الحرب طريق السلام
نزار السامرائي
الحرب طريق السلام
تسود العالم في الوقت الحاضر كما كان سائدا على مر العصور، قوى دولية كبرى معدودة تتحكم في مصائر الكرة الأرضية، وفي عصرنا الراهن تحتل الولايات المتحدة مركز الاستقطاب الدولي الأول في العالم إن لم يكن الوحيد بعد انهيار جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، ولكنها تراقب بحذر شديد محاولات روسيا استعادة قوة الاتحاد السوفيتي السابق، في حين باتت الصين تشكل الهاجس الأول الذي يؤرق واضعي الاستراتيجية الكونية الأمريكية.
تتنازع هذه القوى فيما بينها للتحكم بالقرار السياسي للدول الصغيرة، والسيطرة على مقدرات الشعوب اقتصاديا عن طريق احتكار القوة العسكرية التي لا تجاريها قوة أخرى، ومن يمتلك السيطرة على الثروات الطبيعية في العالم بعد إزاحة المنافسين له، وبعد أن يستكمل تلك السيطرة تبدأ مرحلة جديدة وجدية تتمثل بالتحكم بسلوك كثير من دول العالم صغيرها وكبيرها ومصادرة قرارها السياسي الوطني، وتقمع كل دولة تحاول رفع رأسها أو تناضل للخروج عن هيمنتها، وتضع الخطط للإطاحة بأي زعيم في دول ما يسمى بالعالم الثالث إذا ما اتجه إلى الاستقلال السياسي الحقيقي، أو حاول أن يجعل من بلده قوة اقتصادية تتحكم بمواردها الوطنية وتسّخرها لخدمة مشروعات البناء والتنمية، وهذا ما حصل في تجارب عديدة ولعل أبرزها ما حصل في العراق منذ عام 1990 وما بعدها والتي انتهت بغزو العراق وتدمير منظومة الدولة فيه.
هذه الظروف القاهرة، تدفع كثيراً من السياسيين والمخططين الاستراتيجيين إلى إثارة تساؤل ... هل أن هذا الوضع الاستثنائي هو قدر مقدور ومفروض أبداً على الأمم الصغيرة؟ وهل تم إحكام السيطرة الأبدية على الأمة العربية بشكل خاص لتبقى أسيرة عالم علاقات غير متكافئة إلى الأبد؟ ولماذا اختيرت الأمة العربية لتكون بؤرة توتر ثابت في العالم؟ ومن هي الأطراف التي تتحكم بمسار الأحداث في الوطن العربي؟ بل لمصلحة من يُمنح بعض الحكام العرب من فاقدي الخبرة السياسية والقدرة على تحليل الأحداث الدولية بصورة سليمة، فرصة البقاء في مواقعهم ويُزاح الحكام الوطنيون والمؤهلون أكثر من سواهم عن قيادة بلدانهم نحو شواطئ الرفاهية والاستقرار؟
بين آونة وأخرى تسرّب جهات استخبارية أو مراكز دراسات ممولة، تقارير أو بحوثاً مُعَدّة إعداداً دقيقاً ومسبوقة بعبارة "سري للغاية"، وواضعو هذه البحوث أو التقارير هم مجموعة من الباحثين المرتبطين براسمي السياسات العليا للقوى الدولية الكبرى، ويتم إعدادها بناء على طلب جهات سياسية لها مصالح في توجيه رسائل ذات مغازي متعددة، ويتم وضع هذه التقارير ثم ترويجها بطريقة التداول السري، بهدف منحها أعلى درجة من الأهمية في أعين القرّاء والمتابعين والمعنيين، وفيها من المواد ما يجعل الطرف المستهدف منها دولاً وجهات سياسية، وكأنها جزء من قطيع مسلوب الإرادة، وأنها مهما تململت أو حاولت مغادرة حالة الانكسار أو ما رُسم لها من الخطط، فإنها في نهاية المطاف خاضعة لقضاء الدول الكبرى وقدرها، مما يترك في نفوس المتلقين البسطاء، بل وأحيانا في نفوس سياسيين غير مقتدرين أقصى حالات الإحباط والانكسار، وهنا يتحقق نصر رخيص لم تطلق فيه رصاصة واحدة، بل لم ترتفع التهديدات بشن الحرب أو حشد الجيوش.
فالحرب يمكن خوضها بأدوات تمهيدية أخرى غير الطائرات أو الدبابات، أو حتى بعيدا عن تحريك الصواريخ والبوارج الحربية، بل باستخدام أقوى وسائل التأثير السياسي والنفسي في العدو، أي إخضاعه إلى إرادة الطرف الآخر، هذه الوسائل تتلخص بنزع إرادة القتال أو القدرة على المواجهة.
هذا ما نحاول الإحاطة ببعض جوانبه.
التهديد بالحرب بدلا من خوضها
يجب أن أثبّت أولاً أن الحرب، أية حرب، يقصد منها بالدرجة الأولى، كسر إرادة القتال لدى العدو من أجل سحبه إلى دائرة التفاوض، وصولا إلى اتفاقيات سلام حقيقي غير قابل للتهديد أو للنسف، لمجرد أن يشعر الطرف الآخر (أي المهزوم) أن موازين القوى تعدلت لصالحه، أو أن الطرف الذي حقق النصر ابتداءً قد مرّت به ظروف قاهرة محليا وإقليميا، أو أنه يعيش أزمة متعددة الأطراف، أي مع أكثر من طرف دولي بحيث أفقدته القدرة على المحافظة على ما حققه من مكاسب وانجازات سابقة.
الحرب ضمن هذا الفهم، قد لا تهدف إلى إذلال العدو أو الخصم أو تركيعه حتى إذا راود هذا الهدف مخيلة أحد الأطراف، بل لإشعاره أنه غير قادر على تهديد السلام الإقليمي أو الدولي متى ما أراد ذلك، استشعارا بتضخم القوة العسكرية التي يمتلكها وبالتالي يستطيع تهديد دول الجوار، ذلك أن الشعور بالذل يترك رغبة جارفة بالانتقام في حال تغير موازين القوى، ولنا في تجربة ألمانيا وما رافقها من شعور بالمهانة بعد توقيع اتفاقية فرساي، هذه الاتفاقية التي كانت نارا تحت الرماد سرعان ما أشعل نار الحرب العالمية الثانية، في عام 1940 عندما انهزمت فرنسا واحتل الألمان باريس، فقد حرص أدولف هتلر على الأخذ بالثأر لما لحق بألمانيا من ذل، فأصبحت عربة قطار الهدنة، رمزاً لإذلال فرنسا فقد جلس هتلر على مقعد المارشال فورش الذي كان قد فرض شروط السلام على ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وأملى هتلر شروطه القاسية على فرنسا المحتلة، ثم نقل عربة القطار إلى إحدى غابات ألمانيا وأحرقها هناك.
فعالم اليوم عالم صراعات متعددة منها ما هو صراع مصالح اقتصادية، وهو الراجح على غيره في خطط الدول الكبرى، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوربي، روسيا، الصين، اليابان، وغيرها من الدول الصاعدة، أو أيديولوجي ديني أو مذهبي أو غيرهما من النزعات الأيديولوجية، في الوقت الحاضر من دون أن نغفل العوامل الأخرى التي قد تستخدم كذرائع لشن الحروب، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وغيرها من العوامل التي تحاكي مشاعر الشعوب التي يراد زجها في تلك الحروب بالنيابة، أو الكشف عن أسلحة الدمار الشامل وتدميرها، أو بتهمة التعاون مع الإرهاب الدولي، وهذه هي الحجج التي ساقتها الولايات المتحدة لشن العدوان على العراق.
وللحرب مبادؤها التي لا يمكن كسبها من دون الالتزام بها، ولعل في مقدمة هذه المبادئ:
1 – تحديد العدو أو الأعداء ودرجات العداوة لكل منهم، والصديق أو الأصدقاء ودرجة صداقة كل منهم، ومن هم المحايدون ومن هو منهم الأقرب لطرفي النزاع، وفي هذه الحالة توضع الدراسات المعمقة لمعرفة كيفية تطوير علاقات الصداقة مع الأصدقاء لتشمل أبوابا جديدة من المصالح المشتركة، والبحث عن سبل تطوير العلاقات مع الأطراف المحايدة وتحويلها إلى دائرة الصداقة، وهنا تبرز قضية أساسية وهي أن الصداقة ومهما كانت متينة، فيجب ألا تزيل كل الحواجز بين الطرفين، فلكل دولة مصالح استراتيجية قد تتغير مع الوقت، ويصبح دخولها في أسرار الأمن القومي خطرا ماثلا بقوة، يجب أن تبقى حدود معلومة يحددها كل طرف لنفسه حتى مع أقرب أصدقائه وحلفائه إليه ومهما وصل مستوى العلاقات بين الطرفين.
2 – ليس عيبا أن تعتمد بعض البلدان في تحقيق مصالحها على سلبية العلاقات بين عدوين أحدهما ماثلٌ والآخر مؤجل، ولكن يجب على البلد الذي يريد أن يكون مستقلا استقلالا حقيقيا وذا سيادة، أن يلعب دورا سياسيا بارعا في تأجيج أسباب العداوة بين هذين العدوين، ولنأخذ مثلا على هذا النمط من السلوك، فيما يتعلق بالعراق هناك عدو ماثلٌ ويؤدى دورا تدميريا على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية وهو إيران، بما ينطوي عليه مشروعها من أهداف تاريخية تتعلق بإحياء الامبراطورية الفارسية، ومنها ما هو اقتصادي طمعا بثروات العراق الهائلة، ومنها ما هو سياسي اجتماعي مذهبي، يرمي إلى تسخير المذهب للوصول إلى الأهداف الأخرى بأقل الخسائر والتضحيات.
وهناك أعداء آخرون لا يقلون شراً عن الدور الإيراني بل هم الذين مهدوا له الطريق ليقوم بكل ما قام به من تخريب للنفوس، وخاصة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والاتحاد الأوربي، فإذا حصل ضغط سياسي واقتصادي على إيران عدونا الأول في هذه المرحلة، فقطعا من المنطقي ألا نكون طرفا في معارك إيران السياسية والإعلامية التي تخوضها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، سواء بسبب برنامجها النووي أو بسبب التهديد الذي تمثله أذرع إيران على إسرائيل، وليس علينا أن نتبنى مواقف إيران وخاصة ما يتصل بنيتها الحصول على السلاح النووي، الموجه أصلا ضد العرب بهدف إخضاعهم للوصاية الإيرانية، فلسنا دولة كبرى كي يكون من حقنا أو من واجبنا أن نعطي رأينا بكل ما يحيط بنا من أحداث، بل لا مانع من تغطية مثل هذه الاحتكاكات أو الاشتباكات الساخنة بلغة مهنية بعيدة عن الانحياز إلى أي من طرفي النزاع، مع حرفية عالية لتغطية الأحداث بين الأطراف المتخاصمة بحرب باردة وإبراز أوجه الخلاف بينهما، والعمل على تسخينها، لأنهم جميعا أعداء لنا، ولهذا يحصل خلط عند البعض عندما يتصورون أن هذا السلوك يعني استجداء النصرة الخارجية، بقدر ما هو تعامل مع فخار يكسر بعضه بعضاً.
3 - لا يجوز التهديد بالحرب ما لم يوفر من يُهدد كل مستلزمات تنفيذ التهديد فعلا، بعد إجراء حسابات شاملة لكل شروط المواجهة، وبشرط أولي هو الجديّة في خوض الحرب في حال وقوعها والقدرة الذاتية المنفردة على ذلك، ولا يجوز التهديد بالحرب إذا لم تتوفر لها كل أسباب النصر، لأن العدو هو صاحب المصلحة بتحديد التوقيت، من خلال توفير أجواء الاستدراج لتوتير الأجواء لشن الحرب، لأن العدو ما أقدم على ذلك لو لم يكن مستعدا لها أصلا فالتراجع عن التهديد بالحرب سيعد هزيمة قبل نشوب الحرب.
4 – يجب على من يخطط لشن الحرب أن يرفع صوته عاليا داعيا إلى السلام والعلاقات الودية مع الطرف الآخر، على أسس من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، متزامناً مع أعلى درجات الاستعدادات الحرب، ولنا في تجربة الحرب بين الهند والباكستان عام 1971 والتي أدت إلى انفصال باكستان الشرقية وقيام دولة بنغلاديش، عندها كانت أنديرا غاندي تجوب دول العالم عارضة رغبة بلادها بالسلام، لكن باكستان ما تزال تصر على تغليب لغة الحرب، وطرد المواطنين البنغاليين إلى الهند مما يعنى تفاقم أزمات السكان في الهند لاسيما مع تفجر في زيادة السكان وقلة الموارد، كانت ترتدي الساري الهندي الجميل، ورئيس الأركان الهندي يضع اللمسات الأخيرة لخطة غزو باكستان الشرقية، وهذا ما تحقق فعلا بعد أن هيأت الأجواء النفسية والسياسية لشعوب العالم لقبول فكرة انتصار الديمقراطية الهندية على الدكتاتورية الباكستانية.
5 – إن الاعتماد على وعود قوى خارجية مهما كانت قوتها أو درجة التحالف معها لن يؤدي إلى ترجيح كفة الدول المحاربة، بل قد يجعلها عرضة لخذلان في الأوقات الحرجة، كما حصل للعراق عام 1980 عندما خذله الاتحاد السوفيتي وأوقف امدادات السلاح المتعاقد عليها بين الطرفين ومدفوعة القيمة سلفاً، خلاصة القول إن الاعتماد على تأييد قوى خارجية ليس مضموناً من جهة ولأنه مرتبط بشروط سياسية وتوازنات دولية سريعة التغير.
6 – يجب توفير مستلزمات الحرب بشريا واقتصاديا وعسكريا وطبيا، وعلى الأصعدة السياسية والاجتماعية، مهما كان التوقع بطول مدتها على ألا تتوقع القيادة أنها ستكون نزهة قصيرة أو محدودة التكاليف، لأن الرصاصة الأولى عندما تنطلق فإنها ستكون الإطلاقة الأولى وحسب، فمن يبدأ الحرب ليس بالضرورة هو القادر على إنهائها ما لم يمتلك القوة القادرة على سحق العدو وإيصاله إلى الحالة التي لا يجد خيارا آخر غير الاستجابة لشروط السلام.
ولكن كم من القذائف والصواريخ ستتبع انطلاق الرصاصة الأولى؟ لا أحدّ يمتلك القدرة على إعطاء الإجابة الشافية عن مثل هذا السؤال، لأنه يقع تحت طائلة علم الغيب، لأن أطرافا خارجية ستجد لها مصالح مختلفة في إدامة المعارك وتعويض الأسلحة والعتاد الحربي لطرفي او أطراف النزاع، كما أن قوى داخلية قد تجد في إنهاء الحرب إذلالاً للكرامة الوطنية، وهناك أطرافٍ ترى أن مصلحتها في استمرار الحرب لعوامل عديدة، من دون أن تنحاز لأي طرف في الحرب، وهذا الصنف يمكن أن ينطبق عليهم وصف "تجار الحروب"، الذين تنتعش تجارتهم من غير أن يعطوا اهمية للخسائر الناجمة عنها او للتهديد المحتمل على الامن والاستقرار الاقليميين او الدوليين.
في الطرف الآخر من المعادلة قد يجد الطرف الذي كان يظن أنه كان على وشك تحقيق نصر كبير وتم حرمانه منه، انه فقد كثيراً من مكانته وتأثيره في المنطقة الإقليمية، لأنه سيجد في نهاية الحرب هزيمة مخففة بدلا من نصر محقق كان قاب قوسين أو أدنى.
هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فإن كل من يشعر أن إيقاف المعارك سيلحق به ضررا مباشرا، أما لأسباب استراتيجية أو غير ذلك، فهناك جهات تريد للطرفين المتحاربين استمرارهما في القتال، لأن الحرب إذا تواصل دوران عجلتها فسوف يتحقق إسترخاء امني لها، لأن قوتهما تشكل خطرا عليها، أو لأن البعض يشعر أن استمرار المعارك يعني مزيدا من توريدات السلاح والعتاد الحربي، فالحرب أكبر محرقة لكل أنواع العتاد الحربي، خاصة في حال دخول أنواع جديدة من السلاح، ثم إن كل البلدان المنتجة للسلاح تحاول أن تحدّث ترسانتها العسكرية عن طريق التخلص من الأجيال القديمة التي تحتفظ بها، وتجربة النوعيات الجديدة في ميادين القتال ومعرفة فاعليتها في التدمير، لذلك فإن الطرق المفضية إلى الحرب سالكة على الدوام، أما السلام فلطالما واجه طريقه المزيد من العراقيل والمطبات والعثرات.
فإذا كانت الحرب صراع إرادات وصفحة من صفحات الدبلوماسية الساخنة، فإن التفاوض يعد من وجهة نظر متزايدة، آخر صفحة من صفحات العمل السياسي والدبلوماسي بين الدول، لا سيما مع دخول الحروب الاقتصادية والتكنولوجية والإلكترونية وحروب الوكلاء وحروب النيابة على خط حروب الجيل الراهن، لهذا فإن الطرف الذي يشعر بقوة على الأرض، يجب أن يعزز من تلك القوة قبل الدخول في حوار أو مشاورات أو مفاوضات إنهاء الحرب والنزاع وهناك شروط مهمة يجب وضعها نصب العين وهي:
1 - على الأقل يجب ألا تكون كفة القوة تميل لصالح الطرف الآخر، فالحرص على التكافؤ هو أهم شروط الدخول إلى قاعة المفاوضات وإلا فإن طرفاً واحداً سيُملي شروطه على الطرف أو الأطراف الأخرى، وحينذاك ستكون المفاوضات وكأنها تجري بين وفد ونفسه وليس مع طرف معادٍ.
2 – يجب إشعار الطرف أو الأطراف الأخرى قولاً وعملاً، بأن الدخول في الحوار أو المفاوضات ليس عن ضعف، وإنما عن رغبة في سلام دائم، فالحوار أو المفاوضات يجب أن يستندا على استعداد لعمل عسكري تدعمه قوة عسكرية حقيقية على الأرض، وليس مجرد أمنية، وهذا لا يتم بالقول فقط، وإنما بجهد منسق على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
يجب إيصال الطرف الآخر إلى يقين باستحالة تحقيق أهدافه عن طريق الحرب، لأن المقابل لا يمكن أن يمنحه هذه الفرصة وأن الرغبة بالسلام لا تعني الضعف بقدر ما تعني رغبة في سلام دائم، مبني على أسس راسخة أهمها المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واهم شيء توازن الردع أو التفوق النسبي للطرف المتجه نحو السلام.
ليس من الحكمة الحديث عن سلام غامض بين قوتين غير متكافئتين في القدرات التسليحية، وما لم يتحقق الردع المتبادل فإن من العبث طرح أية أفكار عن سلام دائم بين المتنازعين، مع اشتراط ألا يكون مصدر السلاح خارجياً، بل يجب العمل على برامج تصنيع للسلاح وطنياً، من أجل تحقيق الاستقلال في هذا المجال، وكي لا تبقى إرادة بلد ما رهناً لمساومات خارجية بين أطرف لا يمكن التنبؤ بإمكانية توصلها إلى اتفاقات سرية مع العدو، فالمصالح متحركة والعلاقات بين الدول أسرع في متغيراتها التي قد تفاجئ أكثر المحللين السياسيين حنكة وفطنة.
وما لم يمتلك طرفا النزاع أسلحة متكافئة في قوتها التدميرية ووسائل إيصالها إلى أهدافها المرسومة، فإن أي حديث عن عقد اتفاقات سلام طويل الأمد سيكون عرضة لهزات وهزات ارتدادية لا يمكن التحكم بها، ولنا في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية START 1)) الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عام 1991 بعد أن كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ريغان قد عرضها لأول مرة في عام 1982، أي أن الطرفين احتاجا إلى تسعة أعوام في مفاوضات عسيرة ومساومات واستعراض القدرات التقنية في أسلحتهما المصنوعة من قبلهما وليس المستوردة من طرف خارجي، فيمكن أن تتبدل العلاقات مع الطرف المورد للسلاح وينحاز إلى الطرف الآخر، فيستخدم تجارة السلاح كأبرز أدوات الضغط في أية مفاوضات محتملة.