رِحلة مع الأدهمي، في رحِلاته على طريق الحرير من بغداد إلى الصين واليمن
بقلم: صفوة فاهم كامل
(طريق الحرير) وما أدراك ما طريق الحرير، ذلك الطريق الذي بدأ الحديث عنه بقوّة في السنوات الأخيرة وأصبح الشغل الشاغل وحديث الساسة ورجال المال والاقتصاد في الدول الكبرى والطامعة في كلَّ شيء، في محاولة لإحيائه من جديد باسم جديد وأهداف جديدة، بعد أن كان طريق الحرير من ذاكرة تاريخ القرن الثاني قبل الميلاد، يربط الشرق بالغرب، ويبدأ من الصين إلى أفريقيا مروراً بآسيا الصغرى وأوروبا والشرق الأوسط، وفيه تُنقل البضائع وخاصة الحرير، ومنها اشتقّ اسمه ليستمر حتى القرن السادس عشر بعد الميلاد.
لكن على ما يبدو أن المؤرخ القدير، والباحث المؤلّف، الأستاذ الدكتور محمد مظفر الأدهمي، قد قرّر في أواخر القرن العشرين السير في هذا الطريق مرّةً أخرى ولكن بطريقة الرِحلات السياحية الاستكشافية، فدوّن خلال تلك الرحلات يومياته وذكرياته كما فعل أسلافه الرحالة العرب والمستشرقين من قبل، ثمَّ جمع هذه اليوميات ووضعها في كتاب ونيس أسماه (رحلات الأدهمي ... على طريق الحرير من بغداد إلى الصين واليمن) لتصدره مؤخراً مؤسسة البصائر للدراسات والنشر في تركيا، بطبعة أنيقة وصور مصاحبة ملونة.
الأستاذ الأدهمي، أهداني مشكوراً نسخة من هذا الكتاب وبتوقيعه الكريم؛ ما أن استلمته حتى بدأت متلهفاً في قراءة صفحاته وخرجت بحصيلة سطور متواضعة، عسى من يقرأها سيقتني الكتاب ويستمتع بتلك الرحلات، حيث أرى أن هذا المؤَلّف سيرتقي فيما بعد ليصبح مصدراً مهماً من مصادر الجغرافية والتاريخ على حدٍ سواء ويأخذ مكانه المميّز على رفوف المكتبات وينظم إلى أشقاءه كُتب الرحالات الأُخر.
على الرغم من أن أغلب مؤلفات الأستاذ الأدهمي، تتنوع في تاريخ وحضارات العالم ومنها تاريخ العراق على وجه الخصوص، إضافة إلى جهوده المثمرة خلال عمره المديد بنشر عشرات البحوث والدراسات وحضوره العديد من المؤتمرات العربية والدولية في ذات التوجّه، إلا أنه قرّر هذه المرّة من حيث لا يقصد، الولوج في واحدة من أجمل وأرقى أنواع الآداب إلا وهو أدب الرِحلات الذي يحاكي نفسه فيه ما جرى له وما صادف دروبه الطويلة من أحداث خلال رحلاته المتعدّدة إلى بلدان بعيدة ومواقع غريبة، حيث أبحرت القافلة به إلى أماكن نائية وغير معروفة للملأ.
أما البداية فكانت عام 1987، في مشروع ثقافي تبنّته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المعروفة باليونسكو UNESCO أسمته (طريق الحرير) غايته استكشاف سُبل جديدة من شأنها تعزيز التعاون الفكري واللقاء والتفاعل بين الشعوب وثقافاتها عبر الطرق التاريخية القديمة. مع الأخذ بالعلم إن العراق خلال العصور الوسطى كان مركزاً حضارياً مهماً أيام الدولة العربية الإسلامية وكانت بغداد مركز وصل مهم لهذه الطرق وملتقاها ومثلها أيضاً البصرة والموصل.
على ضوء ذلك تشكّلت في بغداد لجنة وطنية لطرق الحرير، ترأسها الدكتور الأدهمي، وفي عضويتها أساتذة متخصّصين، لإعداد دراسات عن دور العراق على طريق الحرير. وهذا ما طلبته اليونسكو من العراق للمشاركة بشكل فاعل وجدّي.
بدأت الاجتماعات الدولية للمجلس الاستشاري لهذا المشروع في نيسان من عام 1989، في مدينة (شيان) نقطة انطلاق طريق الحرير ومنها بدأ الأستاذ الأدهمي، رحلته الطويلة والشاقّة والتي استمرّت عشر سنوات، رافقه فيها عدد من الباحثين والأساتذة والعلماء.
طريق الحرير ينقسم إلى طُرق برية وطرق بحرية، كان لهما الدور الواضح في الاتصال الحضاري والحوار بين الشعوب وهما: الطريق البري الذي يمتد من الصين عبر أواسط آسيا وإيران والعراق وسورية وآسيا الصغرى ليربط الشرق بالغرب برّاً. أما الطريق البحري فيمتد عبر مياه بحار الصين وجنوب شرقي آسيا والهند ومحيطها الهندي وسواحل عُمان وشبه الجزيرة العربية في خليج عُمان والبحر الأحمر والبحر المتوسط ليربط الشرق بالغرب بحراً.
خلال تصفّحي للكتاب وقراءة سطوره كلمة كلمة وانغماسي بأحداثه ومغامراته المشوّقة، طرقت إلى أذني أسماء غريبة وتعرّفت على مدن ومناطق وآثار، ومرّرت بسهول وجبال ووديان لم اسمع بها قطّ، لا من قبل ولا حتى في كتب التاريخ والجغرافية التي درسناها خلال حقبة التعليم الأولى، لكنَّ خيالي سرح معها ومع قلم الكاتب كما في الأحلام، فكانت فرصة ذهبية ونادرة للتعرّف على مدن وبلدان عديدة ومختلفة، والغوص بتاريخها القديم وأضافت إلى أفكاري ثقافة عامة جديدة وكسبتُ من خلالها معلومات وافرة غير مسبوقة، لعلّ حلمي يتحقق ويحالفني الحظ يوماً ما لزيارتها والاطلاع عليها واقعيّاً، كما وقعت لكاتب هذا الكتاب وحالفه الحظ من قبل دون سواه...!
ولكثرة ما مرَّ به المؤلف خلال رحلاته من مدن كبيرة وصغيرة وأقضية وقصبات، رافقتها مفارقات وأحداث، ولقاءه بشخوص وشخصيات، وبمصاحبة بعثات أرسلتها منظمة اليونسكو العلمية لنفس الغرض؛ فأنه حرص على ذكرها جميعاً في مؤلفه وسجّل كل انطباعاته عنها بحرفية تامّة؛ لذلك حسِمَ الأستاذ الأدهمي، على تقسيم كتابه المُمتع إلى بابين؛ باب دخلَ منها إلى الصين وما جاورها من دول مثل باكستان وداغستان والهند وأيضاً سلطنة عُمان التي كان لها دور لوجستي ومادي مهم في دعم إحدى الرحلات. وقسّم هذا الباب إلى خمسة فصول مختلفة تناول فيها تلك الدول والمناطق والمعالم والطرق التي سلكها بالتفصيل الدقيق والشرح المسهب، سارحاً بتأملات وانطباعات عن تلك المدن وأثارها، ويصف ما يراه من عادات وسلوك وتقاليد للبشر هناك. ووثّقَ أيضاً أثناء تواجده في ربوعها بعدسة كامرته كل ما رأته عيناه عن تلك الرحالات، بصور ملونة من يطالعها يخرج بحصيلة إن رحلات الأدهمي كانت من أجمل رحلات عمره التي لم ولن تتكرّر...!
أما الباب الثاني من كتابه فسجّل فيه وبجهود شخصية رحلته من بغداد الرشيد إلى اليمن السعيد ومنها إلى مدينة (إب) المسوّرة الجبلية التي توسط طريق صنعاء-عدن، الذي يمر به طريق الحرير. حيث شاءت الأقدار المحيطة بالإنسان والظروف المأساوية التي مرَّ بها العراق بعد نيسان عام 2003، أن ينتقل الأستاذ الأدهمي للتدريس الجامعي فيها، فلملمها بأربعة فصول وخاتمة وصور.
وبما أن المؤلف قد قرّر الإقامة والعمل في هذه المدينة التاريخية فقد جاء إطنابه عنها في فصلين آخرين ومناطق أخرى مثل (حصن حَب) و(جبل التَعكَر) و(مدينة جِبلة) استحقت أن يدونها بشيء من التفصيل الحثيث والمعمّق لوفرة الوقت والمساحة المتاحة له ولكثرة المناطق الأثرية والتضاريس الجغرافية والأماكن السياحية وطابع العِمارة الغريب التي تتسم فيها اليمن، مستعرضاً في فصل آخر كتابات وانطباعات عدد من الرحّالة العرب والأجانب عن مدينة (إب) واستكشافاتهم خلال قرون خلت.
لا بد لكل رحلة أن تنتهي في مرحلةٍ ما، ويضع الرحال حدّاً لها في نهاية المطاف، وهذا ما قام به الرحالة محمد مظفر الأدهمي، حينما أنهى رحلاته في الكتاب بخاتمة جميلة عبّرت سطورها عن غبطته بكل ما قام به وانه تركَ شيئاً يحمل أسمه وسيحملهُ من بعده أبناءه وأحفاده، باعتبارها مجموعة آثار أدبية خالدة تبقى أبدَ الدهر للأجيال القادمة وفي ذاكرتهم. ووجد نفسه محظوظاً بين زملاءه المؤرخين والباحثين العراقيين عندما حُضيَّ برحلة طويلة على طريق الحرير من بغداد إلى الصين، ومن ثمَّ من بغداد إلى اليمن، وأنه خلال مدّة رحلاته العديدة صافح بيده اليمنى المئات مِمَن التقاهم على هذا الطريق، واليوم صافحنا نحن ايضاً وسلّمنا بيده اليسرى كتابه الآسر:
(رحلات الأدهمي على طريق الحرير)
المؤلف يُهدي كاتب هذه السطور إحدى مؤلفاته الأخيرة عن تاريخ العراق