الملك عبد الله الثاني في رِحاب الملك فيصل الثاني
صفوة فاهم كامل
الملك عبد الله الثاني في رِحاب الملك فيصل الثاني
تشهد مدينة أبي حنيفة النعمان، مدينة الأعظمية العظيمة في بغداد منذ أيام وتحديداً بناية المقبرة الملكية ومقترباتها حركة غير طبيعية كأنها خليّة نحل دؤوبة وورشة عمل لا تتوقف، تُواصل الليل بالنهار وتُسابق الزمن، لإكساءها بُحلّة عمرانية جميلة تعكس مكانتها التاريخية وقيمتها الروحية، استعداداً لحدث كبير ومهم وزيارة ميمونة أهم. تستقبل فيها ضيفاً رفيعاً، وشقيقاً عربياً، وهاشمياً أصيلاً هو جلالة الملك عبد الله بن الحسين، ملك المملكة الأردنية الهاشمية وسليل الأسرة الهاشمية الشريفة، في ثالث زيارة شخصية له للعراق، بعد أن توّجَ نفسه كأول زعيم عربي حلَّ ضيفاً سامياً على العراق عام 2008، بعد انتهاء الحرب، في ظل ظروف وأوضاع أمنية خطرة. أما زيارته هذه فستكون تاريخية أيضاً يزور فيها لأول مرة أبن عمه ملك العراق الشهيد فيصل الثاني والأسرة الهاشمية العراقية في المقبرة الملكية والوقوف تأبيناً وحداداً عند أضرحتهم وقراءة سورة الفاتحة على أرواحهم والدعاء لمقامهم مع الصلوات على أجدادهم.
يا خطوةَ الأمس المعاود طيفه * * *يا صفوة الأملِ المرجّى في غدِ
(الجواهري، يوم تتويج الملك فيصل، عام ١٩٥٣)
تُعتبر المقبرة الملكية التي بوشر العمل بها عام 1924، من المعالم المميّزة واللافتة بطرازها المعماري والإسلامي، وستُدرج ضمن لائحة منظمة اليونسكو للتراث العالمي بعد أن يُناهز عمرها المائة عام سنة 2024. يرقد تحت ثرى هذه المقبرة ثمانية أضرحة تعود للعائلة الهاشمية الشريفة، توفوا في أزمان مختلفة من القرن الماضي وفي ظروف وملابسات متباينة، هم:
الملك فيصل الأول، وزوجته الملكة حُزيمة بنت ناصر، وابنته الأميرة رفيعة، وشقيقه الملك علي، والملك غازي وزوجته الملكة عالية، والأميرة جليلة بنت الملك علي، والملك فيصل الثاني،
وقبرين لشخصيتين كانتا الأقرب والأوفى للملك فيصل هما جعفر العسكري ورستم حيدر فيما افتقدت المقبرة ثلاثة رفات هم: الملكة نفيسة، زوجة الملك علي وابنتها الأميرة عبديّة، حيث دُفنتا –كما يقال ويعتقد-في مقبرة باب المعظم بُعيد أحداث 14 تموز 1958، والشخصية الثالثة هي الأمير الشهيد عبد الإله بن علي الذي مزّق الأراذل والأوباش أشلاءه الطاهرة صبيحة ذلك اليوم الدامي، أما الأميرة بديعة بنت الملك علي، أخر الأميرات العراقيات، فقد توفيت العام الماضي ودُفنت في مقبرة العائلة الخاصة بلندن بجانب زوجها الشريف حسين بن علي، بناءً على وصيتها.
ومن خلال هذه الزيارة الكريمة التي يحلّ فيها جلالة الملك عبد الله الثاني ضيفاً عزيزاً على العراق والعراقيين فأنها فرصة ننتهزها لنوجّه دعوة كريمة أيضاً للحكومة العراقية، وديوان الوقف السني، ودائرة الآثار، كي تبذل جهوداً مثمرة لاقتفاء أثر الشهيدتين الشريفتين نفيسة وعبديّة ونقل رفاتهما وضمّهما بجانب العائلة في رواق المقبرة الملكية وتحت قبابها العالية.
تأتي زيارة الملك عبد الله، الميسّرة للمقبرة الملكية بعد انقضاء ثلاثة وأربعين عاماً على أول زيارة هاشمية لها قام بها الراحل الملك حسين بن طلال (طيّب الله ثراه) عام 1978، عَقب عشرين عاماً على مذبحة قصر الرحاب عام 1958، فكانت زيارته التاريخية إلى بغداد آنذاك بداية عهد جديد وصفحة بيضاء زاخرة من العلاقات الوطيدة بين البلدين وبين الشعبين، لم تنقطع بل استمرّت وازدهرت بوتيرة متصاعدة إلى الآن.
وتُصادف زيارة جلالة الملك عبد الله في هذه الأيام المباركة والعراقيون يستذكرون أحداثاً مؤلمة مرّت عليهم في مثل هذه الأيام قبل ثمانية عشر عاماً حينما بدأت غربان الشر تملأ سماء العراق عام 2003، لتدك مدنه ليل نهار، من شماله إلى جنوبه ثمّ تدخل وتُدنّس بجنودها الأقذّاء وعملائها الأذلّاء مدينة السلام بغداد، وتنشر فيها الخراب والفساد بعد أن حطّمت الحجر والبشر. فعسى أن تكون زيارة حفيد الرسول الأعظم ﷺ الشريفة هذه عنواناً للسلم والسلام بين العراقيين، تجمعهم على الوئام والولاء لبلدهم، وتنفض عن عقولهم غبار الشحناء والبغضاء وتنزع الغلّ من صدورهم.
فهل من مُذعن ومُجيب ...؟!
وإذا ما عُدنا إلى تاريخ العلاقات الأردنية-العراقية عبر مسيرتها الطويلة نجد إنها علاقة عميقة ووثيقة الصلة، منذ انسلاخهما عن الدولة العثمانية وتأسيس دولتين مستقلتين عام 1921، فاتسمت الوشائج بين البلدين والعروّة بين الشعبين بطابع الودّ والألفة والتضامن. وخلال هذه العقود الطويلة من الزمن جرت بينهما محاولات عديدة لمشاريع وحدويّة واندماجية، فالأردن والعراق دولتان مسلمتان متجاورتان وبينهما امتداد جغرافي طبيعي، تولى قيادتهما في بداية تأسيسهما أميران شقيقان شريفان يعود نسبهما إلى الأمام الحسن بن علي بن أبي طالب.
أولى تلك المحاولات كانت عام 1943، من خلال مشروع (دولة الهلال الخصيب) أعقبها مشروع (سورية الكبرى)، ثمَّ معاهدة (تحالف وأخوّة) الذي تم التوقيع عليه عام 1947. وفي عام 1955، انضمَّ العراق والأردن إلى ميثاق بغداد (حلف بغداد) مع تركية وإيران وباكستان، لمواجهة خطر المدّ الشيوعي السوفيتي. وفي ١٤ شباط من عام 1958، أُعلن عن تشكيل اتحاد عربي بين المملكتين عُرف بــ (الاتحاد الهاشمي). وفي عام 1989، تشكّل في بغداد (مجلس التعاون العربي) وضمَّ العراق والأردن ومصر واليمن، غايته تحقيق تكامل اقتصادي تدريجي وقيام سوق عربية مشتركة. إلا أن جميع هذه المشاريع الوحدويّة الطموحة لم ترى النور ولم يُكتب لها النجاح بسبب السياسات المتقلّبة في المنطقة وما رافقها من تطورات وأحداث مؤسفة خاصةً في العراق.
أما اليوم وفي ظل ظروف إيجابية وأجواء مشجّعة فثمّة خريطة تفاهميه جديدة تجمع الآن مصر والأردن والعراق، أُطلق عليها (الشام الجديد). تبلورت ونضجت هذه الفكرة أثناء قمة ثلاثية انعقدت في القاهرة عام 2019، أعقبتها قمة ثانية في نيويورك وثالثة في عمّان، كان الهدف الاقتصادي هو العنوان المتصدّر لها والأهم، تلتها العناوين السياسية المختلفة مع مراعاة خصوصية ومصالح كل بلد. ونحن كشعوب وأحرار في هذه الدول نتطلّع أن يرى هذا التحالف الجديد النور بوضوح أكثر، ونتائج أجدر تعود بالفائدة على الجميع عندما ستلتأم القمّة الرابعة بعد أيام في عاصمة الرشيد بغداد.
اللهم بارك لنا ولبلدنا ولشعبنا وأرضنا هذه الزيارة وما بعدها ... إنه سميع مجيب.