معركة بنجوين - درة معارك الحرب المنسية
بسام شكري
معركة بنجوين - درة معارك الحرب المنسية
في النصف الثاني من الشهر العاشر من سنة 1983 كنا في قاطع عمليات نفطخانة في السنة الثالثة من الحرب العراقية الإيرانية وكان لوائنا بأفواجه الثلاثة والقوات المساندة له يتجاوز الخمسة الاف مقاتل يسيطر على جبهة واسعة من التلال والوديان وكانت واجباتنا بسيطة والوضع العسكري هادئ بشكل عام واجباتنا كانت دوريات وكمائن في ارض العدو والقصف المتبادل بين الطرفين مستمر لكن تعود الطرفين عليه وفي بعض الأحيان يقوم العدو بالتعرض علينا في هجمات خاطفة وقصيرة وكان قاطع نفطخانة في تلك الفترة هادئ نسبيا , في صباح احد الأيام الباردة من الاسبوع الأخير من الشهر العاشر وعند الساعة الثامنة صباحا صدرت الأوامر لنا بالاستعداد لإخلاء المنطقة والمغادرة فعقدت الاجتماعات في كافة افواج اللواء ووضعت الخطة وصدرت الأوامر العسكرية بالتحرك الى قاطع عمليات مندلي لصد هجوم إيراني واسع هناك فجمع كل واحد منا اغراضه الشخصية وسلاحه وعتاده وفراشه وخلال ساعتين اصبح الجميع في داخل العجلات وتوجهنا الى الجنوب باتجاه مدينة مندلي ونظرا لأننا ومنذ فترة طويلة لم نشارك في معركة مباشرة مع العدو وسماعنا بخبر الهجوم الإيراني وذهابنا لدخول المعركة وصد الهجوم فقد أصابت معظمنا نوع من هستيريا المعركة , وهستيريا المعركة هي حالة نفسية تصيب المقاتلين قبل الدخول في المعركة حيث تتحرك الاحداث بسرعة في مخيلة كل واحد ويقوم الدماغ بعرض سيناريو المعركة بشكل تخيلي سريع طبقا للمعلومات التي سمعها بحيث يترك الانسان لمخيلته المجال الواسع لتخيل الاحداث خلال المعركة ويصبح الجميع يتحركون ويتكلمون بسرعة ويأكلون كميات كبيرة من الأطعمة يملؤون بها بطونهم خوفا من انقطاع الاكل والماء خلال المعركة وفي تلك الساعة تظهر الحالة النفسية الحقيقية للمقاتلين فمنهم من اخذ يتكلم عن الموت ويذكر لأصدقائه وصيته الى اهله ومنهم من تأخذه موجه الخوف ويصمت ومنهم من يتوكل على الله ويتصرف وفق الأوامر ومنهم من يتحمس للقاء العدو والدخول في المعركة بقوة وكانت الفئة الأخيرة تمثل سبعين بالمئة من المقاتلين في تلك الفترة من حرب السنوات الثمانية , أتذكر اني لم اكن اشعر بالجوع لكني تناولت علبة جبن مثلثات كاملة وعلبتين من اللبن الرائب ورغيفين من الخبز وكمية من التمر اليابس الصلب ( هذا الاكل الجاهز المتوفر في الجبهة في تلك الأيام إضافة الى أنواع الاطعمة المعلبة ) وفي الطريق توقفنا للاستراحة بانتظار بقية الارتال للوصول فنزلنا في ارض جرداء ولا نعرف ماذا نفعل وكان الشاي بالنسبة للمقاتل في ذلك الوقت هو الوقود الذي يحرك الاجسام والادمغة فقمت بجمع حطب من الأرض عبارة عن اشواك يابسة وجاء زميل اخر بعلبة معجون طماطم فارغة وغسلناها بما يتوفر لدينا من ماء وضعت العلبة الفارغة فوق حجرين واشعلت النار تحتها وقمنا بغلي الماء والشاي والسكر مرة واحدة وشربنا شاي بنكهة معجون الطماطم وكان لذيذ جدا في ذلك الجو البارد واكلنا بقايا خبز كان معنا, وتحركت الارتال بعد نصف ساعة من الاستراحة باتجاه مندلي وبعد ساعة من المسير وقبل وصولنا الى مندلي بقليل توقف الرتل مرة ثانية ومنع الجميع من النزول من العجلات وبعد عشرة دقائق قام الرتل بتغيير اتجاهه والعودة الى نفس الشارع الذي جئنا منه فاعتقدنا اننا سوف نرجع الى نفس موقعنا السابق في الجبهة فساد الفرح مختلطا بالهرج والمرج وتبين فيما بعد ان تجاوزنا موقعنا القديم اننا نسير باتجاه الشمال الى ناحية ميدان باتجاه مدينة السليمانية وكانت وجهتنا مدينة بنجوين في اقصى شمال العراق القريبة من الحدود الايرانية حيث المكان الجديد عندها ساد هدوء مريح ونام الأغلبية في السيارات المسرعة وانشغل البقية بالحديث والتأويلات والافتراضات واستمر سيرنا بدون أي استراحة الى المغرب حيث وصلنا الى بنجوين في منطقة جبلية مرتفعة جدا وكان الجو بارد والمطر خفيف لكنه مستمر وجاءت الأوامر لنا بالصعود الى اعلى الجبل وبدا الجميع بالصعود مع ارتداء المعاطف المطرية الواسعة والتي تصل الى الركبة وكل منا يحمل معه سلاحه وعتاده وفراشه الشخصي على ظهره, والتقط الأكثرية منا اغصان أشجار يابسه كانت تملء الأرض استعملناها كعصي تساعدنا على صعود الجبل مع كل الاثقال التي نحملها , كانت عملية الصعود متعبة جدا ومع مرور الوقت اخذت حركتنا تبطأ وشعر الجميع بالتعب وبعد ساعة ونصف تقريبا من الصعود وصلنا الى القمة واخذنا نتجمع تحت الأشجار للحماية من المطر الذي استمر حتى منتصف الليل وعند توقف المطر بدانا نحفر الخنادق ولم يتمكن أي منا من حفر شبر واحد في الأرض لان الأرض كانت صخرية فنمنا تحت الأشجار بمعاطفنا المطرية التي اعطتنا من الدفء مالم نكن نحلم به , في الصباح الباكر استيقظ الجميع على مطر عزيز وسمعنا أصوات جنود عراقيين في احدى القمم المجاورة فذهبت مع مجموعة من المقاتلين لاستطلاع الامر فتبين انهم من القوات الخاصة العراقية تم انزالهم بالطائرات قبل يومين وقد اشعلوا نارا للتدفئة وكانوا يأكلون في قزان كبير بقايا رز لونه برتقالي مع بقايا مرق مخلوط بماء المطر وقد دعونا لمشاركتهم الإفطار فمد كل واحد منا يده واخذ بكف يده حفنة رز من القزان الفضي الكبير ما يتمكن من اخذه من اشهى إفطار في ذلك الوقت , لم اتخيل بعد سنوات عديدة اني ممكن ان اتناول رز في الإفطار واي رز ذلك الذي يحمل اسم الرز فقط .
بعد يومين من وصولنا قامت قوات الهندسة بزرع المنطقة الامامية لنا من جهة العدو في سفح الوادي بالألغام وقام ضابط الهندسة بشرح مفصل عن حقول الألغام والأماكن الممنوع والمسموح التجول فيها , وبدأنا نحن بحفر الملاجئ تحت الأرض وكنا نستعمل في الأماكن الصخرية قلم من الفولاذ وشاكوش او مطرقة حديد كبيرة لحفر الملاجئ حيث كانت العملية نحت في الصخر واخذ العمل منا عدة ايام بعد ذلك اصبحت لدينا حفر ننام فيها وبعد ذلك صدرت الأوامر بحفر خنادق حول راس الجبل للحركة والقتال واخذت منا أيام عديدة كذلك , وكنا طول تلك الفترة نقوم بإصلاح ملاجئ النوم التي كانت سقوفها غير محكمة وتسقط بشكل دائم نتيجة الامطار الغزيرة ولأنها من الأشجار التي قطعناها من الجبل , وكان حفر الخنادق متعب جدا كذلك لان راس الجبل كان صخور صلبة وقد تفنن المقاتلين في الحفر وتنظيم الخنادق ومواضع القتال وملئت أكياس الرمل بالصخور المتكسرة فصارت اكثر صلابة من أكياس الرمل او التراب التي نستعملها عادة , وخلال أوقات فراغنا كنا نتجول في الجبل ففي احد الأيام عثرنا في احدى زوايا الجبل على بيت مبني من الحجر جدرانه سميكة جدا تصل سماكتها الى اكثر من نصف متر ويتكون من طابقين , الطابق الأعلى فيه بقايا اثاث خشبي والطابق الأرضي جزء منه حضيرة حيوانات والجزء الثاني ثلاث غرف تستعمل كمخازن فيها أكياس من الخيش الفارغة وبراميل خشبية ومخازن محفورة في الصخر تحتوي على كميات قليلة من الحبوب وبعض التين المجفف كان لذيذ جدا وقد اكلنا بعض منه فأعطانا طاقة هائلة , والظاهر ان السكان نتيجة للعمليات العسكرية هجروا البيت قبل فترة قصيرة لان رائحة الحيوانات كانت ماتزال في الطابق الأرضي وقد اخذوا متاعهم وحيواناتهم وطعامهم , الغريب في ذلك الجبل الذي اثار انتباهنا هو ان بين كل مجموعة اشجار بين خمسة أشجار وثمانية أشجار شجرة مليئة بالحطب من الأعلى وعندما تشاهد تلك الشجرة عن بعد كأنها تسريحة شعر عالية لامرأة تقف بين الأشجار على شكل مخزن وقد اصبح شكل الشجرة من الأعلى دائري من كثرة الحطب الذي يتم وضعه في وسطها وتثبيته على شكل حزم كبيرة وكان قطر تلك الأشجار (المخازن ) أربعة امتار تقريبا انها طريقة ذكية لخزن الحطب حماية له من الحشرات والامطار الكثيرة , كنا ناكل من الأشجار المنتشرة في الجبل كالجوز واللوز ونقوم بشوي الكستنة والبلوط على النيران التي نشعلها معظم الوقت للتدفئة.
في عصر يوم 3 نوفمبر وقد كان الجو صافيا والقمر يضيء المنطقة حضر الينا احد ضباط الرصد المدفعي فشرح لنا الجبهة التي امامنا ومواضع العدو فيها ومواضع قطعاتنا , فإلى الامام منا من جهة اليمين يمكننا رؤية جبل هرزلة العراقي الشامخ يمتد بشكل طولي بدايته على يميننا تبعد عنا ا2 كيلومتر ونهايته تمتد الى الامام وهناك فتحة واسعة بعد راس الجبل وعلى اليسار الفتحة يبدأ جبل حديد العراقي ويمتد بشكل افقي , وشكل الجبلين يشبه الرقم 6 باللعة العربية وراس الرقم 6 الفتحة الواسعة بين الجبلين والتي ذكرتها وقد انتشرت قطعات الفرقة السابعة (ونحن من القطعات التي تجحفلت معها) في كل مكان ماعدا بداية جبل حديد من جهة الفتحة الواسعة والتي تفصله عن جبل هرزلة وراس جبل حديد يحتله الايرانيون مع جزء من يسار الفتحة واما المسافة بيننا وبين الجبلين والفتحة التي بينهما أربع كيلومترات تقريبا فهي ارض وادي متموج فيه عدة جداول مائية صغيرة والجبال والوادي بأكمله مليء بالأشجار الكثيفة المختلفة الأنواع .
في مساء ذلك اليوم وفي تمام الساعة التاسعة والنصف نزلت مع خمسة مقاتلين الى أحد الوديان القريبة لقطع بعض من الأشجار الصغيرة التي تملء الوادي لكي نقوم بإصلاح سقوف الملاجئ التي كانت تنهار علينا بشكل مستمر لعدم وجود نايلون او خشب عريض واخذنا معنا عدة فؤوس ومنشار يدوي صغير , ما ان وصلنا الى الأشجار وقطعنا أول شجر حيث اصبحت الساعة العاشرة مساء بالضبط فسمعنا أصوات رصاص بعيد فصعدنا قليلا لنرى مصدره فشاهدنا الرصاص يأتي من الفتحة التي بين الجبلين في كل الاتجاهات وقد ازدادت كثافته بسرعة وكانه شلال من النيران الملتهبة فتحت على الوادي من الخلف فعلمنا ان هجوما إيرانيا بريا قد بدا علينا لان لا احد في الجبهة يرمي عتاد خفيف الا اذا كان هجوم والقتال – المناوشات في الجبهة في الأوقات الاعتيادية عادة ما تكون بالأسلحة الثقيلة , فتركنا الشجرة على الأرض وصعدنا بسرعة الى الأعلى حيث ملاجئنا و مواضع القتال واخذنا بتحضير العتاد المختلف ووضعه في خنادق القتال واخذ كل منا ما يكفيه من الماء وخلال فترة وجيزة اجتاز الإيرانيين الوادي الكبير وسمعنا أصواتهم من بعيد وكانه صوت تظاهرات او صوت مشجعي كرة القدم عندما يفوز فريقهم وقد وصلوا الى الوادي الذي تحتنا في فترة اقل من نصف ساعة وذلك لان الوادي كان فارغ من أي قطعات وقد اخذنا نطلق فوقهم قنابل تنوير مضيئة لنرى بوضوح اكثر, لقد كانت اول موجة منهم وصلت تحتنا من الانتحاريين وهم يلبسون الاكفان البيضاء وبيدهم سيوف ويصرخون الله اكبر وقد فتحوا حقوق الألغام التي تفصلنا عن الوادي بأجسامهم وقد كانت اشلائهم تتطاير في ارجاء المكان وخلال عشر دقائق وصلت الموجة الثانية على دراجات نارية تحمل كل دراجة ثلاثة اشخاص وقد قاموا بنصب جهاز امبلفاير للبث الصوتي يعمل على بطارية السيارة وتم تعليق السماعات على الأشجار تحتنا واخذت تبث بصوت مرتفع جدا عزاء مقتل الامام الحسين (ع) التي نسمعها عادة في عاشوراء بصوت قارئ عراقي معروف في تلك الأيام لتشجيع المقاتلين الإيرانيين للقتال وقامت مجموعة الدراجات النارية بنصب هاونات خفيفة في الوادي على شكل نصف قوس وبذلك بدأ الهجوم و دخلوا علينا الإيرانيين في معركة وكأنهم المسلمين ونحن الكفار في احدى الأفلام التاريخية وقد اصابتنا الحيرة من سلوكهم الغريب ذلك لأننا لم يسبق ان التحمنا بالإيرانيين بذلك الشكل وبتلك الكيفية وتلك الجموع الغفيرة واصوات السماعات في جوف الوادي , وصلت موجة ثالثة فيها جنود إيرانيين نظاميين وقد انتشروا في الوادي وبدأت الجموع تحاول الصعود علينا بتسلق الجبل واخذنا بقتالهم بتفوق عالي عليهم ولم يتمكن أي منهم من الوصول الينا وقد استبسل مقاتلينا في القتال , بعد ساعة تقريبا من القتال قام رامي رشاشة الدوشكا الثقيلة الذي كان يرمي على الإيرانيين بشكل متقطع والذي يقع موضعه على يسارنا بالتعرف على مكان بث سماعات الصوت الامبليفاير وتمكن من اصابته وتدميره فتم اسكاته نهائيا وتحول الوادي الى ضوضاء سرعان ما اختلط صراخ الجرحى الإيرانيين مع أصوات الانفجارات والأسلحة المختلفة , وخلال تلك الليلة ومن كثرة القصف علينا واصوات الانفجارات لم نكن نسمع بعضنا البعض عندما نتكلم الا بصعوبة بالغة وعند منتصف الليل تراجع الايرانيون وبدأ القصف المدفعي من قبلهم علينا فتراجع بعضنا الى ملاجئنا وجلس بعضنا في داخل الخنادق و مواضع القتال لحماية نفسه من القصف وبعد اقل من ساعة توقف القصف وجاءت الينا موجات عديدة جديدة من المقاتلين المشاة معهم مدافع هاون وصواريخ محمولة وقد اشتبكنا معهم في قتال شديد الى الساعة الثالثة صباحا تقريبا عندها عاود القصف المدفعي لكن هذه المرة بالمدفعية الثقيلة ومقاتليهم مازالوا يحاولون التسلق والوصول الينا وقبل الساعة الرابعة شعرت بتعب شديد ونعاس ولم أتمكن من الاستمرار في الرمي فقلت لزميلي سوف اتراجع للخلف لأستريح لأني تعبت فانسحبت الى موضع خلفي وقد وجدت في تلك الاجواء ملجأ محفور حديثا تحت الأرض وبدون سقف مساحته مترين طول ومترين عرض وعمقه متر ونصف تقريبا في حافة الجبل وفي الجهة اليسرى بجانب الملجأ كانت هناك شجرة بلوط كبيرة تحمي الملجأ من الأعلى فتمددت في الزاوية لأكون في حماية الشجرة وما ان وضعت راسي على الأرض حتى نمت ولا اعرف كم مضى من الوقت وانا نائم وكانت أصوات الانفجارات والرصاص تصم الاذان وفجأة فزعت من صوت انفجار هائل وسقوط جزء من الشجرة على الأرض بجانبي وحرارة شديدة قريبة من وجهي ففتحت عيني لأشاهد قطعة من الجمر الأحمر تبعد عن وجهي اقل من ذراع فقد كانت شظية مدفع ثقيل طولها ثلاثين سنتمتر تقريبا مازالت ساخنة تشع حرارة بلون الجمر فتمالكت نفسي وحمدت الله على ان الشظية لم تصيبني بل انغرزت في الأرض الطينية في ارض الملجأ وتناولت بندقيتي وصعدت الى الأعلى حيث المعركة مازالت مستمرة وقد انقطع القصف المعادي علينا وخف القتال قليلا قليلا , وما ان انبلج الصباح حتى كانت المفاجأة المرعبة لنا حيث شاهدنا الاف الجثث الإيرانية متكدسة طبقات بعضها فوق بعض في الوادي وعلى سفح الجبل من جهة الوادي وقد كانت بعض الجثث في أجزاء من الجبل لا تبعد سوى امتار قليلة تحت مواضع قتالنا وقد كانت اكداس من القتلى لم أرى مثلها حتى في الأفلام ولو تم تصويرها في تلك الأيام ونشرها في الصحف لأثارت ضجة عالمية من كثرة القتلى وتوقفت الحرب في ذلك الوقت المبكر لاكتشاف العالم فضاعتها .
الحمد لله لم يتمكن جندي إيراني واحد من الصعود والوصول الى مواضعنا وما ان اصبح الضوء يملئ المكان ويغسل وجوهنا المتعبة من قتال تلك الليلة الطويلة المتعبة وقد تبين للجيش الإيراني تلك الخسارة في مواجهتنا حتى بدا القصف المدفعي الإيراني الكثيف علينا وقد بدأ بالضبط من نقطة مواضع قتالنا المطلة على الوادي فانسحبنا الى الخلف الى ملاجئنا وخلال خمسة دقائق وصل القصف الى ملاجئنا فتركنا الملاجئ ونزلنا الى الجهة الثانية من الجبل وكان القصف على شكل رشق تربيع واعتقد ان عدد المدافع التي كانت تقصف الفوج الثالث الذي انا فيه تزيد على الخمسين مدفع ترمي قنابلها رمية واحدة على شكل خطوط مستقيمة تمشط كل متر من الأرض في الجبل ونحن ننسحب مشيا على الاقدام الى ان زاد القصف وتحول المشي الى ركض وطاردتنا المدفعية لمسافة تصل الى عشرة كيلومتر كنا خلالها نركض ونختبئ بين الأشجار وخلف الصخور واستمر ذلك القصف الرهيب ساعتين تقريبا وفي اخر رشقات المدفعية قد وجدت نفسي في وادي اجرد ليس فيه اي شجرة او حفرة تقيني من القصف فلاحظت شق في جدار الوادي فدخلت فيه وتمددت على طولي في ذلك الشق وقد وضعت يدي على وجهي حماية من الشظايا وبعد لحظات نزلت عدة قنابل في وقت واحد وقد تطايرت الشظايا والصخور المتكسرة من تحت الشق وفوفه وتساقطت شظايا اخرى على الصخور فوقي كأنها وابل من المطر الشديد فتكسرت أجزاء من الشق وسقطت علي والحمد لله لم تصيبني أي من تلك الشظايا او الصخور, بقيت متمدد في الشق بعد ان وجدته المكان الأكثر امنا لفترة لا تقل عن ربع ساعة ثم توقف القصف فخرجت من الشق ورأيت بعض المقاتلين متفرقين في الوديان واخذنا بالعودة الى مواضعنا نمشي بحذر خوفا من عودة القصف علينا وفي طريقنا لاحظنا وصول مواد تمويل وذخائر الينا وقطعات عراقية جديدة وفي الساعة الثانية عشر والنصف ظهرا وصلنا الى مواضعنا وقد احدث القصف المدفعي الإيراني كمية كبيرة من الحفر وقطع عشرات الأشجار واخذنا بالأكل مباشرة ونام البعض منا وفي تلك الاثناء جاءت طائرات هليكوبتر سمتيه عراقية وحلقت فوقنا مباشرة واخذت ترمي على الإيرانيين براجمات صواريخ أحدثت أصوات مرعبة على الأرض كانت نتيجتها ان تخلل الضغط الجوي فوقنا فشعرت بهبوط وتعب مفاجئ واستمرت الطائرات الهليكوبتر العراقية كل عشر طائرات تأتي مرة واحدة وتقف فوقنا في الجو وتقصف الإيرانيين لأكثر من ثلاث ساعات مستمرة وقد رفعت تلك الموجات من القصف العراقي معنوياتنا وكان الوادي الفسيح مليء بالاف الجثث الإيرانية التي ظلت متروكة في ذلك الجو البارد الممطر عدة أيام كانت القطعات الإيرانية تتقهقر وتنهزم نتيجة لنزول قطعاتنا من جبل هرزلة الى الوادي الكبير وحصر القطعات الإيرانية المنسحبة التي فشلت في اقتحام كافة الالوية ومن ضمنها لوائنا , لقد كان لوائنا ضمن قطعات الفرقة السابعة ومعنا بعض الوحدات المساندة من القوات الخاصة والمغاوير والمدفعية والهاونات في حين ان عدد القطعات الإيرانية التي هاجمتنا يزيد على ثمانية فرق إيرانية.
استمرت المناوشات بيننا وبينهم أيام قليلة وقد سمح الجيش العراقي للإيرانيين بسحب قتلاهم من الوديان دون التعرض لهم وتلك الاخلاق لم نلمسها من الإيرانيين طوال حربنا معهم حيث لم يكن لديهم أي ضمير او إنسانية في التعامل معنا في مثل تلك الحالات حيث كانوا يقتلون الاسرى العراقيين في ارض المعركة عندما لا يتمكنون من اخذهم الى داخل ايران , وحين استقر الوضع بعد أسبوعين وانسحب الإيرانيين فتحت لنا الاجازات فغادرت الى مدينة السليمانية ومنها الى كركوك فبغداد وقد وصلت البيت وانا غير مصدق ما حصل لي خلال معركة بنجوين , واتذكر اني لم ادخل الى البيت مباشرة وانما جلست في حديقة البيت و خلعت حذائي العسكري لأني لم اخلعه طول ثلاثة أسابيع ونزعت الجوارب فنزلت طبقة من الجلد مع الجوارب وظهر جلد لونه زهري قد اصابني بالم لا يوصف لكن بطن وكعب القدم كان سليم ويمكنني المشي بشكل طبيعي وقد عالجت ذلك الجلد المتهرئ بوضع الحناء عليه لمدة يوم كامل وبقيت قدماي أسبوع بدون ان يمسها الماء حتى تجف الجروح والحمد لله رجعت كما كانت بفضل الحناء .
لغاية هذه اللحظة لا أتمكن من نسيان معركة بنجوين كيف بدأت حركتنا في البداية الى قاطع عمليات مندلي وكمية الانفعالات التي رافقتنا ونحن في الطريق وكيف تغير اتجاهنا نحو الشمال وصولنا الى بنجوين وصعودنا ذلك الجبل الشاهق في الجو الممطر وكيف بدأ الهجوم علينا عند الساعة العاشرة ليلا عندما بدأ الهجوم بالأسلحة الخفيفة وكيف وصلت الينا الموجات البشرية وفي صبيحة ليلة المعركة كيف كان شعورنا عندما شاهدنا الاف القتلى الإيرانيين تحتنا وكيف نمت من كثر التعب في الملجأ تحت الشجرة والشظية الملعونة والقصف المدفعي في صباح اليوم التالي الذي لاحقنا من مكان الى اخر واختبائي في شق الجبل وسقوط الشظايا مثل المطر حولي.
صحيح ان الحرب انتهت منذ سنوات عديدة وأصبحت تاريخ وقد أطلق عليها العالم فيما بعد الحرب المنسية لان بعدها مر العراق بسلسلة حروب وغزوات وحصار وحروب مختلفة مازالت مستمر لغاية الان، لكن من الواجب الإنساني تذكر تلك الفترة المبكرة من تاريخ الحروب العراقية وكتابته على شكل شهادات ليتمكن العالم من الاتعاظ من تلك التجربة القاسية، أتمنى ان أتمكن من تأسيس منتدى ادباء الحرب المنسية لكتابة تاريخ تلك الحرب الملعونة بشكل ادبي سردي احترافي بعيد عن السياسة لتكون شاهدا على التاريخ.
بسام شكري
Bassam343@yahoo.com