حينما ينخر التفكير حالتنا النفسية
د.اسعد الامارة
حينما ينخر التفكير حالتنا النفسية
هل هو خلل عابر؟ هل هو يهد المعنويات أذا سكن؟ هل هو يشتت الطاقة النفسية؟ هو كل ما تقدم وغيرها بجانبيه السلبي والإيجابي، أنه يضعف الطاقة المهيأة للعمل، ويضعف المناعة النفسية والجسدية، أنه التفكير Thinking وهو نظام معرفي يقوم على استخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية، أما بالتعبير المباشر عنها، أو بالتعبير الرمزي، ومادة التفكير الأساسية هي المعاني والمفاهيم والمدركات، كما عبر عنه "شاكر قنديل" في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي.
نستعير من الفيلسوف الشاعر الطبيب النفسي "ريكان إبراهيم" هذا النص من مقدمة كتابه علم نفس الإلحاد والإيمان، حينما نتطرق في موضوعنا هذا عن التفكير يحيل الفرد إلى خائف من نفسه على نفسه، حقًا أن التفكير إذا سكن بين حنايا النفس فإنه يحيل صاحبه إلى حطام، لحظة من التفكير العميق بالوجود والاستمرار في الحياة إلى عدم مع كل تلك الضغوط الخارجية التي تبلورت إلى خيوط معقدة من التفكير الداخلي والآم جسدية تجعل الحد الفاصل بين السوية واللاسوية خيط رفيع قابل للقطع والميل نحو اللاسواء ليس نفسيا فحسب، بل جسديًا ايضا والامر سيان بينهما.
التفكير السلبي يقود إلى الوهن، ويمكن أن ينكص هذا الحال من التكيف أو يتقدم من آن إلى آن بتأثير الظروف الخارجية وما أكثرها اليوم في عالمنا، والصراعات الداخلية التي يمكن أن تثيرها أفكارنا ونحن نبنيها ونؤسسها، حيث تبدأ بخيط من التفكير يجمع حوله خيوط عدة تتشابك وتكثر وتتكتل حتى تصبح منظومة من الأوهام والخيالات ، لا بل كتلة تقود صاحبها إلى أعمق إنهيار نفسي دون أن يشعر وهو لم يتحرك من مكانه، ولكن العالم الخارجي في دماغه تحرك إلى الماضي ونبشه، وإلى الحاضر فدعسه وأثاره، وجاء كل ما مضى وما يعيشه في هذه الكتلة من خيوط التفكير المتشابك، أسألوا عن ذلك الفصامي حينما تشتد به النوبة الفصامية، أو الاكتئابي الذي ضاقت به سبل الحياة في تفكيره فأختنق من أفكاره ولم يجد غير الراحة الأبدية في إنهاء معاناته اليومية، لا بل بكل ساعة وعلى مدار اليوم يحاول الذهاب إلى الموت أختيارًا وهو الانتحار بمحاولة واحدة، أنه التفكير الذي يجعل العينين تتحرك وتغمض هروبا من الاستمرار بالنظر واغماضة العين المثقلة هي تعبير عن الهروب واستمرار التعمق بالتفكير، أنه يوجع صاحبه ولا مهرب له ، أو تجعل أية عضلة في الجسد المستسلم أن ترتجف بلا قيود أو سيطرة، أنه فعل لا تراه، ولكنه يعمل بسرعة قد لا يصدقها الفرد، أو حينما تبدأ الشفتين بالتيبس، والاطراف السفلى لا تعين صاحبها على الوقوف، أو الكفين بالتعرق، أو يسمع دقات قلبه تتسارع دون أن يسيطر على كل جسده، أنه التفكير العميق الذي يتسلل في صمت إلى أعماق الآنية دون أن نستطيع عن كشف بما يجري فينا، لم يعد القلق ذو تأثير فينا رغم أنه بضاعتنا التي تتعايش معنا منذ عقود وربما منذ فجر حياة كل منا نحن البشر، إن كان قلق دافع أو قلق هائم، أو قلق يومي، ولكن لم يترك لنا هذا القلق التسليم المطلق لهذا التفكير في كل ما هو سلبي وينهك حتى احشائنا الداخلية التي لفها الصدا والتكلس والخراب في بعضها، مزق هذا التفكير القولون عصبيًا ، وبعض من جدار المعدة، ونال من المفاصل في روماتيزمها وأثقل الحركة، لا أدري هل نطلق عليه "السيكوسوماتيك" النفس جسمي، أم أنه شيء آخر. طالما تعلمنا من تجربتنا النفسية أن القلق الشديد يولد الاغتراب، ولكن يحق لنا القول أن التفكير يمزق نسيج الحياة لأنه يجعل دواخلنا تضطرب هي الاخرى ويأخذ بعض منا معالم الكآبة، إن لم تكن قد تسللت إلى دواخلنا بالفعل.
نتسائل ويتسائل معنا البعض هل التفكير أصدق من أصل وضعنا النفسي الحقيقي، أم هو حالنا النفسي في الواقع المعاش حيث قاد تفكيرنا إلى ما هو عليه من آنية في التفكير؟ أو زمانية غير متناغمة مع الواقع، فكان نشاط التفكير الرافض للآنية والزمانية، لا يمكنني أن أطلق عليها شطحات من التفكير غير العقلاني وهو شيء من الجنون إن لم يكن هو..
يصاحب دائما التفكير الشديد الإنفعال ونشاهد ذلك مما يظهر على الوجه بدون حديث، أعني بصمت، وهي لغة رفض وتفاعل وحوار، هذه الشواهد كلها هي دلالة عن تعبير الرغبة في قول شيء لم يستطع صاحبه البوح به، هي لغة رمزية وهو سلوك عند البشر جميعًا، وأقول سلوك لأن التفكير سلوك غير منطوق، وهو تكوين فرضي، نشاهد علامات الانفعال على صاحب التفكير والغائر بعمق فيه، كمن نشاهد المتحدث في موضوع معلن، يذكرنا هذا الحوار في السيناريو الذي يدور في دماغ الفصامي وهو يتحاور مع اشخاص غير متواجدين في الواقع، ولكنهم متواجدين في دماغه هو ،على مستوى التفكير يحتلون مساحة واسعة من هذا التفكير. وقول العلامة" مصطفى زيور" إن مرضى العقل إنما يتصف تفكيرهم بالهذيان، ويضيف أنه منطق الأعراض المرضية النفسية والعقلية، أي المعاني التي تنطوي عليها أعراض الأمراض النفسية والعقلية. وفي حياتنا اليومية حينما يطفح الكيل بالتفكير لدى البعض منا وتبدو أعراض الوساوس بأحد شقيها وهي الافعال حيث تأخذ تحويل التفكير إلى سلوك ملموس ومشاهد لدى البعض رغم شكواه من عدم قدرته على كبح هذا التفكير الوسواسي، وهو عصاب قهري.
من أهم ما اسهم به التحليل النفسي هو أنه يبين لنا كيف أن السلوك الذي يبدو في ظاهره خاليًا من المعنى مثل الأحلام، وفلتات اللسان، والنكته، وجلسات التداعي الحر عند مريض العلاج النفسي، يكون هذا التفكير وراءه دافع، وربما يكون هذا الدافع غامضًا في معظم الاحيان، أو يكون الشخص غير مدرك له ، ويرى علماء النفس إن الخيال الابداعي صورة أخرى من التفكير لها رمزية وتكثيف عميقان، يقول الفيلسوف "لوسيوس سينيكا" إن الأشياء التي تخيفنا أكثر من تلك التي تسحقنا، فنحن غالبًا ما نعاني في خيالنا أكثر مما نعاني في الواقع، وهو صحيح تماما لأن تفكيرنا يحمل الكثير من الخيالات، وهذه الخيالات هي التي تتبلور وتتضخم مثل كرة صغيرة فتكبر في رأسنا حتى تحتل جزء من الدماغ ومجرى التفكير وكل ما يتعلق بعمليات الخزن والاستدعاء والتذكر حتى تحتل كل شيء في داخلنا، وان وجود هذه الخيالات المكونة للأفكار تحمل وجود نفس الشيء من الواقع والوجود والعدم معا، ويقول الدكتور " محمد شعلان" رحمه الله أستاذ الطب النفسي ان الوجود نفسه ما هو إلا تبادل بين الوجود والعدم، وبعبارة اخرى بين الشيء وضده، الفكرة ونقيضها، حينما تنمو قسريا وتفرض وجودها ثم تطرد الحلول واللامعقول، وتتثبث بما آمنت به حتى وإن كان خطأ ، أو غير منطقي أو غير واقعي، لذا فالافكار العظيمة تنشأ من اللامعقول واللامنطقي.
خلاصة القول من الممكن ألا يكون الإنسان عبدًا للتفكير، أو لعمقه بل يستطيع أن يسخر التفكير لخدمته بحيث يترك التعمق فيه ولكن كيف يستطيع الفلاسفة والشعراء والادباء والفنانين والكتاب والعلماء في التخصصات الدقيقه الحقيقيين من ترك هذا التعمق الذي يقود صاحبه إلى الابداع في العمل الفكري، هل يحق لنا أن نقول يمكن أن تتحول كل تلك الطاقة الإنفعالية من التفكير بكل شحناتها إلى قصيدة شعر، أو نتاج أدبي أو فكري أو قصة أو مسرحية تترك الأثر في النفس لأجيال، انه التفكير المشحون الذي يوجه الطاقة نحو عمل إبداعي، وفي الطرف الآخر يكون الانهاك رغم أن الأمر بينهما ليس إلا مبرر منطقي أو حقيقي للهزيمة والاستسلام للمرض، فضلا عن ان الوجود على قيد الحياة يرتبط بالتفكير بشقيه الابداعي المنتج والشق الآخر المنهك الذي يصرع صاحبه ويسبب الألم ويترك رغبته في الحياة.