الصحافة العراقية في عيدها بلا قراء ولا محتوى متميز
أغلقت أكشاك للصحف أبوابها واستبدلت الكثير من المكتبات واجهاتها المخصصة لبيع الصحف بعرض القرطاسية بعد تراجع المبيعات
بغداد- حتى أعوام قليلة مضت، كان بإمكان قراء الصحف العراقية الملتزمين بطقسهم الصباحي الاستمتاع بقراءة صحيفتهم ومتابعة مستجدات الأوضاع العامة، قبل أن تفرض الأزمات الاقتصادية إغلاق الكثير من الصحف، ويأتي فايروس كورونا لينهي هذه العادة.
واليوم يحيي الصحافيون عيد الصحافة العراقية مع الكثير من التشاؤم لما آلت إليه الأوضاع حيث أغلقت أكشاك للصحف أبوابها واستبدلت الكثير من المكتبات واجهاتها المخصصة لبيع الصحف بعرض القرطاسية، بعد تراجع المبيعات.
ويرى العاملون في مجال الصحافة الذين خسر غالبيتهم وظائفهم في السنوات الأخيرة، أن الصحافة المطبوعة تحتضر نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية بعد انخفاض أسعار النفط الذي تعتمد عليه ميزانية البلاد بنحو 90 في المئة والذي أثّر بدوره على تمويل الأحزاب والمؤسسات وحتى على عمل الشركات.
ويؤكدون أن مصير الصحف للأسف مرتبط بالأحزاب السياسية في الحكومة أو خارجها، ولا سبيل للحديث عن صحافة مستقلة في بلد مثل العراق.
وترتبط معظم الصحف بشخصيات وأحزاب سياسية، ما جعل احتجابها أو استمرارها بالصدور مرتبطاً بنجاح ذلك السياسي أو الحزب في السلطة من عدمه. وقد توقفت العديد من الصحف العراقية عن الصدور بعد أن فقد ممولوها مناصبهم السياسية أو فشلوا في الانتخابات.
وبدأ انهيار الصحافة المطبوعة مع فقدان الثقة بخطاب الأحزاب التي تموّل غالبية الصحف، وتداعيات سيطرة تنظيم داعش عام 2014 على ثلاث محافظات، ما أدى إلى تقطّع أوصال البلاد وتعذّر توزيع الصحف، إضافة إلى ظهور المنصات الإلكترونية وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتحوّلها إلى مصدر رئيسي لنقل الأخبار، وانتهاءً بفايروس كورونا الذي أعطى بما فرضه من إغلاقات المبرر لناشري بعض الصحف التي قاومت خسائرها طويلاً لإغلاقها بشكل نهائي.
وتوقّفت غالبية الصحف المستقلة، وتعثر صدور الصحف الحزبية، وانتشرت المنصات الإلكترونية التي لا يستسيغها الكثير من القراء وعلى رأسهم كبار السن ممّن لا يتقنون استخدام الأجهزة الإلكترونية ويعانون من صعوبة في القراءة على شاشات الهواتف الذكية أو اللوحات الرقمية.
وتقدّر نقابة الصحافيين العراقيين أعداد الصحف التي صدرت في البلاد بعد عام 2003 بنحو 250 صحيفة، فضلاً عن العشرات من المجلات، إلى جانب تأسيس أكثر من 100 محطة تلفزيونية. أغلقت معظمها في السنوات العشر الأخيرة في ظل تراجع المبيعات والإعلانات والتمويل.
ويؤكد نقيب الصحافيين مؤيد اللامي أن الوضع المالي للصحف المطبوعة شهد تدهوراً في السنوات الأخيرة، فأعلنت العديد من إداراتها إفلاسها وتوقفت، فيما اكتفت أخرى بالنشر الإلكتروني، بعد عجزها عن تأمين مرتبات العاملين فيها وتكاليف الطباعة.
ولا توجد في العراق صناعة إعلامية رغم وجود مشاريع إعلامية صغيرة لكنها بسيطة تحاول ممارسة دورها، وبعيدا عن الإعلام الحكومي والرسمي يوجد ما يسمى بالإعلام الأهلي والذي يعود إلى تجار ومستثمرين لتحقيق أهداف معينة بغض النظر عن نوعها.
ويدرك العاملون في القطاع أنه لا يمكن لأحد أن يمول مشروعاً إعلامياً من دون أن تكون له أهداف محددة، وغالبا ما تكون لأغراض سياسية وربما شخصية ضيقة للترويج لشركة أو جهة اقتصادية، أما النموذج الثاني أي النموذج السياسي وهو السائد في العراق فالمعلومات والحقائق لا تنشر مجردة، بل تنشر لتحقيق أهداف سياسية تخدم ممول المؤسسة الإعلامية.
والجانب الأخطر في هذا النموذج هو التوظيف السياسي للمعلومات والحقائق التي غالباً ما تُحرف عن مسارها أو يتم استقطاع أجزاء منها ليتم تضليل الجمهور، فانحرفت الصحافة ووسائل الإعلام عن أخلاقياتها وباتت أسيرة لجهات متنفذة حتى أصبحت وكأنها أجنحة سياسية للأحزاب والتيارات المهيمنة في العراق، واستخدمت بكثرة في حروب إعلامية تشعل الصراع بين فترة وأخرى.
وتعود غالبية الصحف إلى الأحزاب المهيمنة على السلطة في العراق وهي معروفة بمسمياتها القومية والمذهبية ولكن معظمها دينية وقومية وأغلبها تستثمر في مجال الدين والمذهب ولديها مقرات وقنوات وإذاعات ومواقع إلكترونية وجيوش إلكترونية.
وتقول الصحافية العراقية منار الزبيدي في تقرير لشبكة الصحافيين الدوليين إن “العراق” تحول إلى نموذج يوضح أثر المال والنفوذ على وسائل الإعلام وإساءة استخدامها.
وأضافت “يؤسفني كصحافية أن أقول إنّ المال السياسي نجح بتجنيد بعض من وسائل الإعلام المؤثرة ومنها مواقع التواصل الاجتماعي لتنفيذ أجندته، الأمر الذي أثر سلبا على ثوابت وأخلاقيات وسائل الإعلام باعتبارها سلطة رقابة وكشف وإعلام، لتصبح وسيلة لتضليل الرأي العام وأداة من أدوات الفاسدين”.
ويعتقد البعض من المتابعين للإعلام العراقي أن تراجع الإعلام المهني لم يكن عشوائياً، بل تم العمل بشكل ممنهج على جعله عاجزاً عن مواجهة ظواهر الفساد بفعالية، حتى يكون الرأي العام مهيئاً للخطاب الحزبي والطائفي الذي يسعى إلى التأثير على الجمهور بطرق محددة.
وسبق أن حاولت مجموعة من الصحف المحلية تأسيس “اتحاد أصحاب الصحف العراقية ” لإنقاذ الصحف، وأصدرت بيانا مشتركا اتهمت فيه جهات سياسية بفرض إرادة مضادة تسعى في الباطن لتدمير الصحف “استجابة لدوافع سياسية فاسدة لا يسرّها انتعاش الصحافة التي تشكل مصدر قلق للفاسدين”.
وقال البيان إن هذا الاتحاد يعتبر جهة قطاعية تعنى بمهمة توحيد وتنظيم الجهود ووضع إستراتيجية بعيدة المدى والتخطيط لوضع الحلول للأزمة الخانقة التي تمر بها الصحافة العراقية وكل ما من شأنه تعضيد ديمومتها.
ودعا البيان الرئاسات الثلاث إلى القيام بواجبها في حماية وصيانة حرية الرأي، من خلال تقديم الدعم والمشاركة في طرح الحلول وتسهيل إقرار تشريعات تضمن “استمرار عطاء صاحبة الجلالة ومواصلة أداء واجبها المهني كسلطة رابعة”، مستنكراً “حالة التجاهل والإهمال على الرغم من تكرار النداءات لإغاثة الصحف التي بدأت بالانهيار
تدريجياً”.
لكنّ أيا من تلك المطالب لم يتحقق واستمر مسلسل انهيارات الصحف وسط الأزمات السياسية وحملات استهداف الصحافيين والمدونين التي شهدتها البلاد والتي راح ضحيتها العديد منهم ومعها انحسرت آفاق حرية الرأي.