إزار أم محمد ومعنى تمكين المرأة العراقية
منذ 6 ساعات
اذا كان المفترض من انتشار وباء فيروس كورونا هو اقامة الجدران الكونكريتية حول الأفراد والمجتمعات، بين الدول، في أرجاء العالم، بذريعة «التباعد الاجتماعي» فان الإنسان الذي طالما عُّرِف بأنه حيوان اجتماعي، نجح بحفر ثقوب في الجدران، ليتواصل مع أبناء جنسه، تأكيدا لهويته الاجتماعية. فصار بامكانه، وهو جالس في بيته، زيارة أبعد الأماكن في أقصى الكرة الأرضية ويلتقي بأشخاص ما كان يحلم بلقائهم، سابقا، جراء البعد الجغرافي أو التكلفة المادية أو الحظر السياسي. صار الـ«زوم» وآليات التواصل الاجتماعي الإلكترونية الاخرى نافذة مفتوحة للجميع، يطلون منها على عوالم، كانت في غرف مغلقة تسمى الدول، لا تُفتح ابوابها الا للنخبة ممن يتحكمون بنقاط التفتيش والحدود والرقابة.
عبر الزوم، كثرت اللقاءات والاجتماعات، بأنواعها. من الفردية الى العامة. فاتسع الفضاء العام، إيجابيا، للناشطين لتبادل الآراء وتشجيع المبادرات. لم يعد اطلاق كتاب من تأليف أسيرة فلسطينية محررة مقتصرا على دار النشر في مدينتها المحاصرة من قبل الصهيوني الاستيطاني، أو متابعة مبادرة إنسانية أو فنية محصورا في بقعة جغرافية لا يسمع بها أحد.
هذه الإمكانية الهائلة بالانفتاح وعبور حدود البلدان، وتجاوز قيود السفر ومخاوف نقل العدوى، نقلت مجموعة من المهتمين بالفنون اليدوية التقليدية، المنتمين الى بلدان مختلفة، الى مدينة البصرة، جنوب العراق. حيث أقامت كلية الفنون الجميلة، بجامعة البصرة أمسية للتعريف بـ (إزار أم محمد) أدارها الاستاذ ياسين يامي. والإزار أو «الشف» هو نوع من السجاد المنسوج، يدويا، ليستخدم اما للفرش على الارض أو الأسرة أو الارائك. وأم محمد (التفات خريجان) هي مديرة مشغل لإنتاج السجاد والبسط والأُزر في مدينة السماوة، جنوب العراق. تحدث في الامسية الفنان رشاد سليم وهو من اوائل مشجعي المشغل ومنتجاته.
يمثل المنتج الرائع للمشغل، بألوانه الزاهية المميزة للمنطقة، إحياء لموروث حرفي أصيل برسوم عفوية تماثل رسوم الاطفال وتصنيع يدوي بالغ الدقة. لا تتدخل فيه الآلة اطلاقا من لحظة تجميع صوف الغنم وغزله، الى تلوينه ونسجه.
- اقتباس :
مبادرات الأفراد في المؤسسات الحكومية، ومبادرات أصحاب الأعمال او العقارات، كما مبادرات الجامعات والمدارس، قد تكون أفضل ما يستطيعه البلد في ظروف خراب الدولة وسياسييها
ويستغرق العمل في السجادة الواحدة أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر. يعاني المشغل، على الرغم من حرارة الاعجاب بالتجربة والمنتوج، عدة مشاكل. أهمها قلة الرعاية والاهتمام، وضعف التسويق وتراكم الانتاج. مما يؤثر بشكل سلبي على حياة النسّاجات ومستوى العيش الكريم، اذ ان أغلبهن من الأرامل والمطلقات والمعوزات اللواتي يعتمدن، بشكل أساسي، على ما يدره عملهن، الذي لا يختلف اثنان في قيمته الجمالية والتراثية وصعوبة انجازه. فاذا كان المنتج، بهذه الأهمية، كما تحدث عنه منظمو الأمسية والمشاركون فيها باعجاب وحماس، فلم لا يتم تبني المشروع حكوميا، وتوفير الدعم له من ناحيتي الترويج والتسويق؟ خاصة وأنه مشغل تديره وتعمل فيه مجموعة من النساء، كما تتلقى فيه نساء أخريات التدريب العملي، لما قد يكون سلسلة من ورشات تدريب وتوفير فرص العمل للنساء في مدن أخرى؟ وهي نقطة مهمة جدا. اذ أن معدل البطالة مرتفع في العراق، ومازال معدل المشاركة في قوة العمل متدنيا، لاسيما بين النساء والشباب. فحسب تقرير للبنك الدولي لا يشارك في قوة العمل سوى 15 بالمئة، فقط، من النساء، في سن العمل. وهذه النسبة أقل من النسبة المتدنية، بالفعل، على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البالغة 22 بالمئة. وبالنسبة للشباب في الشريحة العمرية 15 – 29 سنة، نجد أن 72 بالمئة من النساء و18 بالمئة من الرجال إما خارج المدرسة أو لا يعملون. ويلخص البنك الدولي وضع المواطن المعيشي في البلد بأنه «تراجع التنمية البشرية ومؤشرات الخدمات العامة، ومعايير الرعاية الصحية، ومتوسط العمر، وجهود محو الأمية، وزيادة مؤشرات الفقر».
ولأن للمرأة النصيب الأكبر في التدهور التعليمي والصحي العام ووقوعها في براثن الفقر المدقع، وحاجتها الماسة الى العمل، أيا كان، في العراق اليوم، قد يتبادر الى الأذهان أن الجهات الرسمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الممولة دوليا، ستسارع الى تبني ودعم اي فرصة توفر للنساء التدريب والعمل، خاصة وأنها تصرف مبالغ خيالية على ادارة لقاءات وندوات في فنادق فخمة لمناقشة «تمكين المرأة».
ويكاد لا يخلو أي تقرير عن المرأة في الريف، التي تشكل حوالي ثلث نساء العراق، عن التوصية «بدعم المرأة الريفية من خلال منح القروض الصغيرة وتسويق الانتاج ودعم المنتجات الريفية والاعمال اليدوية». فما هو معنى «تمكين المرأة» إن لم يبدأ في مكان تجد فيه المرأة عملا تحقق فيه ذاتها، وتعبر فيه عن مشاعرها؟ هل هناك ما هو أكثر تمكينا للمرأة من عمل يهبها الافتخار بجمالية المنجز بالاضافة الى تحسين وضعها المادي؟ أليس من المفترض، في هذه الحالة، أن تحظى ورشة « إزار أم محمد « المعنية بتدريب نساء ريفيات على انجاز منتج فني تراثي، يدرأ الفقر، بالاضافة الى تعليمهن القراءة والكتابة، ويجدن فيه متنفسا للقاء والتواصل والتطور، بأولوية الدعم والتشجيع، وأن تكون الورشة نموذجا عمليا، نابعا من صميم المجتمع، يحتذى به في أرجاء البلد؟ أم ان هذا هو، بالضبط، ما لا يراد تحقيقه؟
أثناء أمسية الزوم تبرع علي الكناني، رئيس كلية الفنون الجميلة بالبصرة، بتوفير مكان لعرض منتجات الورشة في مجمع تجاري وتكريم أم محمد في الجامعة. وهي مبادرة مشجعة ستمد فنانات الورشة بالدعم المعنوي. وتبقى مشكلة الترويج والتسويق ازاء انتشار السجاد المستورد الأرخص سعرا لأنه مصنوع آليا. معالجة هذه المشكلة تحتاج حملة وطنية لدعم المنتوج الوطني وقبل ذلك رعايته وتدريب الجيل الجديد حرصا على استمراريته والتأكد من نوعيته. والى أن يتم ذلك، بامكان المسؤولين الافراد في الجهات الحكومية بما لديهم من مجال للقرار، في عديد الدوائر المحلية وفروع الوزارات والمديريات، اتخاذ خطوات بسيطة لن تكلفهم الكثير لكنها ستساهم بانقاذ ورشة الإزار واستمراريتها. تتلخص هذه الخطوة بشراء منتجات الورشة التي لا تضاهى بجمالها ودقة نسجها، وعفوية رسومها، وتوزيعها كهدايا لضيوف المؤتمرات الأجانب ( وما أكثر المؤتمرات الخاصة بالمرأة) بالاضافة الى توفير فرص عرضها في الاماكن السياحية والمطارات، او في تأثيث غرف ضيافتها كما نرى في بلدان المغرب العربي.
والموضوع الأوسع هنا أن مبادرات الأفراد في المؤسسات الحكومية، ومبادرات اصحاب الأعمال او العقارات، كما مبادرات الجامعات والمدارس، قد تكون أفضل ما يستطيعه البلد في ظروف خراب الدولة وسياسييها. فطاقات العراق في جميع ابنائه وبناته. وقد تكون المبادرات المحلية في كل مجال، من الاقتصاد الى الثقافة والخدمات، إذا انتشرت، من أهم مسارات تعافينا.
كاتبة من العراق