مقتدى الذي تم دفعه إلى منصب الزعامة من غير أن يملك أدنى مؤهلاتها لا يزال بالرغم من مضي أكثر من ثمانية عشر عاما هو ذلك الصبي المدلل الذي يكرهه أركان البيت السياسي الشيعي. عام 1961 انتشرت بين الشباب العربي أغنية تقول لازمتها التي تتكرر بمرح “يا مصطفى يا مصطفى/ أنا بحبك يا مصطفى” لحنها محمد فوزي بأسلوب الفرانكو آرب. ولكثرة الكلمات الأجنبية في الأغنية ظن الكثيرون أنها ذات أصول يونانية وتم تعريبها. كان فوزي قد اختار لحنا مستلهما من الموسيقى الشعبية اليونانية. وكان من أسباب انتشار صيت يا مصطفى إضافة إلى خفتها المستحدثة أن النظام المصري قام بمنعها بعد أن تم تأويلها سياسيا، حيث قيل يومها إن مصطفى المقصود في الأغنية هو مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد الذي كان يُحسب على النظام الملكي. تذكرت اللحن الظريف للأغنية حين وجدتني أردد “يا مقتدى يا مقتدى” بعد أن سمعت خطاب الزعيم الديني – السياسي العراقي مقتدى الصدر وهو يعلن انسحابه من الانتخابات المقبلة. طغى اللحن على الفكرة التي تدعو إلى السخرية وإلى الخفة بل وإلى الاستخفاف. لا أقصد أن هناك مَن يستخف بالرجل الذي قفز فجأة إلى الصف الأول من سياسيي العراق الجديد بسبب إرث ديني رث ولا قيمة له على مستوى المؤسسة الدينية التي يُقال إن والد مقتدى كان أحد أعمدتها، وإن آل الصدر الذين يمثلهم الفتى اليتيم كانوا في مقدمة شهدائها حين قاتلوا ضد الاستبداد وتصدوا له مدافعين عن حق الشعب في الحرية والعدالة. كل ذلك كلام ينطوي على الاستخفاف بالعقول وتزوير للتاريخ. المهم أن مقتدى الذي تم دفعه إلى منصب الزعامة من غير أن يملك أدنى مؤهلاتها لا يزال بالرغم من مضي أكثر من ثمانية عشر عاما هو ذلك الصبي المدلل الذي يكرهه أركان البيت السياسي الشيعي إضافة إلى أن أعمدة الحوزة الدينية لا تطيق سماع اسمه، غير أن أحدا لا يملك القدرة على شطبه أو تجاوزه أو عدم اعتباره رقما صعبا في العملية السياسية. [وإذا عدنا إلى التاريخ القريب فما من أحد يكره مقتدى مثلما يكرهه نوري المالكي الذي حاربه مرتين غير أنه لم يستطع أن ينال منه أو يضعفه. ضعف المالكي مع الوقت فيما ازداد مقتدى قوة.
ليس لمقتدى أي كاريزما تفسر شعبيته. علينا أن نصدق أن الرجل جرى تسويقه بطريقة متقنة. فهو على المستوى الشخصي رجل جاهل، يكاد يكون أميا. وهو معدوم الموهبة، لا يتكلم عن أي شيء بخبرة. وهو بعيد كل البعد عن السياسة والدين، أن تنصت إليه فإنك تسقط في مستنقع الفضيحة العراقية في أسوأ أحوالها. من أين تأتّى له أن يكون ممثل الفقراء وهو يقود جمهرتين، جمهرة القتلة وجمهرة الفاسدين؟ المدهش أنه يتخذ قرارات غيبته باطمئنان وثقة. لا يخاف أن يُشطب أو يُمحى أو يتم اقصاؤه أو عزله أو الانقلاب عليه. غفل إبراهيم الجعفري ذات مرة وكان زعيم حزب الدعوة فانقلب نوري المالكي عليه. لقد شق كثير من المجرمين عصا الطاعة على مقتدى فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى العمل خارج معسكره والبحث عن غطاء إيراني. هل يكفي أن إيران تقف وراءه ليمارس ألعابه التي يعتقد أنه من خلالها يضلل مريديه وخصومه في الوقت نفسه؟ لا طبعا. كم مرة انسحب من العملية السياسية وأغلق باب بيته وأنهى علاقته بتنظيمه المسلح الذي ارتكب أبشع الجرائم إبان الحرب الأهلية ثم استعاد تلك العلاقة المبنية على نهب المال العام والابتزاز والقرصنة. وكل ما فعل شيئا رده إلى تقززه من الفساد فيما تمارس جحافل الصدريين مختلف أنواع الفساد في الوزارات التي صارت حصة صدرية. يبدو كما لو أنه طفل في ألعابه غير أن القوة التي ترعاه تنظر إليه باعتباره رجل الساعة وكل ساعة، في إمكانها أن تفعل من خلاله ما تشاء. هناك ماكنة إعلامية خفية عملت منسجمة مع الطريقة التي يفكر من خلالها الناس عاطفيا. صار مقتدى جزءا من الموروث الديني الذي لا يُناقش. فالرجل ليس مقنعا في أدنى مقاييس المنطق. غير أن كل شيء يمكن أن يحدث إذا استندنا إلى منظور الدين الشعبي. مقتدى خرافة أميركية يمكنها أن تنسجم مع عصر الفن الشعبي الأميركي أو الأغنية الريفية الأميركية. وفي ذلك يتفوق مقتدى السياسي على مصطفى الذي لم يكن سياسيا ولاحقته تهمة السياسة. وإذا ما أردنا أن نكون منصفين فإن مصطفى قد ظلمه الواقع، فيما لا يزال مقتدى يلعب بالحقائق وهو يعرف أن لا أحد سيطارده مثلما طُورد مصطفى. العرب |