهج الروؤساء الامريكيين الجمهوريين والديمقراطيين إلا إن ثوابت السياسة الامريكية واحدة والدفاع عن المصلحة القومية الامريكية العليا لا يختلف عليها اياً منهم.
*باحثة وأكاديمية من العراق