استحضار الوضع العراقي حين نقرأ النصر الفلسطيني
منذ ساعتين
لقد حققت فلسطين القلب والروح، خلال 11 يوما، انجازا هائلا، كلل مواصلة النضال، بتكلفة نعرف جيدا أنها باهظة.
أراد العدو، خلالها، أن تكون حياة الأطفال والكبار حجرا يُثقل الاحساس بالكرامة والحرية، فيجّر الشعب الذي قارع الاحتلال والظلم والاستهانة على مدى 73 عاما، الى قاع الاحباط واليأس والاستسلام، ففشل. استخدم العدو، بالإضافة إلى القوة العسكرية، كل آليات الخداع والتزييف. من تصنيف الفلسطيني إرهابيا الى اختزال الاحتلال وارهابه الى « نزاع» بين إسرائيل الأوروبية الديمقراطية وحماس الإرهابية، الى التذكير المستمر بمعاداة السامية ومظلومية المحرقة. وكأن الفلسطيني هو الذي قاد الأوروبي اليهودي الى المحرقة، وليس الاوروبي النازي، فتوّجب لتحقيق العدالة، وفق منظور الكيان الصهيوني، تجميع الحطب لحرق الفلسطيني.
أثبتت مجزرة 11 يوما الأخيرة هشاشة هذه المحاججة، وليس محوها تماما. فهي معين ضروري لاستمرارية الوجود الصهيوني. دٌفن بعضها تحت ركام المباني التي هدمها القصف المنهجي ومعه ملامح الهالة الإعلامية التي نسجها الصهاينة عن «حق الدفاع عن النفس» وانتقائية حق الحياة لكيان بُني على أغتصاب أرض وتهجير شعب وسياسة الإبادة. أوقفت ايام القتل الوحشي الكيان الصهيوني عاريا أمام العالم : قوة استعمارية عنصرية، بدعم من امبريالية تتغذى على الاستغلال والحكام المستبدين.
إزاء ذلك العري، تعالت الأصوات المطالبة بالعدالة. بمختلف الأساليب والإمكانيات. من النزول الى الشارع الى الهاشتاغ وكل مواقع التواصل الاجتماعي. من الكتابة واجراء المقابلات والندوات مع المحاصرين في غزة وشيخ جراح عبر الزوم الى الغناء وأناشيد الاطفال الى الابتسامة والضحكة بوجه من يريد قتل الابتسامة والضحكة. لم تعد المقاومة المسلحة ومن جهة واحدة هي السلاح الوحيد. اتفق الجميع في فلسطين اولا وفي أرجاء العالم ثانيا، على دفع الخلافات جانبا، وأن يعيدوا لجوهر النضال ألقه: لكي تصبح فلسطين حرة، كما تهتف الأصوات وتُرفع الشعارات، فلسطين بحاجة الى كل مستويات المقاومة.
لقد حققت فلسطين القلب والروح انجازا هائلا تبدى بخروج مئات الآلاف من الناشطين والمؤيدين، من جميع أرجاء العالم الى الشوارع تضامنا مع الحق الفلسطيني بالتحرير. جمعهم تكبير «فلسطين حرة». من البلاد العربية الى اوروبا وأمريكا اللاتينية الى أمريكا. مع كل صوت وكل فعل تضامني مع نضال الشعب داخل فلسطين، يترهل خطاب «معاداة السامية» و«الإسلاموفوبيا» الذي يصب العرب والمسلمين عموماً في قالب الإرهاب والهمجية. وتتعرى السردية الصهيونية. هذا ما عشناه، في الاسبوعين الأخيرين، فكيف البناء على هذه الأرضية الخصبة من التضامن مع الصامدين؟ كيف نسقي النبتة لتنمو وتتبرعم وتزدهر ؟ كيف نجنبها الجفاف؟
يأتي التساؤل مشوبا بالمخاوف والحرص على ما أُنجز واستعادة تفاصيل، تحمل بعض الشبه من الماضي القريب. تفاصيل ايام الاحتجاجات المليونية المناهضة لغزو العراق، والتضامن العالمي المذهل الذي سبق الاحتلال في آذار/ مارس 2003.
- اقتباس :
مع كل صوت وكل فعل تضامني مع نضال الشعب داخل فلسطين، يترهل خطاب «معاداة السامية» و«الإسلاموفوبيا» الذي يصب العرب والمسلمين عموماً في قالب الإرهاب والهمجية، وتتعرى السردية الصهيونية
أيامها، خرج الى الشوارع 35 مليون مواطن عربي وعالمي احتجاجا وغضبا ضد مخطط الإدارة الأمريكية لغزو العراق وتضامنا مع الشعب العراقي. احتل المتظاهرون الشوارع بعدة مدن عربية من بينها ليبيا ومصر ولبنان والأردن وسوريا وتونس والمغرب. ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين و«قوات مكافحة الشغب» في القاهرة والأردن. هدفت المظاهرات الى محاصرة السفارتين الأمريكية والبريطانية، وقام المتظاهرون بحرق العلم الأمريكي. كما طالبوا، في عدد من الدول، من بينها مصر، بطرد سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. ووحدت ادانة «الصمت العربي» المحتجين، باستثناء مدن الدول الخليجية التي خلت من المتظاهرين. عالميا، احتشد في شوارع أثينا أكثر من مئتي ألف متظاهر، كان من بينهم ( كما في مظاهرات التضامن مع فلسطين) عدد كبير من الطلاب وصفوا الرئيس الأمريكي جورج بوش «بالقاتل» ( كما يتم وصف نتنياهو حاليا). في اليوم نفسه كانت هناك مظاهرات في باكستان، ومدن أستراليا، وإندونيسيا وأنقرة، وموسكو وباريس وعديد المدن الألمانية. وتظاهر آلاف الطلاب الذين أضربوا عن الدراسة في الدنمارك وسويسرا وإسبانيا ونيويورك، وأعلنت النقابات العمالية الاضراب في إيطاليا. وتم تشديد إجراءات الأمن المفروضة على السفارات والقنصليات الأمريكية حول العالم ( كما سفارات الكيان الصهيوني المخندقة حاليا).
استمدت الحركة التضامنية العربية ـ العالمية قوتها من المقاومة العراقية، المعادل الموضوعي للاحتلال. كانت التكلفة، كما في فلسطين، باهظة الثمن. واتهمت المقاومة، كما في فلسطين، بالإرهاب. وتسلل الى النسغ الوطني داء التمزيق الاستعماري الجديد: الطائفي – العرقي المعجون بالفساد والعملاء المحليين.
وعلى الرغم من نجاح المقاومة في وقف توسع المد الامبريالي الى دول أخرى وحققت ما تنبأ به النائب البريطاني جورج غالاوي، أثناء المظاهرات، قائلا: «إذا بعث بوش نصف مليون جندي إلى العراق، جميعهم من الأمريكيين، لا يسانده غير رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، فسينتهي به الأمر في الجحيم وسيعود الكثير من الأمريكيين إلى بلادهم في حقائب بلاستيكية» الا أن المقاومة لم تنتصر. وكانت نقطة الضعف الكبرى هي عدم توصل فصائل المقاومة الى اتفاق للعمل سوية من أجل التحرر الوطني. استغل العدو نقطة الضعف هذه، مع تنصيب ودعم حكومات تدين بولائها له. فأدى غياب الاتفاق الوطني، وتوسع حلقة المستفيدين من النظام الطائفي الفاسد، الى تفريخ احتلالين بدلا من احتلال واحد. وتحولت أرض العراق الى ساحة لاستعراض القوة والتفاوض بينهما، بينما يلوك ساسة النظام علكة « الديمقراطية» في البرلمان، وأجهزة الإعلام، ومؤتمرات الدول المانحة، وبرامج الإعمار، وورشات اعداد القياديين، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحاربة الارهاب. دفع العراقيون ثمن هذه التوليفة السامة ما يزيد على المليون مواطن خلال 18 عاما، ولم تُسدد فاتورة الحساب بعد، اعتقالا وتعذيبا واختطافا وقتلا، غالبا، ما يتم تصويره ونشره ترويعا لكل من يحاول رفع كمامة الاختناق عن فمه.
إن استحضار الوضع العراقي بنقاط قوته وضعفه، بمقاومته وعملائه، بما أحاطه من تزييف وأكاذيب لتبرير غزوه واحتلاله، واستقطابه حملات التضامن الشعبي العربي والعالمي، لا يعني بالضرورة تطابقه مع الوضع الفلسطيني، إلا أن هناك بعض الملامح العامة التي قد يكون من المفيد القاء نظرة عليها، اذا ما أردنا ديمومة الانجاز الفلسطيني حتى النصر وتحويل ايماننا بالعدالة والحرية الى واقع بلا احتلال.
كاتبة من العراق