الأنسان والشيطان
د.عدنان هاشم
الأنسان والشيطان
حدث عكرمة قال:
المقدمة
يحفل تراثنا الأدبي والديني والإنساني بكثير من النوادر والأمثال والعبر التي تثري الفكرالأنساني وترقق المشاعر المرهفة، وتنمي اللغة الأدبية الرقيقة. وللأسف أهملت اللغة العربية الجميلة العصر الحاضر من قبل أبنائها، وكثر اللحن في الكلام، وأخذت اللهجات العامية تحل محل الفصحى في الكتابة، وخاصة في وسائل التواصل الأجتماعي، ونسي أبناء العربية تراثهم وجهلوا تاريخهم. وهذا الأتجاه ينذر بمزيد من الأنحطاط الحضاري لأمتنا إلا إذا تظافرت الجهود الخيرة لأدباء أمتنا ومفكريها لإحياء هذا التراث اللغوي والأدبي ، وتلافي ما انحدر فيه أبناؤنا من انحطاط لأسباب كثيرة، أحدها العولمة وسهولة التواصل الأجتماعي الذي فتح الباب لكل من هب ودب للكتابة دون إعارة أية أهمية لسلامة اللغة ومتانتها ودقة المعلومات المطروحة فيها. وهذا الكتاب عبارة عن مساهمة بسيطة لإحياء تراثنا الأدبي من خلال طرح مسلسل من المقالات بعنوان " تحدث عكرمة قال " إذ أن في تراثنا كنوزا من الأدب والحكمة والفلسفة والعرفان
ولكنها بقيت في طي النسيان بينما تفخر الأمم بتراثها.
ولا أقصد من عكرمة شخصية تاريخية معينة بل هو شخصية وهمية يتحدث في مواضيع شتى، وقد حاولت أن أجمع على لسانه طرفا من الأدب القصصي والأمثال باللغة الفصحى لإبراز العبر الأخلاقية المستقاة من تلك الرواية، ثم بعد ذلك أعرج على ربط العبرة المستقاة من تلك القصة بواقعنا المعاصر. وقد اقتفيت أثر كثير من الأدباء في استعمال أسماء مستعارة في الكتابات الأدبية والتي تراها كثيرا عند كتاب الشرق والغرب لتضفي نوعا من التشويق الأدبي للقارئ، وتخفف بعض الشئ من المواضيع الجادة التي يطرحها الكتاب. ولأضرب مثلا على هذا في الآداب الغربية رواية الفيلسوف الألماني غوتيه " آلام فارتر" والتي احتلت موقع الصدارة في الأدب الألماني الرومانسي، وكتاب "هكذا تحدث زرادشت" الذي سطر فيه الفيلسوف الألماني نيتشه فلسفته على لسان زرادشت. وفي الأدب العربي اشتهر كتاب كليلة ودمنة لإبن المقفع، وكتاب جنة الشوك لطه حسين والذي كان على شكل سؤال وجواب " سأل الطالب الفتى أستاذه الشيخ". وقد كان في راديو الكويت برنامج شيق بعنوان" أخبار جهينة " يعرض بعد الظهيرة في سبعينات القرن القرن. وقد تأثرت كثيرا بأديب تونسي وهو محمود المسعدي في روايته الرمزية " حدث أبو هريرة قال " والتي لاتمت بصلة بأبي هريرة إلا بالأسم، وقد حازت هذه الرواية المرتبة التاسعة في قائمة أفضل مئة كتاب عربي لأتحاد الكتاب العرب، فاقتبست منه فكرة عنوان الكتاب دون رمزيته القصصية.
أنني أشعر ان هذا الفن من الأدب صار مهجورا رغم فائدته الكبيرة في صقل الشخصية العربية. وأرجو أن أكون موفقا في هذا النموذج من الطرح الأدبي، وقد رغبت أن أؤثر به قراء العربية الكرام ، ولا أدعي لنفسي الكمال ، فإن أصبت فبتوفيق الله وإن أخطأت فأرجو من القراء الكرام إرشادي إلى مواطن الخلل ، ومن الله استمد العون والتوفيق.
جاء في بعض الروايات أن موسى عليه السلام كان في بعض مجالسه ، إذ أقبل عليه إبليس وعليه برنس يتلون ألوانا ، فقال موسى من أنت ؟ قال أنا إبليس ، قال فلا حياك الله ماجاء بك ؟ قال : أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي ! فدعا موسى ربه ، فقال الله يا موسى قد قضيت حاجتك ، فقل له ليسجد لآدم وهو ميت فأتوب عليه ! فعاود إبليسَ كبره وحسده وقام مغضبا وهو يقول : لم أسجد لآدم حيا ، أ فأسجد له ميتا! ثم قال : ياموسى إن لك حقا علي بما شفعت لي إلى ربك فإني أذكرك بأمور:
اذكرني حين تغضب ، فأنا وحيٌ في قلبك ، وعيني في عينك ، وأجري منك مجرى الدم . وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها ، واذكرني حين الزحف فإني آتي ابن آدم فأذكره بولده وزوجته وأهله حتى يولي دبُرَه ، ولا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به ، فإنه ما عاهد اللهَ أحدٌ إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء به ، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتَها ، فإنه ما أخرج رجل صدقةً فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين إخراجها . ثم ولىّ إبليس وهو يقول : ويلي ، علَّمت موسى ما يحذِّر به بني آدم .
وهنا سكت عكرمة هنيهة ثم تابع يقول :
يعجبني هذا النوع من القصص الديني الذي يجمع الأدب والخيال والموعظة بأسلوب قصصي شيق ، ويوضح صراع الشر والخير في نفس الإنسان . وليس هذا النوع من القصص الديني قصرا على الأسرائيليات وخيال المتصوفة وبعض الكتاب المسلمين ، بل نجد مثيله في التراث الديني والأدبي الغربي ، فأطلقوا على الشيطان اسم لوسيفرLucifer ، وقرنوه بالأفعى ، والكلب الاسود . وصوروه في رسومهم بأقبح صورة . وجاء في الأنجيل أن الشيطان حاول إغواء السيد المسيح أربعين يوما فلم يفلح ، وبعدها خرج المسيح من الصحراء إلى الناس ليبدأ إصلاحه لشريعة موسى التي قد غيرها الأحبار كثيرا عما كان في زمن موسى .
وفي الغرب قمتان من قمم الأدب الغربي تتعلقان بصراع الخير والشر في نفس الإنسان ، والثلاثي المتمثل في الله والأنسان والشيطان ، ألا وهما الفردوس المفقود Paradise Lost للشاعر الأنكليزي جون ملتون ، وفاوست Faust للأديب والمفكر غوته Goethe.
وخلاصة الكتاب الذي ألفه كوته في جزئين أن فاوست كان رجلا مفكرا مكبا على دراسة كتب العلم والفلسفة وتتبع المعارف الأنسانية ، ولكنه بعد أن بلغ منتصف العمر ، وجد نفسه فقيرا أعزب بلا حب ولا زوجة ولا أولاد ، وخلواً من متع الحياة ، فأصبح ضجرا بالحياة ، وتطلعت نفسه إلى المتعة ، فليحاول أن يغير حياته ليستمتع بالحياة قبل فوات الأوان ، وهنا يظهر له الشيطان الذي أسماه غوته مفيستوفيليس Mephistopheles ، فتعاقد فاوست مع مفيستوفيليس بأن يمنحه القدرة على المتع الجسدية مقابل أن يمنحه فاوست روحه ليفعل بها الشيطان ما يشاء.
بدأ فاوست يستمتع بالحياة أي استمتاع ، فلم يترك لذة تفوته في دنياه ، وقد أنشأعلاقة غرامية مع فتاة جميلة اسمها گرتشن Gretchen، فحملت منه سفاحا وقتلت وليدها خوف العار، ثم أن العلاقة الغرامية لقيت معارضة من أم گرتشن ، فأعطى فاوست گرتشن جرعة مخدرة لتعطيها إلى أمها فأدت إلى وفاتها ، وقد علم أخو كرتشن بالأمر فطلب المبارزة مع فاوست ، وقد أصيب الأخ بجروح قاتلة ، فخاطب أخته قبل موته بقوله : يا عاهرة صاWhore .ثم بعد ذلك ماتت كرتشن من الحزن والندم ميتة بائسة .
وفي آخر القسم الثاني بدأ فاوست يمل من الملذات الجسدية التي سلبته طمأنينة روحه ، فتمرد على مفيستوفيليس الذي أفسد روحه ، وتطلع أن يعود إلى حياته النقية التي عاشها من قبل ، وقد فقد بصره ثم مات تائبا ، فكان آخر مانطق به :
Ah Stay thou art so fair أي تمسك بالعدل وكن عادلا. وكانت النار متلهفة لالتهامه بعد موته ، ولكن الملائكة استنقذوه من النارلصدق توبته آخر عمره .
ثم تابع عكرمة القول :
كانت لرواية فاوست أثر كبير على مفكري وفلاسفة الغرب في القرن التاسع عشر، وكان نابليون معجبا بها . وقد مثل فاوست على المسرح والأوبرا ، وتعدى شهرة فاوست الغرب فوصلت إلى الشرق . وأكثر من تأثر بفاوست من أدبائنا توفيق الحكيم ، فقد تطرق إلى ذكر الشيطان في أكثر من موضع خاصة في كتابه " أرني الله " الذي ضمنه قصصا ذات مغزى فلسفي.
ففي قصة "الشهيد " نرى أن الشيطان مل دوره في إغواء البشروتاقت روحه إلى التوبة ، فتوجه إلى بابا الفاتيكان ليعلن توبته على يديه ، فأطرق البابا مليا مفكرا ؛ إن النصرانية مبنية على مبدأ الخير والشر وإغواء الشيطان والخلاص على يد المسيح ، فإذا زالت الشرور من الأرض ، فما ضرورة الدين وما ضرورة وجود البابا حاميا لهذا الدين ! فاعتذر البابا عن تلبية الطلب ، عندها قرر الشيطان أن يذهب إلى الحاخام الأكبر ليعلن التوبة ، وإذا بالحاخام يرفض الطلب لأن في قبوله نسف فكرة شعب الله المختار، وبتوبته سوف يزول الجشع من قلوب أتباعه ا، فيفقدون سيطرتهم على المال وتذهب معه قوتهم . عندها قرر الشيطان الذهاب إلى شيخ الأزهر، فكان جوابه الرفض أيضا . فلم يبق أمام الشيطان إلا أن يطرق أبواب السماء بعنف ، فيفتح جبرائيل له الباب ويستمع إلى مظلمته ببعض التأثر، ولكنه رفض الطلب لأن الدنيا بنيت على صراع الخير والشر فلا بد للشيطان من أن يكون قطب الشر لتستقيم الحياة . وهناك بدأ الشيطان يبكي بحرقة فتساقطت دموعه حمما نارية ، وانطلقت من صدره زفرة مكتومة رددت صداها النجوم فكانت صرخته المدوية " إني شهيد ، إني شهيد "
وفي قصته " أمرأة غلبت الشيطان " التي كتبها مستوحيا رواية فاوست ، فيروي الحكيم قصة امرأة قبيحة فاتها قطار الزواج وتقدم بها العمر، ولم تنعم بالحب كما تنعمت به صاحباتها ، فتمنت نفسها أن تكون جميلة حتى لو تستعين على ذلك بالشيطان ، وإذا بالجدار ينشق ويظهر لها الشيطان ، فتتفق معه أن يهبها ما تريد من جمال ومتع حسية لعشر سنين على أن يأخذ الشيطان روحها إلى الجحيم حين موتها . فتمتعت المرأة بجمالها وغرقت في كل المتع المعروفة ولكنها في الآخر ملت هذه المتع قبل انتهاء مدة العقد ، وتاقت نفسها إلى حياة الطهر ، فهجرت متعها وفضلت أن تعود كما كانت ، ففوتت على الشيطان فرصته ونجت بروحها من عذاب الجحيم
ماهي العبرة من كل هذه القصص ؟ إن الأنسان منذ أن يعي الحياة تتصارع في نفسه قوى الخير والشر، قوى تجذبه إلى ربه حيث قيم السماء وقوى تجذبه إلى الأرض حيث الملذات الحسية بكل أنواعها فمنها مباح ومنها محرم يزينها الشيطان لمن أعطاه زمامه ومكنه من نفسه . وما أحل الله من الطيبات أكثر مما حرم . ويخطئ من يرى أن السعادة كلها في إدراك اللذات الجسدية والحسية ، فإن هناك لذات روحية لا يدركها إلا من عاشها ، ومن يترك لذة الروح ولذة مناجاة ربه وينغمس في الشهوات ، فسرعان ما يمل منها ويطلب غيرها فإذا هو كعطشان يشرب من ماء البحر، فكلما شرب منه ازداد عطشا حتي يموت ولم يرتومنه.
وكذلك من يفرط في العبادة ويجهد نفسه بحرمانها من متعها فلعله لا يدرك ما يريد . وقد جاء في الحديث الشريف أن رجلا أجهد نفسه في العبادة ، فقال له النبي " إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، إِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى" والمنبت الذي أجهد نفسه ودابته في السفر ابتغاء الوصول إلى مبتغاه سريعا فإذا هو يجهد دابته فتموت وهو في نصف الطريق ، فلا هو أبقى على دابته ولا هو قطع المسافة إلى الأرض التي أراد أن يصلها.
وهنا أدرك عكرمة الصباح ، فسكت عن الكلام المباح .
عدنان هاشم لندن 29 أيلول 2021