من صفحات الأسر
نزار السامرائي
من صفحات الأسر
حياة الأسرى العراقيين في سجون إيران الموحشة، تحكي قصصا نادرة من الثبات على المبادئ وقسم الولاء للعراق، وبالمقابل هناك قصص مخزية حمل عارها نفر من الخونة والعملاء الذين ضعفت قلوبهم مع أول تهديد أو أول سوط وقع على ظهورهم.
علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، فذلك لن ينتقص من النصر العراقي العظيم الذي تحقق يوم 8 /8 /1988، بل ربما يزيد من تألقه، ذلك أن جيشا يحمل نبل الانتماء للعراق، ينتصر على بلد يزيد عدد سكانه على ثلاثة أضعاف سكان العراق، ومساحته تعطيه عمقا استراتيجيا ليس للعراق مثله، فعوَض العراقُ عمقه الاستراتيجي بأجساد رجاله الشجعان النادري الوجود، وعوض التباين في عدد السكان في أن العراقي كان قادرا ليس على مواجهة ثلاثة مقاتلين إيرانيين فقط، بل على إلحاق الهزيمة بعشرة من أعدائه، وببطولة جنوده، حول جماجم جنود العدو إلى كرات يلعب بها أطفال العراق، فسقطت هيبة خامس جيش في العالم تحت أقدام جنود القادسية الثانية، حتى تجرّع خمينهم كأس السم بعد أن ظل يراهن على أن شعاراته الجوفاء قادرة على قهر العراقيين، فخاب فأله في أول منازلة حقيقية تُختبر شجاعة المحاربين على خط النار.
لم يكن هناك مقياس لثبات الرجال، لا على أساس الانتماء للحزب ولا لمدينة ما، ولا لدين أو مذهب أو عشيرة، مما عقّد الصورة على الدارسين وجعل مهمتهم في غاية المشقة، للخروج باستنتاج في إيجاد قاسم مشترك يجمع بين الساقطين في مستنقع الخيانة، ولكنني أجزم بعد كل هذا الزمن الذي مرّ أن الله وحده هو الذي منح القدرة على الصبر والتحمّل والمطاولة في مواجهة زنازين إيران الرهيبة، التي أشرف عليها قتلة محترفون امتهنوا حرفة التلذذ بعذابات الآخرين، فليس هناك معلومة يسعون للحصول عليها، وهل هناك معلومة ذات مغزى عسكري تبقى لها قيمة عند أسير بعد أسبوع أو شهر من أسره؟ فكيف إذا كانت سنة أو اثنتين أو عشر أو عشرين قد مضت على الأسير وهو يخضع للتعذيب، وما زال السؤال نفسه يتردد على ألسنة "المحققين"، هل تحب صدام حسين؟ من هو المعتدي؟ إلى آخر ما في جوف هؤلاء المحققين من قيح وكراهية وحقد.
وبقدر ما يخجل القلم من تدوين صور مخزية لتخاذل البعض، فهناك صور مشرّفة ومشرقة من بسالة الرجال الذين واجهوا وحشية البطش الإيراني ونذالة البعض من حملة الجنسية العراقية، هناك صور أخرى تتدافع الكلمات لترسم أعظم بطولات الثبات بوجه الجلادين المحترفين، وهنا أريد أن أسرد اليوم قصة تهز المشاعر لجسارة بطلها الذي لا أعرف اسمه مع الأسف الشديد، تقول القصة إن أحد معسكرات التسقيط وهو "ملعب تختي" في طهران والذي شهد أسوأ عمليات القهر والإرعاب، من أجل هز القناعات والشجاعة لدى الأسرى، وكان يشهد على مدار اليوم حفلات تعذيب يسمع أنين المُعذبين عن بعد لهول ما كانوا يتعرضون له، وقف شاب لم يتجاوز عمره العشرين سنة ونيف، عندما لاحظ اهتزاز البعض أمام هول ما يتعرضون له، فقال:
أنا كيولي أي (غجري)، وأنتم تعرفون سمعة الكيولي في المجتمع العراقي، نحن الكيولية معفّون من أداء الخدمة العسكرية، لأننا متنقلون من بيئة إلى أخرى وبلا وطن، ولا نحمل الجنسية العراقية وعملنا هو الطرب وهو مصدر رزقنا الوحيد، ولكنني أريد أن أخبركم بشيء ربما فات عليكم، أنا أول كيولي يساق إلى الخدمة العسكرية، ولأول مرة في حياتي أشعر أن لي وطنا الآن أحمل جنسيته وأدافع عنه، ولا تستطيعون تقدير فرحتي الكبرى عندما ارتديت الملابس العسكرية وسُقت إلى مركز التدريب مع بقية أخواني المجندين، ولما جئت إلى جبهة الحرب قطعت على نفسي عهدا ألا أخُيب ظن من منحني فرصة المواطنة لأول مرة، فقاتلت بكل ما أملك من قدرة وتركت ورائي كل تركة أهلي الذين كانت حرفتهم توفير فرص الأنس والطرب للناس المتعبين والباحثين عن اللذة، وأقسم لكم أن المرأة الكيولية لا تمنح جسدها لأحد مهما قدم لها من مغريات، بل تستخدم بعض الحركات الاستعراضية من أجل انتزاع النقود لإعالة أسرتها، هكذا كُتب لنا أن نعيش، فلا تمنحوا أنفسكم رخيصة لأحد مهما قدّم لكم، بعد أن شعرت بعراقيتي وأن القيادة كرمتني بهذا الشرف، فلن أخيب ظنها مهما تعرضت له، ولكن للأسف الشديد لم تمضِ علي في خدمتي العسكرية إلا سنتين وبضعة شهور حتى وقعت أسيرا ليس لأنني رغبت في ذلك، وإنما لأن فوجنا طُوق من كل الجهات، ولم نستسلم إلا بعد أن نفد عتادنا وعندما سقطت البندقية من أيدينا كانت بأعلى درجات السخونة، ولهذا وبعد أن رأيت العجب في معسكرات الأسر، فقد عاهدت نفسي ألا أخون العراق الذي منحني شرف ارتداء البدلة العسكرية وسلمني بندقة مع أربعة مخازن للدفاع عنه، لذلك أدعوكم وأنا الكيولي ألا تكونوا كيولية في السياسة والانتماء، فالعراق يستحق الدفاع عن شرفه وأرضه وسيادته وتحمل كل المشاق من أجله، فأتوسل إليكم ألا تخونوا وطنكم وتسقطوا في عيون كيولي.
ربما لم تكن هذه عباراته، ولكنه كان محدثا جريئا على ما نقل لي رفيق له في معسكر تختي، ونقل لي أن هذا "الكيولي" دفع ثمنا غاليا لتمسكه بوطنيته، وأُخذ إلى حفلات تعذيب، ووُضع في زنزانة انفرادية ومنع من الذهاب إلى المراحيض، وقطع عنه نصف الطعام المخصص للأسير الواحد، ومع ذلك كله بقي صامدا ولم ينل منه الخونة، يقول محدثي، إنه ترك المعسكر إلى معسكر آخر وانقطعت أخبار الكيولي العراقي الشريف.