١٠٠عام على تأسيـس الدولة العـراقية المعاصرة
قاسم محمد داود
١٠٠عــام على تأسيـس الدولة العـراقية الــمعاصرة
في آذار من عام 1921 عقد في القاهرة مؤتمر ترأسه ونستون تشرشل وكان وزيراً للمستعمرات وحضور أربعين موظفاً إدارياً وسياسياً وعسكرياً من البريطانيين الذين كانوا يشغلون مناصب هامة في مختلف أرجاء الوطن العربي آنذاك. ويعتبر هذا المؤتمر من أهم المؤتمرات التي بحث فيها مصير العرب بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا للمنطقة في الحرب العالمية الأولى، تحدد خلال المؤتمر المستقبل السياسي لعديد من دول الشرق الأوسط كالعراق وفلسطين وشرق الأردن. وفي المؤتمر تم ترشيح الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق مع توصية بأجراء استفتاء لتأكيد التنصيب، ولقد كان السير بيرسي كوكس المعين حديثاً كمندوب سامي في العراق مسؤولاً عن تنفيذ الاستفتاء. وفي 11 تموز 1921 مررت الحكومة الانتقالية إلى المجلس التأسيسي الذي شكل من قبل كوكس قبيل مؤتمر القاهرة، والذي تولى من ضمن العديد من المهام انتخاب ملك على عرش العراق وتشكيل الوزارات والمؤسسات والدوائر العراقية واختيار الساسة العراقيين لتولي مهام الحكومة الانتقالية التي شكلت بعد ذلك برئاسة عبد الرحمن الكيلاني نقيب الأشراف في بغداد. قرر مجلس الوزراء تنصيب فيصل ملكاً على العراق (على أن تكون حكومته دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون)، وبعد أجراء الاستفتاء العام للنظر في درجة انطباق هذا القرار على رغائب الشعب العراقي، اسفرت نتيجة الاستفتاء العام عن 97% لصالح الملك فيصل الأول فتوج رسمياً في 23 آب 1921.
جرت مراسم التتويج في ساحة مبنى القشلة ببغداد لتبدأ مرحلة مفصلية في تاريخ العراق الحديث وبدء العهد الملكي وتأسيس الدولة العراقية الحديثة، ففي هذا اليوم بدأ الملك فيصل الأول عهده في وضع اللبنات الأولى لمؤسسات الدولة والتي لا تزال معظم أنظمتها قائمة حتى يومنا هذا، مما جعل الكثيرين يطلقون عليه لقب مؤسس الدولة العراقية الحديثة. استمرت فترة الحكم الملكي قرابة 37 عاماً، وهو الذي أنشأ شكل الدولة الوطنية العراقية وتعاقب على حكم العراق خلالها ثلاثة ملوك ووصي على العرش، كان اولهم فيصل الأول الذي أستمر حكمه نحو أثنى عشر عاماً (1921ــ 1933) وآخرهم الملك فيصل الثاني (ثالث وآخر ملوك الأسرة الهاشمية بالعراق. ولد في 2 مايس 1935ــ قتل يوم 14 تموز 1958) الذي آل العرش أليه عقب مقتل والده الملك غازي في حادث تحطم سيارته المشكوك فيه عام 1939 وأصبح ملكاً تحت وصاية خاله الأمير عبد الإله بن علي حتى بلغ السن القانونية للحكم فتوج ملكاً وأستمر في الحكم حتى مقتله بقصر الرحاب بالعاصمة بغداد بانقلاب عسكري صباح يوم 14 تموز 1958 ليبدأ بعدها العهد الجمهوري. وشهدت المرحلة الملكية إنجازات كبيرة في كثير من المجالات كما أخفقت في مجالات أخرى، وهناك من يعتبر أن المرحلة الملكية كانت أفضل الفترات التي مر بها العراق، وأن من أبرز إنجازات الملكية هي وضع وتطبيق القوانين التي أسست للدولة العراقية الحديثة، وإنجاز مشاريع البنية التحتية للبلاد والتي لا تزال موجودة إلى الآن. ومع ارتفاع مردودات العراق من النفط أصبحت الحاجة ملحة إلى إنشاء مجلس الأعمار الذي حقق إنجازات مهمة آنذاك ويمكن القول إن مجلس الإعمار كان خطوة رائدة في العهد الملكي فقد نجح المجلس في إنشاء مشاريع كبيرة من البنى التحتية ومجالات التعليم والأسكان والمستشفيات والطرق والسدود والمصانع وسكك الحديد والجسور وغيرها من المشاريع حيث تم أنجاز العديد منها في العهد الملكي وبعضها استمر حتى بعد انتهاء الملكية ولاتزال قائمة إلى الآن. ويحسب للملك فيصل الأول نجاحه في استيعاب الاختلافات العرقية والطائفية في العراق، وجاء بطبقة سياسية كان يقودها أثناء الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد الوجود العثماني. وكان هؤلاء الضباط ينظرون إليه بإكبار لما يتمتع به من شخصية قيادية محنكة، وتسنموا مناصب حكومية عليا بعد أن استفاد من تجربته في حكم سوريا واستطاع أن يدير تعقيدات العراق بذكاء، وله وجهة نظر واقعية في سياسة التعاطي مع البريطانيين، حيث رفض المواجهة المباشرة وكان يقول: "نأخذ منهم شيئاً ثم نطالب بشيء آخر بالتدريج" وسياسته هذه فيها الكثير من الحكمة. ومن أبرز سمات النظام الملكي في العراق أنه كان ملكياً دستورياً مستوحى من النظام الملكي البريطاني، وهي مرحلة متقدمة جداً بالمقارنة مع أنظمة دول المنطقة والمرحلة الزمنية، تجعل الكثير من السلطات بيد رئيس الوزراء ومجلس النواب مع صلاحيات محدودة للملك كما ورد في " القانون الأساسي العراقي لعام 1925" (الدستور): " الملك رأس الدولة الأعلى، وهو الذي يصدق القوانين ويأمر بنشرها، ويراقب تنفيذها، وبأمره توضع الأنظمة لأجل تطبيق أحكام القوانين ضمن ما هو مصرح به فيها". وهذا الأمر بحد ذاته يشكل علامة مهمة وإيجابية في النظام السياسي العراقي آنذاك، خاصة أن أغلب دول المنطقة مازالت غير مستقلة مما يمكننا القول إنه كنظام سياسي يعد نموذجياً في حينه. " ويعتبر (القانون الأساسي العراقي) لعام 1925 من الدساتير الناهضة، وذلك لأنه يركز على حقوق الإنسان، والحريات الأساسية المصانة، فهو يتكون من مقدمة وعشرة أبواب، حيث يذكر في الباب الأول (حقوق الشعب) نصوصاً قانونية تتعلق بالجنسية العراقية، وتساوي العراقيين في الحقوق أمام القانون، وان اختلفوا في القومية، والدين، واللغة، وأن الحرية الشخصية مصونة للجميع، أن حقوق التملك محترمة وغيرها من الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور للشعب العراقي. وتحدث الدستور العراقي عام 1925 في الباب الثاني عن (الملك وحقوقه)، وفي الباب الثالث تحدث عن (السلطة التشريعية) وأعتبرها منوطة بمجلس الأمة مع الملك، وأن مجلس الأمة يتألف من مجلس الأعيان والنواب، وللسلطة التشريعية حق وضع القوانين، وتعديلها والغائها. وتحدث دستور عام 1925 في الباب الرابع عن (تشكيل الوزارات العراقية) وعدد وزراء الدولة، وأن مجلس الوزراء هو القائم بإدارة شؤون الدولة. وفي الباب الخامس تحدث دستور 1925 عن (السلطة القضائية) وتقسيم المحاكم، وتعيين كيفية المراقبة عليها، وتنفيذ أحكامها، وأن جميع المحاكمات يجب أن تجري علناً.
وعن إدارة الإقليم العراقي، فقد قسم دستور عام 1925 العراق إلى مناطق إدارية وأوجب تعيين هذه المناطق وأنواعها واسماؤها وكيفية تأسيس واختصاص موظفيها وألقابهم بقانون خاص. أما في الباب الثامن والتاسع والعاشر فقد تحدث دستور عام 1925 عن تأييد القوانين والأحكام وتبديل أحكام القانون الأساسي والمواد العمومية المتعلقة بهذا الدستور. علماً أن نوع الحكم يعتبر ملكياً مقيد بالدستور." يؤكد هذا الدستور أن النظام السياسي كان متقدماً ويقترب من النظم السياسية في أوروبا. ومن يقرأ تاريخ هذه المرحلة يجد أن عملية بناء العراق آنذاك امتزجت برغبة وطنية كبيرة مع عدم الابتعاد عن بريطانيا، التي ارتبطت مع العراق بمجموعة معاهدات كان الكثير منها مرفوضاً من قبل القوى السياسية آنذاك، ولكن في الوقت نفسه نجد أن الملك فيصل الأول أتسم برجاحة العقل وسياسته العقلانية سواء في الداخل أو الخارج فقد نجح في خلق أجواء مناسبة مع بريطانيا أو غيرها من دول العالم. مكنته من النجاح في تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وهذا ما تجلى بوضوح في معاهد 1930 التي أقرت بموجبها بريطانيا استقلال العراق وأنهاء حالة الانتداب. وهذه مرحلة مهمة جداً مهدت الطريق لنيل الاستقلال الكامل. ففي الثالث من تشرين الأول عام 1932 نال العراق استقلاله ونُقلت البلاد من إقليم خاضع إلى الانتداب البريطاني إلى دولة رقم 57 في العالم، باستقلال وصلاحيات كاملة وفقاً للقانون الدولي، بعد أن ظل العراق 12 عاماً تحت سلطة الانتداب. وهذا ما يجعلنا نقول إن مرحلة تأسيس الدولة العراقية العام 1921 كانت تسير بخطى صحيحة وثابته، وفق رؤية سياسية راعت مصالح العراق وشعبه، وتمكنت من تحقيق إنجازات كبيرة في فترة زمنية ليست بالطويلة وبموارد اقتصادية قليلة. لقد أسهم قيام الدولة العراقية في توحيد الجماعات الموجودة في البلاد في ذلك الوقت، تحت راية دولة واحدة في مهمة عُدت من أصعب مهام الملك فيصل الأول، إذ للمرة الأولى اجتمعت الجماعات المكونة للشعب العراقي في عام 1921 لتؤسس لقيام دولة جديدة. ولم يسبق للعراقيين أن تجمعت كلمتهم مثلما حدث وقت تتويج الملك فيصل الأول الذي تمتع بتأييد شعبي واسع لتولي العرش.