بقلم: صفوة فاهم كامل
قيس عبد الرحمن عارف البار ابن البار
كثيراً ماكنت ألتقيه حضورياً وكان أخرها يوم ٦ كانون الثاني المنصرم، وأتواصل معه أكثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأخر رسالة وصلتني منه يوم ٢٤ كانون الثاني يقول فيها: (أعزائي، أسف لعدم الإجابة لدخولي من ليلة أمس الى الطوارئ ولا زلت في المستشفى ...حفظكم الله) ...!
لكني فوجئت وصُعقت إنا ومعي الكثير من أبناء الجالية العراقية في الأردن، عندما وصلنا الخبر الأخير صباح يوم الخميس ٤/2/2021، عن وفاة العميد البحري قيس عبد الرحمن عارف، زميلي الأقدم في السلاح وصديقي الصدوق في عمان، أثر إصابته المفاجئة بفايروس كورونا ودخوله إلى ميدان مستشفى الإسراء، لتبدأ الحرب الضروس بينه وبين هذا المرض اللعين، ولم يألو جيش من الأطباء والمعاونين في تلك المستشفى جهدًا إلا وقاموا به لمساندته ومؤازرته في هذه المعركة الشرسة التي استمرت عشرة أيام بلياليها، إلا أن الوباء كان أقوى وأشد وحُسمت النتيجة لصالحه فاستسلم المقاتل قيس، وغادر الدنيا إلى رحاب الله من غير رجعة. وكان شقيقه نبيل، ذلك الإنسان الوقور والمهذّب قد سبقه إلى تلك الرحاب في شهر تموز ٢٠٢٠، بعد إصابته بمرض، نخشى حتى أن نلفظ اسمه...!
كان الفقيد قيس، قد ابتاع قبل سنتين شقة صغيرة في منتجع) ألانيا) جنوب غرب تركية على ساحل البحر المتوسط، يقضي فيها ما بقيَّ من خريف عمره مع شريكة حياته ورفيقة دربه أم عبدو-كما يحلو أن يناديها-ينتقل بينها وبين عمان وبغداد. وشاءت الصدف أن يعود من هذه المدينة إلى عمان قبل بداية انتشار فايروس كورونا في الأردن بأيام على أمل العودة لها مرة أخرى بعد فترة وجيزة، إلا أن الإجراءات الصحية المتّبعة حرمته من السفر من الأردن، فآثر البقاء لحين انفراج الموقف الوبائي.
توفي شقيقه المهندس نبيل في بغداد يوم 5/7/2020، فحتم عليّ الواجب الأخلاقي والأدبي أن أزوره معزّياً إياه بهذا المصاب الأليم، وكانت القوانين الصحية الصارمة في حينها قد خفّت نسبياً مع انحصار الإصابات، لذلك اقترحت عليه العودة إلى تركية للاستمتاع بهذه المدينة الشاطئية الجميلة وأجواءها الخلّابة وبحرها الطامي والابتعاد عن أوامر الدفاع المقيّدة في الأردن. لكنه رفض الفكرة لأن في مخيلته أن تركية موبوءة أكثر من الأردن والتحوطات الصحية أقل، والسلامة أخطر، وأنه ينوي الذهاب إلى بغداد أولاً لإيجاد عروسة لابنه الوحيد عبد الرحمن، ومن ثمَّ السفر إلى تركية، ثمَّ الأردن وهكذا، لكن الرياح هبّت بما لا تشتهيها سفينة العميد البحري قيس، وأن الأقدار أقوى من الأحلام وكُلنا مسيّرين بها لا مخيّرين ...!
كان الفقيد قيس، هو الأقرب لوالده المغفور له عبد الرحمن عارف، منذ أن كان رئيساً للعراق، ورافقه بالطائرة الى منفاه الإجباري في تركية يوم انقلاب تموز 1968، ثم العودة إلى العراق، ثمّ إلى منفاه الاختياري في الأردن عام 2003، حتى مثواه الأخير في محافظة المفرق الأردنية ليواريه الثرى بيده في مقبرة شهداء الجيش العراقي عام 2007.
منذ وفاة الرئيس عارف، وحتى هذه السنة والسفارة العراقية في عمّان تحرص سنوياً على دعوة العميد قيس عارف، شخصياً ليكون ضيف الشرف الدائم في عيد الجيش خلال مراسم وضع أكاليل الزهور على أضرحة الشهداء في تلك المقبرة ومنها ضريح والده. وعن مناسبة هذه السنة 2021، كنتُ قد نوّهت له في شهر تشرين الثاني الماضي من أن السفير العراقي حيدر العذارى، مصمم على أحياء تلك المناسبة في ٦ كانون الثاني القادم ومهما كانت الظروف، عوضاً عن السنة الماضية التي لم يجري فيها احتفال، فرفض تقبّل الدعوة في بادئ الأمر توجّساً من التقارب الاجتماعي المحتمل هناك بين جمهرة المحتفين واحتمالات العدوى من وباء كورونا. لكن مع اقتراب المناسبة قرّر تلبيتها طوعاً مع أركان السفارة وبقية المحتفلين وزيارة مقابر الشهداء ومنها قبر والده والسلام عليه، وجرى ما جرى من حيث لا يدري أن هذه الزيارة لوالده ستكون الأخيرة له على أرض الفناء، ولا يدري أيضاً إنه سيلتقيه بعد ثلاثين يومًا في دار البقاء ... والله أعلم.
فور انتشار نبأ وفاته كنت أنا ومعي ثلّة من الزملاء الضباط وكوكبة من المثقفين العراقيين والأردنيين وشخصيات أكاديمية واجتماعية مرموقة نتمنى ونطالب بأن يدفن المغفور له بجانب والده في مقبرة شهداء الجيش، ذلك الرمز الوطني العراقي المهم في الأردن، سيّما أن الملازم قيس-وقتئذ-من بين الضباط الذين أرسلهم الرئيس عبد الرحمن عارف إلى الجبهة الغربية في فلسطين ومقرها مصر، خلال حرب عام ١٩٦٧، لكن تلك الأمنيات والمطالبات اصطدمت برغبة عائلته الجامحة بنقل جثمانه إلى بغداد ليدفن في مدافن العائلة الخاص في مقبرة الكرخ الإسلامية، إلى جانب شقيقه المرحوم نبيل، وتفهّم الجميع وانحنى لتلك الرغبة العائلية التي لا سلطان عليها في مثل هكذا حالات. وفي كل الأحوال فلا فضل لأي منها على الأخرى فكلاهما أرض عراقية وكلنا راحلون والبقاء لله وحده.
المرحوم قيس، كما عرفته وعرفه الجميع يمتاز بدماثة الخلق والأدب، ولين الجناب وحسن السمعة. إنسان بسيط ومتواضع، تبدو على محياه خفّة الظل واتزان العقل، يحب الخير للجميع ويساعد المحتاجين والمعوزّين من أبناء الجالية، حتى أخر أيامه، محبوب من الجميع ولا شائبة عليه.
في شتاء عام ٢٠١٧، كنتُ قد التقيت بالسيد قيس، في داره بعمّان وحاورته كثيراً، رغبةً مني في إصدار كتاب عن والده، والذي صدر في صيف نفس السنة تحت عنوان (عبد الرحمن عارف ... الرئيس البار) ولاقى الكتاب صدى طيّب في الأوساط الثقافية، ومن جملة ما تحدّث فيها عن عودة الرئيس عارف من منفاه في تركيا إلى العراق عام ١٩٧٩، واستقراره في بلده، حيث كان يراوده حلم بناء بيت جديد له ولأولاده الخمسة يجمعهم ويكونوا قريبين منه ومن أم قيس، وهذا ما حصل منتصف الثمانينيات حين شيّد دور جميلة على قطعة أرض واسعة كان يمتلكها في شارع واسع يتقاطع مع نهاية شارع الأميرات بالمنصور. وكانت كلّما سنحت فرصة يلتأم تحت سقف داره العامرة كل أفراد عائلته من أبناء وأحفاد وأقارب ليستأنس بهم ويتسامر معهم.
هذا الشارع العريض والمهم ليس له أسم رسمي في خرائط الأمانة، إلا أن أهالي حي المنصور كانون يُطلقون عليه تسميات مختلفة وحسب أهمية الشخوص التي سكنت فيه، فتارةً أطلقوا عليه شارع الملوك والرؤساء، وتارةً أخرى شارع ميشيل عفلق، وبعدها شارع فاضل البراك، فهي تسميات شعبية محدودة ليس إلا. لذلك ومن هذا الحدث الجلّل وعبر هذه السطور المتواضعة أناشد دولة رئيس الوزراء الحالي المحترم مصطفى الكاظمي ، بل أطلب منه أن يوعز إلى أمانة بغداد بإطلاق أسم الرئيس عبد الرحمن عارف، على ذلك الشارع عرفاناً بشخصه، وتكريماً لدوره الهادئ والمسالم في الحياة السياسية والعامة، فهو الأحق والأجدر بهذه التسمية، واعتبار ذلك أيضاً إكراماً لولديه الشهيدين البارّين النبيلين قيس ونبيل، ولعائلته الكبيرة القاطنة في ذلك الشارع، واجد إن هذه الالتفاتة وهذا الموقف سيُحسب تاريخيّاً للرئيس الكاظمي، على أن ينفّذ أمره قبل بلوغ أربعينية المرحوم قيس، من باب الاعتزاز والتقدير من الحكومة العراقية لرجالها.
تغمّد الله الصديق العزيز قيس عبد الرحمن عارف، بواسع مغفرته وعظيم رضوانه وحشره ووالديه وشقيقه مع النبيين والصدّيقين والشهداء والنجباء من أبناء أمته في الفردوس الأعلى، وأنزل على قبورهم شآبيب رحمته، وحفظ زوجته وأولاده الأربعة من كل سوء وجنّبهم كلَّ مكروه ... وإنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿ وما تَدرى نفسٌ مَّاذَا تكسبُ غدًا وما تدري نَفسٌ بأي أَرضٍ تموتُ، إِنَّ الله عليمٌ خبير ﴾