[size=36]٥٦ عاما على رحيل شاعر الأنهار المتدفقة دائما
[/size]
العرب/ عواد علي:تزامن يوم الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري مع مرور الذكرى الـ56 لرحيل الشاعر العراقي والعربي بدر شاكر السياب الذي غادر عالمنا عام 1964، وهو الذي يعتبر أحد أبرز شعراء الحداثة. وما زالت تجربته الشعرية مقصدا للباحثين والنقاد الذين يحاولون دراسة مراحل نشأته وارتباطه الوثيق بمسقط رأسه، ما جعل من مكوناته الجغرافية المحببة للسياب “الإنسان” جزءا لا يتجزأ من إبداعه الشعري.
تتخلل غابات النخيل المحيطة بقرية جيکور في قضاء أبي الخصب بالبصرة، التي ولد فيها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926-1964)، جداول مائية فوقها معابر صغيرة من جذوع النخل. وحين يرفع المد مستوی شط العرب تمتلیء هذه الجداول، ثم لا تلبث عند الجزر أن يجري ماؤها عائدا إليه. وهي أجمل مشاهد القرية، ولا تضاهيها إلاّ جاذبية شط العرب نفسه.
ومن هذه الجداول واحد اسمه بويب عرضه متران، ويستمد ماؤه من جدول أکبر منه اسمه جيکور. ويمر بويب في قطاع من القرية اسمه بقيع حيث منازل عائلة السياب وأراضيها.
وقد خلّد الشاعر هذا الجدول في شعره، متخيلا إياه نهرا، وحوّله إلی صورة تؤدّي دورا مهما في تشكيل العديد من قصائده، عبّر به عن الخصب والحياة، وجعله رمزا شخصيا وضعه في نقطة تقابل کل ما يوحي إلى الجدب والعدم.
هرب من الأوجاع
في قصيدة “نهر العذارى” يصوّر السياب ما يجري فيه، متخذا منه وسيلة لنقل رؤاه وأفكاره من دون وجود علاقة تربطها بهذا النهر، سوى المتعلّق أو المتحقّق المادي، أي أن علاقة السياب الشعرية تتّحد بالنهر من خلال كونه ملتقى للعذارى، وحبيبته إحداهنّ.
وهنا نجد أن النهر لم تكن له أي قيمة معنوية، وحتى قيمته الحسية يستمدها من خارجه، أي من خلال العذارى وأشعة الشمس، وما يحيط به من جمال الطبيعة ومناظرها.
لكن السيّاب استطاع أن يبلور أفكاره ومشاعره الشاكية من الحبيبة في صور حسية كان النهر مسرحا لها، فهو يبدؤها بـ:”يا نهر، لولا مُنحَناكَ وما يشابك من فروع ما كانت البسمات في عينيّ تُطفأ بالدموع”. وفي قصيدة “مرحى غيلان” يرتقي النهر من كونه صورة حسية متناقلة إلى صورة رمزية تنبض بالعديد من الإشعاعات الإيحائية، ويكتسب جزءا من قيمته من داخله، أي أنه أصبح يشعّ ببعض الصور التي تكتسب جزءا من قيمتها المعنوية من خلاله، والجزء الآخر من خارجه، فغيلان (ابن الشاعر) يرقد في قراره والدماء التي في عروقه من زلال “بويب”، وأصبحت رماله فراشا عطرا، وفوق ذلك فهو يهب الحياة لأعراق النخيل.
كما أدخل السيابَ تشبيها عليه “أنا بعل أخطر في الجليل على المياه”، فجعل الإشعاعات الإيحائية والصور مشتركة بينه وبين غيلان وبعل. وهنا يُعيد الشاعر تشكيل “بعل”، إله الكنعانيين في فلسطين، فيجعله يتجلى في شخصية المسيح معجزة ومكانا، يخطُر في الجليل ماشيا كما فعل المسيح على سطح ماء بحيرة طبرية:
في بداية هذا المقطع رقد الشاعر الجَزِع في قرار نهر بويب هربا من الحياة ومن أوجاعه فيها، لكنه يفاجئنا في نهاية المقطع بأن يتحوّل هو نفسه الإنسان الشاعر إلى نهر اسمه بويب! فبعد أن كان وسيلة للمخاطبة وشاهدا على ما يحدث أصبح في هذه القصيدة مشاركا في ما يحدث، مبلورا رؤاه في صور شعرية من خلال دلالاته المعنوية.
النهر سر الحياة
في قصيدة “النهر والموت” يهدف السياب، كما تقول سلمى الخضراء الجيوسي، “إلی تغيير كيمياء الموت بأن يغرق المرء في دمه ليبعث الحياة من جديد، حيث تستضيء بالنجوم والقمر مياه وأشجار مخضرة بالخصوبة والحياة”:
يغدو بويب في هذه القصيدة رمزا كاملا، إذ يتخلص من معظم العلائق المادية والتصورات الخارجية، ويشعّ بصوره ودلالاته من دون مشاركة خارجية، ويستمد قيمته المعنوية من داخله، إذ استقل استقلالا تاما، وأصبحت العلاقة التي تربطه بالأشياء التي يومئ إليها ليست علاقة متشابهة، بل هي علاقة داخلية وحّدت بين بويب وما يشير إليه، وبهذا يكون بويب قد انتقل من صورة مألوفة إلى حسية رمزية، حتى غدا الرمز الرئيسي في هذه القصيدة هو رمز النهر، وهو يحمل دلالات تتدرّج من المستوى الطبيعي الواقعي، بوصفه مجرى مائيا، إلى المستوى الكوني الميتافيزيقي، حيث أصبح مرآة ومعبودا، بالمعنى الصوفي، ثم إلى المستوى الذاتي الصميمي حيث نراه رحما.
وثمة من يقرأ النهر هنا بوصفه رمزا، أو معادلا موضوعيا للعراق، حسب المصطلح الإليوتي، فهو يمثل موطن الشاعر ومحطة أحلامه، ومرتع طفولته التي أختطفها الزمن؛ فالعراق بلد الأنهار والمياه، وبلد الخيرات، وكذلك النهر سرّ الحياة، وقد اختار بويب من باب تسمية الكل باسم الجزء ثم دمجه بالموت.
وبذلك يكون بويب في هذه القصيدة رمزا نشيطا يشكّل بؤرة إشعاعات وإيحاءات لا تنضب داخل القصيدة، وصار بذلك قادرا على تحديد موقع كل صورة في القصيدة، وبهذا اتحد النهر برؤى السياب وتصوّراته، فثمة علاقة بين الصورة والرمز في شعر السياب، ويمكن النظر إلى هذه العلاقة من خلال تطوّر الصورة إلى رمز، ولاسيما أن “الرمز في التجريد العقلي مرحلة نهائية للصورة، كان من طبيعتها، ثم انفصل عنها، أو أنها هي تجرّدت عن ذاتها ونزعت إلى أن تكون رمزا، فيكون الرمز جسدا لآخِر تطوّر بلغته الصورة، ومن شروطه أن يتحقّق في قالب”، وفق توصيف غطّاس كرم في كتابه “الرمزية والأدب العربي الحديث”.
هكذا استطاع السياب أن يضع جدول بويب الصغير في قلب الحداثة الشعرية العربية، وكأنه نهر الدون الكبير لدى شولوخوف في روايته “الدون الهادئ”، أو نهر درينا لدى إيفو أندرتش في روايته “جسر على نهر درينا”، في حين أنه “خيط ناشف من الماء بين النخيل”، كما وصفه الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين بعدما رآه خلال زيارته لجيكور عام 1971، وعاد منه مدركا “أنّ الأنهار يبتكرها الشعراء، وأنّ المدن يصنعها الخيال”.
وفي هذا الصدد أستذكر أيضا تساؤل الشاعر العراقي فاروق يوسف “أما كان من الممكن أن يكون بويب الذي جفت مياهه واحدا من أشهر الأنهار في العالم بسبب ما كتبه ابن جيكور عنه، لو لم يكن ذلك الابن عراقيا، يحيط به سوء الفهم من كل الجهات؟”.