فجوات أخلاقية في السياسات الغربية: عُمدة باريس أنموذجا
منذ 5 ساعات
يجتهد بعض ساسة الغرب في خلق عوالم معقدة للآخرين، لكن هذه العوالم بقدر ما تجلب العناء والشقاء والظلم والاضطهاد لشعوب كثيرة، فإنها أيضا تجلب الهزيمة والعار لهؤلاء الساسة، حين يقفون عاجزين عن حل الاستعصاءات السياسية التي صنعوها بأيديهم، بغرض الإيقاع بغيرهم.
لقد نجحت واشنطن ولندن وباريس على مرّ عقود من الزمن، في محو دول وإنشاء أخرى، واحتلال الكثير أيضا، وإسقاط أنظمة وإضفاء الشرعية على أخرى، لكنهم عجزوا عن تغييب حركات تحررية إلى الأبد، أو منعهم من الوصول إلى السلطة، أو إطفاء شعلة المقاومة لدى الشعوب التي استعمروها. وفي كل محطة ينكسر فيها مشروعهم وتُهزم فيها استراتيجياتهم، يختل توازنهم فيفقدون الإحساس بالحياء السياسي، ويظهر كل ذلك على شكل تصريحات إقصائية وخطب استعلائية، لا يمكن وصفها إلا بأنها فجوات أخلاقية كبرى، تفوح منها رائحة تصور مريض وبغيض، بأنهم أمم استثنائية يتفوقون على غيرهم من الأمم والشعوب، وهذا التفوق من وجهة نظرهم يعطيهم حقوقا مضافة في الفكر، وفي ازدراء وإرغام الآخرين على العيش في ظل قيم مستوردة. وفي هذا السياق تأتي الأفكار التي نشرتها عُمدة باريس آن هيدالغو في صحيفة «لوموند» الفرنسية الأسبوع المنصرم.
لقد آلت هذه السيدة على نفسها أن تُحاضر على شعب أفغانستان، وأن تقرر بالنيابة عنه أسلوب وطريقة حياته، كما أخذت على عاتقها إصدار الأحكام على الآخرين من دون وقائع من الزمن الحاضر، فهي تقول إنه لا يمكنها تصديق أن حركة طالبان الأفغانية ستبقى بعيدة عن «القاعدة» وتنظيم «الدولة»، وتؤكد أن هذا البلد سيعود مجددا إلى أن يكون ملاذا آمنا للجهاديين، ومنه ستنطلق مرة أخرى الأعمال الإرهابية ضد العالم الغربي. أما على صعيد المجتمع الأفغاني فتؤكد على أن النساء الأفغانيات سيعدن مجددا إلى البرقع ولا يخرجن من بيوتهن إلا بمرافقة رجل، كما ستخلو المدارس من الإناث الصغيرات، وأن مصيرهن سيكون الزواج بالإكراه، وأنها لا تستطيع رؤية اللاجئين الأفغان على قارعة الطرقات في أوروبا، بل تقول إنها ترفض ذلك من منطلق القناعة الإنسانية أولا، والقناعة النسوية ثانيا. وفي نهاية رسالتها تضع حلا واحدا لكل هذا السيناريو السيئ الذي صنعته طالبان، حسب وجهة نظرها، فتقول «لن ندع هذا البلد ومواطنيه العاشقين للحرية يختفون في غموض نظام متعصب. وعليه يجب أن يكون المجتمع الدولي وأوروبا وفرنسا في الموعد»، من خلال تنظيم عدد من الأفغان حول أحمد شاه مسعود الذي اغتيل والده في سبتمبر/ أيلول 2001، وتشكيل مقاومة أفغانية مدعومة من فرنسا والغرب، كي لا يدع الغرب الأفغان يخاطرون بحياتهم وحيدين في مواجهة طالبان، وكذلك كي لا يهمس الضمير الغربي في آذانهم يوما، باسم أفغانستان ويسألهم لماذا تركوا شعبها وحيدا في المأساة.
- اقتباس :
- الفجوة بين السياسة والأخلاق تظهر في الأفعال العدوانية والتدخل في شؤون الغير والمتاجرة بحقوق الإنسان
إن ما قالته عمدة باريس، على الرغم من أنه صوت نشاز، لكنه لم يكن وحيدا ولم يخرج عن سياق الأصوات التي خرجت من الغرب بعد هزيمتهم في أفغانستان. لقد كانوا صوتا واحدا يؤمن بالاستثنائية الغربية، ويعتقدون بأنهم بشر من الدرجة الأولى وغيرهم من العاشرة، ولأنها سليلة نابليون الذي كان يقول، أنا أحلم أن أذهب على ظهر فيل إلى منطقة آسيا وعلى رأسي عمامة، وأُؤسس دينا جديدا وبيدي قرآن وضعته أنا شخصيا، فإنها تشعر بالهزيمة المضاعفة حين يهوي مشروعهم فجأة، بعد أن بذلوا فيه الأموال والأرواح والجهود، على مدار عقدين من الزمن، ولأن من أسقط مشروعهم شعب مسلم وحركة إسلامية، فإن عقلها السياسي لا يمكن أن يتقبل بأي حال من الأحوال أن يأتي هذا التحدي دفعة واحدة. فالجو السياسي والاجتماعي العام في فرنسا يعيش في ظلال الإسلاموفوبيا، وأن الإسلام في نظرها ونظر الغرب، لا يمكن أن يكون صفة لدولة، بل هو مجرد أسلوب شخصي فقط واسمه وطقوسه يجب أن تبقى طي الكتمان، كما يرون، ولأن السياسات الغربية لم تكن يوما أخلاقية، فإنه يحصل ما نراه اليوم من مواقف يمينية متطرفة، ورفض لقيم الآخرين، وكلما ازدادت الفجوة بين السياسة والأخلاق نجد ذلك يظهر واضحا في الأفعال العدوانية والتدخل في شؤون الغير والمتاجرة بحقوق الإنسان.
في فترة من التاريخ كانت حقوق الإنسان تنمو وتتحقق في وعاء المواطنة، كان كل تراث الثورة الفرنسية والدستور الأمريكي قد خرج من من رحم الفلسفة السياسية الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهي فلسفة شددت على فكرة الحق المدني، ومن هذه الفكرة التي ارتبطت أيضا مع صعود النزعة الإنسانية ظهرت فكرة حقوق الإنسان التي تبلورت بالثورات اللاحقة. أما اليوم فحقوق الإنسان في العقل السياسي الغربي تتخذ منحى آخر، كانت في الماضي داخل كيان إطاره وطني، اليوم حقوق الإنسان أرادها الغرب أن تكون عابرة للكيانات السياسية، ويثقف بأنها أعلى من حقوق المواطنة، ليس حبا بالإنسان، بل كي تكون وسيلة للتدخل، بمعنى أنا أملك الحق في أن أتدخل لإدافع عنك بتعلة أنني أدافع عن حقوق الإنسان لأنها تنتهك في ديارك، وبذلك تنعدم السيادة وتنتفي مجموعة القوانين والتشريعات الخاصة بكل بلد. حقوق الإنسان اليوم أصبحت أيديولوجيا، أي أصبحت قضية برسم التسخير السياسي والأيديولوجي من طرف القوى الكبرى التي تستخدمها كوسيلة، هي عينها التي استخدمتها في فترات ماضية وفككت بها امبراطوريات مثل الامبراطورية العثمانية، بسبب فكرة حقوق الأقليات والإصلاحات وغيرها. اليوم يتكرر السيناريو نفسه وهو أخذ حقوق الإنسان إلى نفق الهويات الفرعية، وبذلك تصبح العودة بالإنسان إلى عصر ما قبل الدولة مسألة حتمية.
إن الأحداث الأخيرة في أفغانستان دفعت الكثير من الساسة الغربيين، وبعض وسائل الإعلام الدولية إلى تقديم الروايات التي تعزز وجهات نظرهم، والتي تخدم مصالحهم الذاتية وأجنداتهم السياسية، ولكنها ليست بالضرورة تعكس الواقع على الأرض، إن سياساتهم اليوم قائمة على الاستثمار في الأقليات، وصنع معارضات بهدف تشكيل شبكة تُمكّن من الضغط على الأغلبية، إنهم يسعون لتشكيل لوحة عامة للعالم بدون تمييز، لذلك الحملة الفرنسية اليوم تركز على أفغانستان لأنهم لا يريدون أن تكون هنالك دولة مرتبطة بتقاليدها الخاصة وثقافتها الدينية. ومن خلال هذا الحدث تطمح فرنسا إلى أن يكون لها دور أكبر في العالم مما هو عليه الان، لرفع ثقل وزنها في الميزان الدولي، وإعادة تأثيرها في المستعمرات السابقة، لذلك هي تحاول التدخل في كل مكان في العالم يتحدثون فيه عن حقوق الإنسان. لقد غاب عن ذهن عمدة باريس أن تقول لنا إن كان ضميرها قد همس لها يوما، متسائلا عن سبب المآسي والظلم ونهب الثروات، واستعباد البشر، التي مارستها بلادها على مدى عقود في افريقيا؟ وإذا كانت ستبذل قصارى جهدها للترحيب بكرامة باللاجئين الأفغان في باريس، فعلام بلادها تحارب مواطنيها المسلمين في معتقداتهم الدينية؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية