بين العجم والامريكان بلوة ابتلينا
الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
[size=32]بين العجم والامريكان بلوة ابتلينا[/size]
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، عن أثر ذلك الصراع على مجتمع العراق، جاء في أحد الأمثال الدارجة في العراق (بين العجم والروم بلوة ابتلينا)، هذا مع العلم أن العراقيين كانوا يطلقون على العثمانيين اسم الروم، والواقع أن الصراع بين العجم والروم كان بلاءً عظيماً ابتلي به العراق، ولا يزال بعض الجهله والمنافقين يستخدمون حيثيات هذا البلاء كي تفعل فعلها في النفوس سراً وعلانية، بعد احتلال العراق، والبلاء الذي يقصده الوردي هو الصبغة المذهبية التي أضفاها العثمانيون والصفويون على صراعهما السياسي في العراق،بتفتيت وحدة العراقيين بادعاء كل طرف أن قصده هو الانتصار لهذا المذهب أو ذاك، وليس الاستحواذ على الموقع الاستراتيجي للعراق، الذي يمنح مالكه حق التحكم في طريق رئيسية من طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
يقول علي الوردي: «كان العراق بمثابة المنفى بالنسبة للولاة والموظفين الأتراك، لذا أطلق عليه (سيبيريا تركيا)، فقد كان الموظفون الأتراك يرفضون العمل فيه... ولم يكن يقبل العمل فيه إلا الموظف الذي لا يجد عملًا له في مكان آخر، أو الموظف الذي يتوقع أن يبقى فيه مدة قصيرة، ليجمع منه ثروة ينتفع بها في مستقبل أيامه... كانت المدن في العهد العثماني، لا سيما قبل منتصف القرن التاسع عشر، في غاية الانحطاط والخراب، لعلنا لا نغالي إذا قلنا إنها لم تكن (مدنًا) بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة في العالم المتحضر، بل هي كانت أشبه بالقرى منها بالمدن»، ويذكر المدن كالكوت، والسماوة ولملوم والرماحية والحلة، كذلك النجف وكربلاء، كانت مبنية بالطين... أما بغداد، فقد اعتبرها الوردي المثال الأكثر بروزًا على انحطاط الحضارة في العراق خلال العصر العثماني، ويقول:«كانت بغداد تحتوي على أسواق عامرة نسبيًّا، وتتركز هذه الأسواق في الوسط، وإلى القرب منها شيدت دور من الآجر لا تخلو من زخرفة وفخامة، يسكنها كبار الموظفين وأثرياء التجار والملاكين، لكننا لا نكاد نبتعد عن هذا الوسط، حيث نتغلغل في أطراف المدينة، حتى نجد هناك محلات قذرة ذات أزقة ضيقة، تسودها العصبية المحلية».ويضيف الوردي «مما يلفت النظر أن بغداد في منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن تحتوي على أي شارع معبد، أو مستقيم عريض، وقد ظلت بغداد مدينة مظلمة بدون أنظمة إضاءة حديثة كان الظلام المخيم على الأزقة يبعث الرهبة في قلوب المارة، يجعلهم يتخيلون أهوال الجن ومكايدها في زوايا الأزقة، فيطلقون سيقانهم للريح!!.
هذا البؤس الذي عاشته بغداد خاصة، والعراق عامة، من مظاهره أيضاً زحف القبائل البدوية من شمال الصحراء العربية إلى أرض الرافدين. يقول الوردي: «العراق في العهد العثماني كان مطمح أنظار القبائل البدوية التي تحوم في الصحاري المتاخمة للعراق، فهي كانت تقف من العراق موقف المترصد الطامع، وتنتهز الفرصة للتسلل إليه بين آونة وأخرى، وقد كان هناك عاملان رئيسان يشجعانها على ذلك، أحدهما ضعف سيطرة الحكومة (يقصد العثمانية) على العراق وشيوع الفوضى والنزاع القبلي فيه، والثاني توالي الأوبئة الكاسحة عليه، فقد كان كل وباء يجتاح العراق يقضي على كثير من سكانه، لا سيما أهل المدن».
انخراط شباب بغداد بالجيش الثماني
ان الاصلاحات العسكرية التي قام بها محمود الثاني بعد تدمير الجيش الانكشاري في 1826 قد امتدت تدريجيا الى العراق. فقد اعيد تنظيم وحدات الجيش الانكشاري العراقية والقطعات الجديدة المرسلة من العاصمة والمجندين العراقيين حيث فرض التجنيد الالزامي في مناطق عديدة من العراق، وشكل ماسمي فيما بعد بالجيش العثماني السادس. الكثير من العراقيين اختارو العسكرية كمهنة حيث انهم في نهاية القرن التاسع عشر شكلوا اكبر عدد من الضباط العرب في الجيش العثماني. الغالبية كانوا من السنة ومن عوائل متوسطة، تعلموا في مدارس عسكرية فتحتها الحكومة العثمانية في بغداد ومدن من عراقية اخرى. وقسم من هؤلاء دخلوا فيما بعد الى الكلية العسكرية في اسطنبول؛ ومنهم كان نوري السعيد وياسين الهاشمي الذين اصبحوا من الشخصيات القيادية في الدولة العراقية في ما بعد الحرب العالمية الاولى. وفتحت اضافة الى المدارس العسكرية والمدارس الدينية التقليدية، العديد من المدارس الابتيدائية والثانوية من قبل الحكومة ومن التنظيمات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية. كان خريجو المدارس الحكومية يلتحقون بوظائف مدنية حكومية. وبعض افراد من العوائل المعروفة مثل الجليلي في الموصل وبابان في السليمانية اختارو وظائف ادارية، اما المراكز العليا فكان يجري التعيين فيها من اسطنبول. تم تطبيق الكثير من الاصلاحات الدنيوية وتوسع نفوذ الدولة في القرن التاسع عشر وتكبد المسلمون العراقيون واصحاب المكاتب من الشيعة والسنة على حد سواء خسائر في الوضع الاجتماعي والنفوذ والجاه والمال.
ذكرى مدحت باشا الطيبة
العراقيون يحتفظون بذكرى طيبة حول مدحت باشا الذي شهدت سنوات ولايته، دخول بلاد الرافدين في عصر الحداثة للمرة الأولى، ويقول الوردي: «كان مدحت باشا دؤوباً على العمل محباً للإصلاح، حاول أن يقوم ببعض الإنجازات الحضارية، فأسس أول مدرسة حديثة، مدرسة للصناعة، معمل للنسيج، حديقة عامة، مستشفى للغرباء، ومطبعة وجريدة رسمية، كما ساعد على تأسيس مدينة الناصرية، وتوسيع مدينة كربلاء، ووضع نظاماً للبلدية في بغداد، وأنشأ شركة أهلية للترام بين بغداد والكاظمية، وحاول إصلاح وضع الأراضي الزراعية وحقوق التصرف فيها».
ذكرالدكتور جون فانيس أنه عندما جاء إلى العراق في عام 1903، أدرك أن المجتمع في حاجة ماسة إلى مدراس حديثة يجري فيها التعليم باللغة العربية، وليس التركية التي كانت سائدة في مدارس ذلك العهد، ولما فاتح الوالي العثماني أجابه متهكمًا: (ما أنت وإضاعة وقتك في تعليم الحمير؟!).
ظل العراق على تلك الحال من المعاناة حتى خرج أخيرًا من سلطة المحتل العثماني إلى سلطة محتل آخر هو بريطانيا التي سيطرت على البلاد عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، ليدخل العراق بذلك في عصر جديد من النضال القومي،في حين استغل الاحتلال البريطاني كل السلبيات التي ترتبت على السيطرة العثمانية على العراق فأججت الصراعات الإثنية، والحروب الإقليمية، والنزاعات النفطية.
الطائفيون الجدد في العراق المحتل
يثير بعض غلاة الطائفية المقيته الغريبة عن حيثيا العراقيين الاصلاء تفسيرات وتحليلات غبية عن طبيعة من اسندت لهم ادارة الدولة سيما بعد الاحتلال البريطاني للعراق وثورة العراقيين في 1920 وتداخلت هنا مجموعة العوامل الداخلية والإقليمية والإستراتيجية في لعب دور كبير في تهيئة الظروف الموضوعية المؤاتي لتشكيل (الدولة العراقية 1921)..والملفت هنا اننا نسمع ونقرأ من بعض الاميين المغرضين ان البريطانيين سلموا مقاليد ادارة الدوله العراقية (شكليا) الى العراقيين المسلمين (السنة) ويتناسى هؤلاء ان البريطانيين كانوا يفتشون عن الكفاءات التي تنجح مشروعهم وهذه الكفاءات كانت تتركز بالعراقيين الذي تعلموا في المدارس التي انشأت من قبل بعض الولاة العثمانيين لتكوين ملاكات عراقية تعمل معهم في ادارة الولايات العراقية ولما كانت هذه المدارس في اماكن محددة من بغداد التي تسكنها عائلات متمكنه ولديها الرغبة في تعليم ابنائها الذين بعثوا لاكمال دراستهم في الاختصاصات المعروفة في استنبول وكان قسم مهم منهم درسوا وانخرطوا بالكليات العسكرية واغلبهم ساهموا في قيادة الدولة بعد 1921 ولهذا من الخطأ الجسيم اعتقاد البعض ان هيمنة السنة كانت بشكل تآمري على بقية العراقيين بل هي نتاج طبيعي لكفائتهم التي حصلوا عليها من تعليمهم وتدريبهم من قبل العثمانيين، مع ملاحظة نقطة مهمة وهي ان الحكم في العراق منذ 1921 وحتى احتلال بلدنا في نيسان 2003 لم يكن طائفيا ولا عرقيا ولا مذهبيا بل كانت الكفاءة على الاغلب هي الحاسمة في تحديد من يكون في هذه المسؤلية او تلك،ولا نستبعد هنا حقيقة ان الاستعمار البريطاني الذي احتل العراق كان يتدخل بقوة كلما استوجبت مصالحه ذلك لتحديد او تغيير من يخدمون مصالحه في استمرار هيمنته على مقدرات العراق.
الطائفية مثيرة للجدل والتفريق لا للعمل
لان الفكر الطائفي فكر جدل لا عمل، فقد ضيع أصحابه الوحي خدمة للتاريخ، وأهدروا قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص. ولأن اللعبة الطائفية استخدام لفكرة لا خدمة لها، فليس من اللازم أن يلتزم لاعبوها بالأفكار التي يشعلون الحروب من أجلها،لذا فلا عجب أن نجد ملكيين يصدرون آلاف الكتب دفاعا عن الخلفاء الراشدين، رغم أن الخلافة الراشدة هي النقيض الشرعي والمنطقي للمُلْك. أو أن نرى جمهوريين يصدرون آلاف الكتب دفاعا عن حق آل البيت في توارث السلطة، رغم أن توارث السلطة هو النقيض الشرعي والمنطقي لقيم الجمهورية وسلطة الانتخاب.
إن العراق اليوم على مفترق طرق: فإما أن يدرك أبناؤه أن ما يجمع بينهم من معاني الوحي وروابط الأرحام والجغرافيا أكثر وأعمق مما يفرق بينهم من تفسير التاريخ وتعصب المذاهب والطوائف، وإما أن يضيعوا فرصة استخلاص العبرة من تاريخهم البعيد والقريب فيمدون أعناقهم إلى كل ناعق، ممن يستثير فيهم نوازع التفرق، ويوسِّع الثغرات فيما بينهم، ليدخل من خلالها، ويحقق غاياته في الاستبعاد والنهب والإخضاع.
ان الخذلان الذي اصاب العراقيين من هيمنة القوى التي تدعي كذبا وزورا انها اسلامية ، وتأسرها وتنخر فيها أثقال التاريخ، وروح الثأرية والتي اثبتت بكل ما مارسته طيلة 19 عاما عجافا انها لاتتحلى بأبسط حدود المسؤولية والثقة مادامت تتحكم فيهم الروح الطائفية والتلذذ بخدمة الاحتلال الامريكي البريطاني الفارسي.
إن العراق ليس مهد الحضارة فقط، بل هو مهدا للتعايش والتئام الجراح، ومهما يكن من أمر، فهزم كل انواع الاحتلال يتطلب البندقية ، والتظاهرات الشعبية ...فهل يدرك ابناء العراق العظيم ذلك؟!