حضارة موت الانسان وحاجاتها
القس لوسيان جميل
[size=32]حضارة موت الانسان وحاجاتها:[/size]
اعزائي هذا المقال مستل من مقال كتبته على طلب الأخ العزيز الاستاذ جلال چرمگا، الذي طلب مني ان اكتب له شخصيا مقالا عن انجيل لوقا، او الانجيل الرابع. وقد شرعت بالكتابة عن هذا الانجيل الذي ليست الكتابة عنه سهلة وهينة. وقد بلغت كتابتي شوطا متقدما اكاد اقترب فيه من الجزء النهائي الأكثر اهمية وأبين فيه حقيقة لوقا وانجيله، حيث لا يمكن فهم هذا الانجيل الا اذا وضعناه ككتابة مكتوبة في زمن معين وفي حضارة معينة.
اما هذا المقال فهو مستل مما قد كتبته عن مقدمات لفهم انجيل لوقا وغيره من الأناجيل التي ليست مكتوبة على يد اي رسول معاصر ليسوع. هذا، وبما ان الأمر هو هكذا مع الأناجيل جميعها، حينئذ رأيت ان استل هذا المقال مما كتبته عن انجيل لوقا، واقدمه للنشر في مجلة كاردينيا الغراء، ضمن فكرة امكانية تتبع اي حدث من خلال التأويل والتأوين اللذين يحصلان بسبب التغييرات الحضارية. كما اني سأركز على المراحل المهمة في التغييرات الحضارية هذه لكي لا يحصل عندنا ما يسمى تجاهل نظرة الزمان Anachronisme وضياع المعنى الحقيقي لأي نص.
ادخال بعض المعلومات: غير اني اضطررت الى ادخال بعض المعلومات المهمة الأرشيفية الى الجزء المستل، لكي يكون المقال منسقا تنسيقا جيدا موسعا ومفهوما على المستوى العملي. من هذه المعلومات التي ادخلتها والتي ستصير متن المقال ولبه ما اكتبه في هذا المقال عن حضارة موت الانسان وحاجاتها. هذا فضلا عن ادخال بعض التطبيقات كأحداث واقعية لمعرفة ما نتحدث عنه، وليس لنقد رؤسائنا، لأن نقد الرؤساء له مجالات اخرى.
قبل الحضارة التي نمر بها: ولكن قبل ان اكتب عن الحضارة التي نمر بها، وهي حضارة موت الانسان وظهور الانسان المتفوق او السوبر مان Super Man ارى ان اعود الى الخلف لكي نرى مع بعضنا في اية حضارة كان يعيشها العالم في الغرب الروماني قبل ان يصل الى حضارة موت الله للفيلسوف نيتشه، وقبل ان نصل الى حضارتنا التي تتكلم عن موت الانسان ومجيء الانسان المتفوق او السوبرمان Super man.
حضارة سيطرة المادة ورمزها المقدس: فالانسان قبل ان تحصل عنده تطورات على مستوى البنى التحتية وعلى مستوى البنى العليا، كان يعيش في الغرب وفي الشرق حضارة غاطسة في الغيبية المادية وهيمنتها الكاملة،هذا، وسواء كان ذلك في الغرب ام في الشرق نرى انفسنا امام احداث تاريخية متماثلة Analogues. فقد تم انتقال البشرية عندنا في غرب البحر الأبيض المتوسط من الانسان الأول Homo sapiens الى حضارة القوميات ورموزها الآلهة الكثيرة، ثم تحول الانسان الى حضارة الاله الواحد مع شعب بني اسرائيل ( هنا اغض النظر عن التاريخ الأرشيفي ) وصار الناس يعبدون الاله الواحد وشرائعه، ولاسيما واننا نعرف انهم لم تكن لهم من حضارة انسانية غير حضارة ذلك الاله وشرائعه، كما حدث الأمر ذاته مع الله، اله العرب الواحد الذي قاد شعبه من خلال شريعة يعطيها ذلك الاله. غير ان شعب بني اسرائيل كان قد قام بوظيفته بشكل جيد، وكان الأنبياء الكبار والصغار قد اوصلوه الى مكانة مرموقة من جودة التعبير الانشائي، ولاسيما مع ايشعيا النبي. ثم وبعد سنين طويلة كان شعب بني اسرائيل قد شاخ واصبح كـ/ ليمونة معصورة لا ينفع بشيء لأحد، وكان الفساد قد دب في جسم ذلك النظام الذي جاء الرومان وقضوا عليه في سنة 70 ميلادية، الأمر الذي سهل على انتشار المسيحية في الشرق والغرب. لكننا نتكلم الآن عن مسيحية الغرب الرومانية فقط.
حضارة الغرب المسيحي: وهنا يكون علينا أن نلاحظ من خلال التاريخ بأن الغرب المسيحي الروماني كان غاطسا في حضارة كانت السيطرة فيها تعود للمادة وللالهيات ولاسيما قبل الثورة الفرنسية وحتى بعدها. كما كان يعتمد كثيرا على العقائد Dogmes كما يكون علينا ان نلاحظ شكل الغرب الروماني بعد الثورة البرتستانتية الاحتجاجية اللوثرية التي جاءت بعد مجيء الحضارة البورجوازية الصغيرة. ثم يجب ان نلاحظ كيف كانت قد صارت الحضارة الفرنسية الرومانية بعد ظهور الحركة الشيوعية في العالم الغربي اي في روسيا قبل ان تنتقل الى اجزاء اخرى من العالم. كما يجب ان نلاحظ كيف كان رجال الدين المسيحي وربما غير المسيحي ايضا، يُسخرون لاهوتهم السلفي لخدمة الحياة الاقطاعية. غير انه قد حدث تغيير حضاري حاسم في بداية العصور الحديثة مع فلسفة موت الله الخاصة بنيتشه حيث كانت فلسفة البداية والانطلاقة الأولى ظاهريا مع هذا الألماني الملحد، كما كانت تصفه الكنيسة حينذاك. هذا، مع اننا نعلم ان من يغير الحضارة هم من كانوا بحاجة الى التغيير الذي يبدأ بالتذمر، ثم ينتقل التذمر الى التكتل حيث يعتقد المتكتلون ان تكتلهم ينقذهم من حضارتهم القديمة المائتة بواسطة ثورة تاريحية. انها قاعدة انسانية كما نفهم ذلك من قواعد التغييرات الحضارية. وهكذا كان نيتشة فيلسوفا فرض نفسه على مجتمعه وتكلم باسمه علنا ولم يخلق هو الثورة التي كانت قد باتت ضرورة ملحة في ذلك الوقت.
في احد الأيام: ففي احد الأيام دخل نيتشه الى الكنيسة واخذ يصيح بأعلى صوته: الله مات. هذا وامعانا من نيتشه في الحاده وفي محاربة الأديان، كان نيتشه قد وضع وصية بيد اخته تقول: عندما اموت لا تطلبي قسا يأتي وينطق بخرافات على قبري في حين انني لن اكون قادرا عن الدفاع عن نفسي.غير ان بعض مفكري الكنيسة كانوا قد بدؤوا يقبلون ان تحدث تغييرات حضارية، ولاسيما فيما كان يخص الله السماوي، حيث انه في ذلك الوقت لم يكن احد يفكر في ان يكون الله في غير السماء. هذا، في حين ان المجددين منا اخذوا يتكلمون عن نسبية الرمز المقدس. سواء كان هذا الرمز في زمن نشاطه القوي ام كان في زمن شيخوخته وفشله في تأدية وظيفة الخلاص الأنثرولوجي. كما كان اولئك اللاهوتيون الكنسيون على قناعة بأنهم لن يستطيعوا ان يدافعوا عن لاهوت الكنيسة السلفي التقليدي المتضامن مع حضارة الاقطاع. ولذلك كان هؤلاء اللاهوتيون قد ردوا على نيتشه بقولهم: نعم الله قد مات لكن الذي مات ليس الاله كرمز ثابت انثروبولوجي موجود في البنية العليا Super structure للانسان الذي لا يمكن لأحد ان يلغيه او يميته او يتجاهله. فالذي كان قد مات، بحسب قول لاهوتيي الكنيسة في ذلك الوقت كان الرمز المقدس العائد لحضارة اقطاعية قديمة، في حين ان الله او ( الرمز المقدس ) لن يموت ابدا، لأنه سوف يحيا في الحضارة الجديدة التالية. وهكذا، ومن ذلك الوقت كانت قد نشأت فلسفة " موت الله، ولاهوت بهذا الاسم ايضا". علما بأن الأمور كانت قد تحسنت في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي ادخلنا الى الحضارات الجديدة ودعا الكنيسة الى المواكبة الحضارية.
ردة البابا بولص الثاني: اما ردة البابا يوحنا بولص الثاني الذي كان قد وضع قانون ردة حقيقية في الكنيسة واستطاع ان يفرضها على العالم كله بقبضة من حديد، فكانت ردة حقيقية ومؤذية للكنيسة، لأنها كانت تقول: ان " يسوع المسيح هو هو بالأمس واليوم والى الأبد. ان ردة يوحنا بولس الثاني وردة البابا بنيدكتس السادس عشر، الذي كان قد اتى بعده، لم تؤثر كثيرا على قاعدة التغييرات الحضارية المستمرة وان كانت تُعيق المسيرة الحضارية كثيرا او قليلا وتعيق ظهور الرموز الجديدة بدون خسائر كثيرة، واحيانا مع خسائر كثيرة وملحوظة. فالردات عمرها لن تعمل قاعدة حضارية جديدة، لأن تغيير الحضارات ليس بيد الأشخاص بل بيد مسيرة وسيرورة العالم التي تشبه سيرورة الكرة الأرضية في فلكها، وبيد الصيرورات الحضارية المتتابعة، كانت تحدث من مرحلة الى اخرى عندما كان يتم الزمان وتنضج الاستعدادات للثورة. وهنا نضيف ايضا حقيقة ان الباباوات الجيدين انفسهم ليسوا مبدعي الحضارات الجديدة بل هم خدام تلك الحضارات الجديدة التي تظهر بحسب قوانينها الحضارية الخاصة، بانتظار ان تزدهر وتبلغ مرحلة الكهولة ثم مرحلة الشيخوخة ثم الموت الذي يحصل بعامل داخلي او خارجي لا يمكن تحديده بسهولة حتى من قبل العلماء. علما ان احد عوامل التغيير في زمننا هو عامل ظهور بابا جديد يقبل التجديد، او حتى يحرض عليه اسمه البابا فرنسيس. هذا البابا الذي رعا الانقلاب الحضاري الجديد المناهض لحضارة عقائد القرن الرابع الميلادي، التي كان الكاردينال ملر واعوانه يحاولون ردع هذا البابا عن محاربة العقائد وتحرير الكنيسة منها، كما قال هو نفسه، في كتابة توجيهية. هذا، مه العلم بأن البابا فرنسيس له ضعفه الشخصي ايضاعلى الرغم من عظمته، حيث انه يحسب واهما بان كل الناس الجيدين او المدعوين الى الحياة الروحية الجديدة يجب ان يكونوا على شاكلته ونسخة اخرى من شخصه. يعني يكون عليهم ان يصلوا ورديته!!! وان لا يستخدموا العنف او الضغط على الآخرين لكي يستجيبوا للحقيقة التي يراها هو واضحة كالشمس. فالبابا فرنسيس يعوزه ان يعلم بدقة ان لكل انسان فرادته الخاصة به وله طريقة ممارسته المحبة الرسولية الخاصة به، اذا كان قسيسا او حتى اسقفا.
التوجيهات التي عملها البابا فرنسيس للقسس.هذا وقد شاركني احد الأساقفة بتوجيهات عملها البابا فرنسيس للقس كانت مليئة بالتشبع من الكتاب المقدس ومليئة بحياة صلاة يحسب البابا فرنسيس انها تعين القسيس على النجاح في مهمته الرسولية. ملوها بأن من لا يصلي ولا يكون رجل صلاة لابد انه سيفشل. علما بأن البابا فرنسيس قد اعلن البابا يوحنا بولس قديسا على مبدأ انه كان رجل صلاة. هنا فقط الاحظ نقطة مهمة وهي ان البابا يوحنا الثاني قد صار قديسا لمجرد انه كان بابا يصلي كثيرا اي كان رجل صلاة. ولكن انا لا افهم بابا يصلي كثيرا وفي نفس الوقت يعطي للكنيسة الجامعة مبدأ عقائديا يقول: المسيح هو هو بالأمس واليوم والى الأبد. ان هذا المسيح ليس اكثر من مسيح مفبرك في زمن دولة قسطنطين الملك التي كانت تعاني مشاكل اجتماعية كثيرة. فماذا كان يكون هذا البابا اذا كان لا يصلي؟ وماذا كان يعمل اكثر من ان يتفق مع السيد بوش العدواني على عدم ذكر مسألة احتلال العراق، وماذا كان يعمل اكثر من ان يعلن سيدة بوش الأولى ملكة الكون؟! فالصلاة هي شرط من شروط النجاح القسسي والأسقفي، شرط ان نعرف ان ما كل صلاة هي صلاة حقيقية، تساعد على النجاح.
انا والبابا فرنسيس اولاد العم: اقول نعم انا والبابا فرنسيس اولاد العم، لكننا لسنا اخوة ولا توائم متآخية او متماثلة. فأنا مثل البابا فرنسيس كنت ثائرا ضد التقاليد البالية وضد العقائد الأسطورية، غير اني كانت لي روحيتي الخاصة التي لا تشبه روحية البابا فرنسيس، ولم اترك الأمور للزمن، ولم اكن ضعيفا مثله في تطبيق ما هو عدل وحق، ولكن من دون تعنيف مؤلم، حتى مع بعض المجنونات اللواتي كانت تصر علنا على البقاء كما كانت قبل عشرين سنة مثلا. اما من ناحية الهجرة فكنت اقول في الكنيسة بأن لكل انسان الحق في ان يعيش حيث يريد ولكن دون ان يلاجأ الى طرق غير اخلاقية من اجل ان يسافر الى الولايات المتحدة. في الحقيقة لم يكن بيدي كمسؤول في كنيسة رائعة ان اترك هؤلاء يشوهون اخلاق الأخرين ويصبحوا حجر عثرة اخلاثية ميكيافلية للآخرين. هذا وبديهي انني لم اكن اذكر اسم من كان يمكن ان يصبح حجر عثرة لمسيحيينا. هل نجحت بشكل كافٍ؟ لا اعتقد. عرفت ان الناس كانوا يعملون لأنفسهم ما كانوا يسمونه " قصة " تقنع الأمريكان بأنهم كانوا على خطر داهم على انفسهم او على عائلاتهم او احد اقابهم القريبين، ولم يكونوا عادة يكتفون بالسبب العام، اي التهجير الجماعي من قبل داهش ونهب البيوت من قبل العرب المحليين.
واذن فما كنت قد عملته في تلكيف كان يعتمد على وسيلة اخرى غير تلك التي يقترحها البابا فرنسيس للقسس ويحرض عليها بطريقة تشبه روحانيات اهل الصوامع. ما اراه هو انه لا يمكن تحويل القس الى راهب يسكن الدير.انا لا افهم: ترى هل ممكن ان يكون مثل هذا القسيس وحتى مثل هذا المطران موجودا في زماننا حيث لم يعد احد يؤمن باله سماوي وبيسوع جالس عن يمين الله الآب، وبالجنة والنار؟ ان ما اعرفه هو ان اهل الدير انفسهم اخذوا يتمتعون بقسط من الحرية.
واذن: واذن ان من يسند القسيس او حتى المطران في عملهم الرسولي ليكون عملا ناجحا هو انسانيته الخيرة التي تعمل ما تعمله بدافع المحبة للخير وليس من اجل " طمع في الجنة وبسبب خوف من جهنم"، كما تقول المتصوفة المسيحيون ورابعة العدوية عند المسلمين.
في زمننا اذن: ثم علينا ان نعرف ايضا ان نسيج اي قسيس لا يكمل بالصلاة وببضعة اعمال جيدة فقط، ولكن بسلسلة من الأعمال اليومية التي تجعل الرعية بدون وعي ولا تصميم منها تحب قسيسها وتلتف حوله وتستفيد منه. اما الوحدة بين القسيس والرعية، ولاسيما بينه وبين الشبيبة فلا تكمل الا بعد حياة قوامها الاستعداد الدائم لخدمة الرعية ولاسيما خدمة الشبيبة. ويقينا لا يمكن ان يحصل اندماج بين الراعي وبين الشبيبة الا من خلال اجتماعات وندوات متواصلة تأتي بروح اخوية حقيقية، بحيث لا يتردد اي اخ او اخت في طلب اي موضوع للمناقشة والحوار الحر.
فضلا عن ذلك: وفضلا عن ذلك فاني بتجربتي الخاصة ارى ان السفرات الكثيرة التي كنا نقوم بها لمختلف فئات الرعية كانت خير عون لايجاد لحمة بين الراعي ورعيته بحيث مهما حصل واينما يكون الراعي واينما تكون رعيته، فلا تنسى الأيام التي قضوها سوية ابدا. ففي احد الأيام كنت قد ذهبت الى تلكيف ثم مررت بالكنيسة. هناك سحبنا اختي واخي والآب شربيل صورة تذكارية لزيارتنا الكنيسة بعد انحسار موجة داعش. هذا وفي غفلة منا ايضا وضع الأب شربيل صورتنا على الفيس بوك. واذا فيس بوك الأب شربيل يُمطر ب/ 176 تعليقا ولا اجمل منها. بعضها كان من تلاميذي في الدورة اللاهوتية حيث قال احدهم: اين كنا واين صرنا. اما التعليق الأقوى فقد جاءني من طبيبة تلكيفية ومن عائلة صديقة تقول: لقد افتقدناك يا ابونا. ثم حذا السيد سفيان جربوع حذو الأب شربيل ووضع صورتي مع تعليق صغير على الفيس بوك عنده، فحصل على 176 تعليقا ايضا. فضلا عن 400 من شرائح مختلفة. الأمر الذي يشهد على ان الوحدة التي كانت موجودة بين الراعي والرعية لا تنسى ابدا، ويستحيل فصمها حتى بعد موت الراعي لزمن محدد. فهذه الوحدة الروحية الانسانية بين الراعي والرعية لا يمكن ان تكون وحدة من قبل الرعية فقط من دون الراعي، كما لا يمكن ان تكون وحدة في خيال الراعي من دون الرعية. وهنا اود ان اذكر شيئا مهما من خبرتي الشخصية. فأنا، ومعذرة من كلمة انا، لا ارى في السفرات الكثيرة التي كنت اعملها لمختلف الفئات كأنها كانت سفرات يعملها الراعي لاراحة واسعاد رعيته طلبا لكسبها. كما يعمل راعي الغنم عندما يفتش عن مكان فيه مرعى كثير. فالبشر ليسوا غنما، انهم بشر ولهم طبع البشر الأنثروبولوجي. ولذلك اقول: لو كانت سفراتنا قد عملناها بهذا الروح، كان يمكن ان تكون سفرات جيدة فقط، ولكن سفراتنا التي كنا نعملها كانت من نوع آخر تماما. ان سفراتنا الحقيقية كانت سفرات ترتاح لها الرعية كما يرتاح لها الراعي ايضا، وتزيد الرعية محبة وانسجاما ويزداد الراعي ايضا من تلك السفرات محبة لعمله وللأخوات والاخوة فردا فردا. حقيقة لم يكن احد مُهمَلا من بيننا، لا من قبل الراعي ولا من قبل افراد الرعية نفسها. يعني كنا كعائلة ايمانية وانسانية واحدة.
واذن: واذن ان هذه السفرات كانت مكانا خصبا لحدوث وحدة حقيقية انسانية روحية بين الراعي والرعية من جهة، وبين افراد الرعية مجتمعين في وحدة واحدة مع بعضهم. نحن لا نستغرب ان يقول البعض: آه كم كانت تلك الأيام حلوة ولذيذة. القس لوسيان وبشكل تلقائي كان قد حول البشر من تجمع اجتماعي صرف الى تجمع انساني روحي عميق، دام نوعا ما في بلدان المهجر، ولاسيما في ميشيكن – الولايات المتحدة. ان بعض اجتمعاتنا في الندوات في الكنيسة غالبا ما كانت ترتدي هذا الطابع الأخوي الروحي ايضا. لقد كان روح الوحدة والأخوة سائدا بين الكل. ففي بعض الندوات كنا نعمل دنبلة بهدايا رمزية مثل الميداليات وكانت الجماعة، بعد محاضرة الندوة تعمل ما يسمى صولجانن التعارف، فتسحب ورقة ويقال مثلا: من هو اطول رجل بيننا فيختار الجمع اطول واحد يصفق له الجميع. وتقول الورقة الأخرى من هي صاحبة اجمل تسريحة فيقول الجميع بعفوية: فلانة ويصفقون لها. وتصسحب ورقة ايضا تقول من هو صاحب اجمل عيون ويختار الجميع بقولهم: ابونا. ويصفق له الجميع. ثم الا يقال بأن الانسان يصير حدادا بالحدادة؟ Fabricando fit Faber، وبالتدريس يصير المدرس عالما. ترى الم يصبح القس لوسيان ماهرا في تدريس الفلسفة في اغلب فروعها من خلال تدريسه الفلسفة، والم يصبح القس لوسيان لاهوتيا معاصرا من خلال تدريسه هذه المادة؟ وهل استطاع مطراني المتعسف ان يمنعي بأن اكون ما انا عليه الآن؟ وهل كان يستطيع اصلا يحاول منعي لو كان قد عرف قواعد اللعبة الانسانية الحضارية؟ حقا لقد كنا مع بعضنا قد دخلنا سوية مدرسة الأخوة الروحية الانسانية.
نعم كان عملي متعبا جسديا: فنعم كان عملي متعبا مع من كنت اعمل معهم، ولاسيما اهل تلكيف منهم، غير ان هذا العمل المتعب كان في الوقت عينه عملا لذيذا، كما يحصل مع المرأة التي تتعب في تربية والسهرعلى وليدها ليلا ونهارا، الا ان اغلب الأمهات الجيدات ترى ان تعبها تعب لذيذ، حتى انها لا تسأم من البقاء في خدمة ابنها وليدا ومراهقا وشابا كهلا. فصلاة القس لوسيان اذن هي لا تنفصل عن عمله، لا بل ان عمله مع الرعية وحارج الرعية كان عملا وصلاة في الوقت عينه. القداس كان ايضا مناسبة حقيقية لصلاة حقيقية، ولاسيما بسبب الوعظ التوجيهي الذي كان يتخلله. ما اقوله الآن هو مسألة انسانية صرف. ولكن كما توجد دجاجات حنونات توجد ايضا دجاجات تقتل الفراخ وتطرها من تحت اجنحتها. عندنا مع شبيبتنا لم تحصل في اي يوم ان وجد بيننا اشخاص يعملون ضد الوحدة الروحية التي كانت بيننا. هنا لا اتكلم عن الشواذ من الذين كانت السياسة قد خربتهم، غير ان اغلبهم لم يحاول ان يخرج خروجا تاما من بيتهم الأبوي الروحي. وعلى اي حال فان ما عملته في تلكيف وكسبت ود وصداقة اغلب سكانها الروحية،اذا لم اقل جميعهم،لا يعني سوى امر واحد وهو ان ما كنت قد عملته من عمل كان عملا انسانيا روحيا، لا يمكن تخريبه، على شاكلة ما يحصل في مجال السياسة حيث يتحول المواطنون من حزب الى آخر بحسب مصلحتهم. جماعتنا الروحية لم تكن لها مصلحة عندي حققتها لهم. لا بل انا كنت قد قلت لمن كان يريد ان يعمل مني مدير شؤونهم المادية واطلب منه حماية زروع المسيحيين من الرعيان. كنت اقول لهم: اعملوا لأنفسكم تجمعات تحمي مصالحكم المادية وخاصة الزراعية منها. انا قسيس وعملي ان اجمع الناس في وحدة محبة وان اتعب في مجالي هذا، واسر وافرد بتعبي واتقدس به، وبه اقدس الآخرين واخلصهم من اساطيرهم القديمة. ولهذا فأنا اعمل بطبعي، وبحسب حليبي كما يقال، وليعمل كل انسان معتدي بطبعه وحسب حليبه. انا لست مسؤولا عنه الا في مجال كسر حدة عدوانه بطيبتي. في هذا المجال شبهوني بمن تريدون!!! ولكن ليكن في علمكم بأني انا القس لوسيان ولست اي شخص آخر، وان كان ممكنا ان نتشابه او نتماثل. ان كل مسيحي يمكن ان ينصحني بأن اعمل العمل الفلاني او الفلاني لمصلحة الكنيسة ولمصلحتي، وقد اعمل بنصيحته اذا امكنني ذلك، او اؤجل تنفيذ النصيحة لوقت آخر مناسب.غير اني في نهاية الأمر لن اعمل شيئا مخالفا لنهج المحبة الذي صار بالتدريج نهجي المعرف لي Caracteristique اي علامتي المسجلة. ان الانسان الذي ليست لهه ماركة مسجلة لذاته هو انسان لم يكتمل بعد. وهنا اضيف ايضا بأن القس لوسيان له اسلوبه وماركته في الصلاة، ولا يصلي كما يطلبه منه البابا فرنسيس. والقس لوسيان له تفرد في التعامل مع روما ومؤسساتها الرومانية المناهظة للحقيقة التي تقول: ان كنيستنا، هي كنيسة المشرق " المتحدة مع البابا " وليس مع النظم اللاتينية العقائدية التعسفية، والقس له اسلوبه المتميز مع رؤسائه الكنسيين وله تعريفه الخاص بؤلاء الرؤساء بطاركة كانوا ام اساقفة، حتى عندما يكون مرتاحا من مطران ابرشيته المطران ميخائيل نجيب. والقس لوسيان له نظرته الحاصة اللاهوتية عن لاهوت الكتيسة عموما، وعن لاهوت الكنيسة واسرارها وطقوسها وعاداتها وتعريف صفة الرؤساء اللاهوتية، سواء كانوا رؤساء جيدين ام لم يكونوا. والقس لوسيان له تعريفه الغلمي الخاص بمنظر البطاركة والمطارنة من حيث ما يضعون في رؤوسهم من تيجان وما يمسكونه بأيديهم من صولجانات لم تعد مناسبة لعصرنا المدني اليوم. والقس لوسيان له نطرته الخاصة عن نوع السلطة القسسية التي يمارسها رؤساء الكنيسة، حتى اذا كانوا رؤساء جيدين. فيا احبائي ليفحص كل منا ذاته لكي يرى اذا ما كان قد وصل الى ان تكون له علامته المسجلة ام لا !! ام انه لا زال تابعا لغيره !!
مسألة حضارة موت الانسان: اعزائي القراء ان العالم ونخن معه قد دخلنا الى حضارة العلم والمعرفة العلمية. ففي ايامنا هذه نحن قد دخلنا الى ما يمكن تسميتها بحضارة موت الانسان وحضارة الانسان المتفوق او السوبرمان.
مرحلة مادية صرف: فهذه المرحلة التي دخلناها منذ فترة هي مرحلة مادية صرف، لأن هذه المرحلة هي مرحلة تَفَوّقِ الآلة على الانسان، ومرحلة فيها الآلة تعمل كل شيء عوضا عن الانسان في معظم حياته الانسانية المادية اليومية. اما من الناحية السياسية والعسكرية فقد ظهرت في العالم آلات شيطانية بعضها تفوق سرعتها سرعة الصوت عدة مرات كما يبلغ مداها حسب الحاجة العسكرية. السيد بايدن قد قال بنفسه ما معناه: اننا نجتاز مرحلة، الغالب فيها يكون من يملك قوة عسكرية اعظم وسرعة اعظم ودقة في التصويب اكبر. ان هذه الالات سمحت لكثير من الدول ان تسافر الى القمر بسهولة، ثم سافرت الى المريخ بمسافة تبلغ اكثر من 300 مليون كم. ثم بدأ البعض يخطط للسفر الى امكنة وكواكب اخرى في مجموعتنا الشمسية( درب التبانة ) La voix lacte . انه الزمن الذي تحققت فيه حرب النجوم، واشكال اخرى من الحروب. غير ان اكثر مما تحقق، على الرغم من هوله وعِظَمِه لا يتجاوز عن ان يكون تحقيقا ماديا بدون روح، ويكون بالتالي مؤذيا للبشرية، وقد يكون مميتا ايضا.
دورنا الانساني: واذن من الآن وصاعدا يكون علينا نحن الذين نعد انفسنا ابناء الروح، ان ننفح حضارتنا المادية الحالية بما تحتاج اليه لكي تكون حضارة روحانية تصلح لسكنى للبشر.
بما ان الانسان هو الانسان: واذن بما ان الانسان هو الانسان فلا يمكن لهذا الانسان ان يبقى عاجزا عن ان يعمل شيئا جديدا ومبتكرا في مجال اخلاقيات عالمنا الجديد. ومن هنا يمكننا ان نقول بأن كل انسان يستطيع ان يعمل شيئا نظريا كان ام عمليا من اجل تفادي قسوة نظام موت الانسان المادية. بهذا الصدد لاحظت زعماء الدول الكبرى يعملون ما باستطاعتهم على تفادي كوارث نظام موت الانسان وبروز سيادة الآلة. فقد لاحظت في الأخبار ان امريكا وروسيا هما بصدد معاهدة لا يكون فيها فضاء الطيران مفتوحا بل مقيدا بقوانين يعرفونها نظريا وعمليا. ويقينا انهما سيصلان الى معاهدات كثيرة بينهما مثل خفض الترسانة النووية وحجبها لدى الدول الصغيرة. كما نلاظ اليوم ان الولايات المتحدة لا تأخذ اجراء صارما بحق جماعات فوضوية وتعتمد على التصفيات الجسدية الا بعد مشاورة جماعات كثيرة من الحزب الحاكم والحزب الجمهوري، الأمر الذي يقلل التعسف. اما على مستوى الأفراد والتنظيمات غير السياسية كالكنائس والأديرة وجماعات السلام الأخضر وجماعات اتحادات النساء وحقوق الطفل وحقوق القاصر، فضلا عن حقوق الانسان على العمل وعلى ممارسة السياسة وعلى القيام بتصريحات، مع حق الآخرين على نقده ورفض مقترحاته. فهذه الأمور كلها اذا مورست بنجاح ودراية فانها سوف تعطي الروح لعالمنا المادي.
انبياء حضاراتهم: هذا، ويقينا انه يوجد بعض الأفراد هنا وهناك يستطيعون ان يعطوا للعالم امورا ايجابية كثيرة، مما يمكننا ان نعد مثل هؤلاء جميعا بمثابة " انبياء لحضاراتهم الجديدة"، بدون ان تكون لهم اية علاقة بالله السماوي المزعوم وغير الموجود اصلا، الا في نظر من عمل انقلابات حضارية كبيرة واساسية دامت لأزمنة طويلة قبل ان تشيخ هي الأخرى وتموت، مثل حضارة موسى وحضارة المسيح وحضارة النبي محمد. هم كانوا يتكلمون عن الضرورات الخاصة بأمتهم وعن الشرائع المناسبة لها، وكأنها كلها من الله بشكل مباشر، بحسب العقلية السائدة في تلك الأيام. في زمننا: اما نحن، في زمننا فاننا نعيش ضمن حضارة لا تماثل حضارة الأقدمين الا قليلا. هذا مع العلم بأني ارى في جميع الحضارات القديمة والجديدة شيئا من التماثل ومن وجهة نظر امور ايجابية كثيرة.
دخلنا حضارة موت الانسان: فنحن اذن نتكلم اليوم عن حضارتنا الانسانية التي دخلنا فيها منذ وقت لا بأس به، الا وهي حضارة موت الانسان وظهور الانسان المتفوق او السوبرمان، بعد حضارة موت الله. فهذه الحضارة نجدها حضارة حديثة جدا وتحتاج الى انبياء انثروبولوجيين ينفحون حضارة اليوم من روحهم النبوي العلمي العلماني الجديد، ولا يستعيرون، ربما الا قليلا، من اي تراث مضى وانقرض.
القس لوسيان جميل
8-6-2021