الانتخابات لم تنقذ العراق
سيّار الجميل
الانتخابات لم تنقذ العراق
يقترب موعد الانتخابات العراقية في 10 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، إذ ينتهي دور الحكومة وولاية البرلمان الحالي، وستتبدل الوجوه حتما والأقنعة معا. وعليه، العراقيون منشغلون فكريا، ومضطربون نفسيا، ومنقسمون كالعادة بين مؤيد للانتخابات ومعارض لها، وهم يعيشون حالة تهافت وفوضى منذ 2003. وتكثر التصريحات، وتزداد المناكفات، وترفع الشعارات الكاذبة في خداع الناس والعالم، كونها انتخابات حرّة ونزيهة. ولكن ما سيجري هو العكس، كالعادة المألوفة من هذا النظام الكسيح، خصوصا أن ثمّة أجندة خارجية ستفرض إرادتها على "الانتخابات" غصبا!
وكان رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، الذي تولّى منصبه في مايو/ أيار 2020، قد وعد بإجراء انتخابات مبكرّة لاسترضاء المحتجّين الذين يطالبون بإصلاح البلاد. ولكن تمّ تصفية قوّتهم على عهده، وسقط مئات القتلى وآلاف الجرحى، من دون النيْل من جذوة الوطنيين والأحرار. وكانت الانتخابات المبكّرة مطلبًا رئيسيًا للمتظاهرين المناهضين للحكومة، والذين نظّموا مظاهرات حاشدة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وقد احتجّوا على نقص الفرص الاقتصادية والفساد المستشري، واتّهموا الطبقة السياسية الحاكمة بالفساد وتبديد المشرّعين ثروة العراق النفطية، وملء جيوبهم وتبذير الأموال العامة وسرقتها مع انعدام الخدمات، واعترضوا على هيمنة إيران على العراق، بواسطة مليشياتها العميلة.
يدرك أغلب العراقيين أنّ كلّ الانتخابات يشوبها العنف والتزوير الفاضح، وبقدر ما تزداد شكواهم لمن أدخلهم النفق المظلم بإيجاد طبقة سياسية فاسدة جدّاً، فإنّ صانعها يبقى صامتاً، وهو يدرك خطورة ما يدور، وتعلم أميركا كيف انهار العراق، وانقسم كل العراقيين خلال عهود خمسة من رؤسائها. ولكنها كانت ولم تزل تبارك سياساتهم البليدة لخمسة من رؤساء حكومات العراق. ولم يعد العراقيون يثقون بالنظام الانتخابي، كما أنّ خمسة من رؤساء الحكومات، إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي وانتهاء بمصطفى الكاظمي .. وصلوا إلى السلطة من خلال التزوير وضمن أجندة أجنبية، وكانت سياساتهم فاشلة ومتوحشة ومحاصصية ومنزوعة الوطنية لمصلحة ولاءاتهم الطائفية، وهم على رأس طبقةٍ تستخدم الانتخابات والديمقراطية أداة خادعة، وهي لم تعمل أبدا لمصلحة البلاد... وعبثاً أنّ هناك من يدعو إلى وجود مراقبين دوليين لضمان الشفافية والثقة في التصويت. كما جاء في إعلان رئيس مجلس المفوضين في المفوضيّة العليا المستقلة للانتخابات، القاضي جليل عدنان خلف، والذي دعا يوم 29 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) أكثر من 75 دولة ومنظمة دولية لمراقبة الانتخابات المقرّر إجراؤها في 10 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول). وكان من المؤمل أن ينفّذ الكاظمي ما وعد به في يونيو/ حزيران 2019 ردًا على المظاهرات الحاشدة المناهضة للحكومة، ولكن لم يصدر أيّة إجراءات تقضي بالقضاء على الفساد، وإرجاع الحقوق إلى أهلها.
بعد سبع سنوات من تركة رئاسة الوزراء، يعتقد نوري المالكي أن الظروف مواتية لعودته، وتلك لعمري كارثة حقيقية. وليس مستبعدا أن يرجع هذا الرجل كرّة أخرى إلى الحكم تحت حراب المليشيات والعصابات، فهو يتمتّع بنفوذٍ كبير، ولم يزل قوّة رئيسية، على الرغم من الكوارث إبّان حكمه العراق ثماني سنوات، وقد سمحَ عام 2014 لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الاستيلاء على ثلث الأراضي العراقية، ناهيكم عن إذكاء الحرب الأهلية. وقد وصفه منتقدوه بأنه "طائفي وسارق متعجرف"، وسمّاه مؤيدوه وحلفاؤه "مختار العصر". وكان على يقين من فوزه بولاية ثالثة رئيسا للوزراء عندما فاز تحالفه الانتخابي، دولة القانون، بـ 92 مقعدًا من 328 مقعدًا في انتخابات 2014، وتاليا أجبرته المرجعية الشيعية العليا في النجف على التنحي. وفي عهده الطويل، غاصت البلاد في الفساد والمشكلات، ففقد ورقة التوت السياسية مع صعود منافسه الشيعي، مقتدى الصدر، حيث استبدل رجل الدين المؤثر رجال رئيس الوزراء السابق برجاله في معظم مؤسّسات الدولة الرئيسية.
لو انسحب الصدر صدقاً من الانتخابات المقبلة، سيكون نوري المالكي المستفيد الأكبر من انسحابه وتياره. ولمّا كان الصدر سريع التقلبات، فستبقى القوى السياسية الشيعية اليوم منقسمة. ومذ سمع المالكي ادّعاء الصدر عادت آماله بالتسلط ثانية، وبدأ يخطّط للفوز بولايةٍ جديدة، علما أنّ له تأثيره على "البيت الشيعي"، من خلال نفوذ دولته العميقة في العراق، والتي تضم "عشرات المليشيات الموالية لإيران"، وهو مقتنع بأن لديه حاليًا فرصة أكبر بنيل رئاسة الوزراء. وسيكون المستفيد الأكبر من الانتخابات، بعون إيران له وتلميع صورته، وإعادة تسويقه أفضل مرشح للزعامة، وقدرته على تهدئة التوترات بين الفصائل، ولكن على حساب إبقاء الفساد وسحق المجتمع وتفجير الطائفية ثانية واجراء التطهير السكاني، ومباركة نشوب حرب أهلية، ذلك أن المطالبة بانفصال أجزاء من العراق عن المركز في بغداد باتت مطروحة في الموصل والبصرة.
وللأسف، تعتبر كثرة من العراقيين الشيعة المالكي الخيار الأفضل لهم، على الرغم من طرده من السلطة طرداً، بسبب مسؤوليته عن انهيار أمن العراق أمام "داعش" ومجازر "سبايكر" وأنه خرّب البلاد. وقد كلفته خسارة رئاسة الوزراء الأصوات والنفوذ، وحصل على 26 مقعدًا فقط في انتخابات 2018، أي أقل بمقعدين من الصدر. وله خصمان شيعيان آخران من الوزن الثقيل، عمار الحكيم وحيدر العبادي. ومع ذلك، لا يثق مؤيدو الصدر والمتشدّدون الشيعة بهما. وعليه، من المرجّح أن الأصوات العائمة ستنتقل إلى المالكي.
وكان إياد علاوي قد أعلن انسحابه من الانتخابات، لمعرفته بالأوضاع السياسية أكثر من غيره، والنتائج الكارثية التي ستلحق بالبلاد، خصوصا أن الكاظمي أكد، في لقائه الوفود الإعلامية العربية والأجنبية في 26 أغسطس/ آب، أن "الانتخابات التشريعية المقبلة ستكون مصيرية وحاسمة". ولا يعرف كاتب هذه السطور ما الذي يقصده الكاظمي في قوله هذا.
سيحضر مائة مراقب من الأمم المتحدة و130 من الاتحاد الأوروبي، لكن حضورهما لا يمنع العراقيين من التزوير والضحك على ذقونهم بوسائل مشيطنة، من أجل إبقاء وجوه النظام وتماسيحه ووحوشه. وفي هذا السياق، قالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد: "نكرّر مناشداتنا للحكومة العراقية لاتخاذ جميع الإجراءات لحماية فريق مراقبة الانتخابات التابع لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) ومراقبي الاتحاد الأوروبي والمحليين. المراقبين وجميع الأفراد الآخرين المنتشرين في جميع أنحاء البلاد لردع تزوير الانتخابات والمساهمة في نزاهة وشفافية العملية الانتخابية". وقد تأسست بعثة "يونامي" في عام 2003 كي تقدم المساعدة في العملية الانتخابية كجزء من دورها في البلاد. لكنها كما يبدو لم تؤد الأمانة، بدليل فجائع مورست في الانتخابات السابقة. كلّ الوعود المعسولة بتشكيل حكومة وبرلمان جديدين قادرين على إصلاح أوضاع البلاد مجرّد أضغاث أحلام، أو أحلام عصافير.