الانتخابات العراقية انتهت ولكن مشاكلها لم تنته.. وتردداتها تنذر بمخاطر كبيرة قد لا تحمد عقباها
د. سعد ناجي جواد
الانتخابات العراقية انتهت ولكن مشاكلها لم تنته.. وتردداتها تنذر بمخاطر كبيرة قد لا تحمد عقباها
تحدثت مصادر كثيرة عن الانتخابات ونتائجها. ويبدو ان اسلوب التضليل ما زال هو الاسلوب المتبع من قبل المفوضية العليا للانتخابات. ويبدو ايضا ان المجتمع الدولي والمنظمات التي تمثله في العراق وتلك التي كُلِفت بالمراقبة، هي الاخرى حريصة على تَبَني هذا التظليل وعدم فضحه لكي تقول ان العملية (الديمقراطية) نجحت في العراق. وربما يسال سائل وماهي الادلة على ذلك؟ لا توجد ادلة مكتوبة وموثقة لحد الان، ولكنها ستظهر تباعا وبمرور الايام، ولكن هناك دلالات لا تخفى على احد.
ـ اولا: وابتداءا لقد كان هناك تعمد في عدم ذكر نسبة المشاركة في الانتخابات، وهذه مسالة يمكن معرفتها بكل سهولة بمجرد ان تُغلق الصناديق، الا ان تقرير المفوضية الاول لم يتطرق لها وبتعمد، وعندما تم ذلك بعد مرور اكثر من 24 ساعة، اعلنت المفوضية ان نسبة المشاركة هي مابين 41-42%. وهذا يعني ان 9 ملايين ناخب عراقي ادلوا باصواتهم من اصل 25 مليون ناخب يحق لهم التصويت. وهذه الارقام غير صحيحة لاسباب بسيطة، فالمعلومات التي تسربت كانت تقول ان 9 ملاين ناخب حدّثوا بيناتهم، وان من شارك منهم هو 6 مليون ناخب فقط، اي ان النسبة الاجمالية لم تتجاوز 20%، ان لم تكن اقل. ولكن يبدو ان المفوضية اعتبرت كل الذين حدثوا بياناتهم مصوتين كي ترفع نسبة المشاركة.
ـ ثانيا: ان كل وكالات الانباء والمراسلين الذين تابعوا العملية الانتخابية وعلى الهواء مباشرة وساعة بساعة، سواء في كردستان العراق او في المحافظات العربية الاخرى، كانوا يؤكدون على ضعف المشاركة، وكلهم ذكروا، نقلا عن المراكز الانتخابية التي تواجدوا فيها، ان المشاركة حتى الساعة الثالثة ظهرا، اي قبل ثلاث ساعات من غلق الصناديق، لم تتجاوز في احسن الاحوال 20-21%. نعم، هناك من قال منهم ان الاقبال ارتفع في ساعات المساء، الان انهم اكدوا ايضا (وهذا منطقي جدا) انه من غير المعقول ان ترتفع النسبة 100% لكي تصل النسبة الى40% خلال ساعات قليلة. وبالعقل لا يمكن ان يحدث ذلك. واخيرا فان ما كتبته بعض الصحف الاجنبية مثل الغارديان والفايننشال تايمز من تلميحات واضحة توكد على ضعف المشاركة.
لا بل ان بعض المشاركين في العملية السياسية، من الخاسرين، قالوا ان النسب في بعض المحافظات، خاصة في بغداد والسليمانية لم تتجاوز 10%. ولهذا هم يقولون ان الذي يريد ان يعرف النسبة الصحيحة عليه ان يُقَسِم النسبة المعلنة على اثنين.
اللعبة الاخرى المضللة هي اعتماد التصويت الخاص والذي كان بنسبة عالية جدا، لسبب بسيط هو ان كل المشاركين فيه هم من احزاب وكتل سياسية معينة، مما رفع النتائج النهائية اكثر من 6% الى نسب المشاركة من المدنيين.
بالمناسبة فان هذا التضخيم حدث في انتخابات 2018، وظلت المفوضية والمشاركين في العملية السياسية يدعون ان نسبة المشاركة كانت اكثر من 44%، الى ان ظهر من داخل المفوضية من كذَّب هذه الارقام وقال ان النسبة لم تصل حتى الى 20%. ثم كانت فضيحة حرق الصناديق وتغييب الحقيقة، ثم عاد عدد من قادة الكتل الى الاعتراف بذلك بعد سنة او سنتين او قبل هذه الانتخابات (كما صرح رئيس وزراء سابق علنا في احدى مقابلته قبل الانتخابات)، في محاولة لحث الناخبين على المشاركة بثقل لكي لا تتكرر مسالة المشاركة المتدنية في الانتخابات السابقة.
ـ ثالثا: لقد اظهرت النتائج تراجعا كبيرا في اعداد مقاعد الاحزاب والفصائل والكتل المسلحة المدعومة من ايران، وخاصة الحشد الشعبي، مما حدا بقادتها الى التهديد باتخاذ ما يعيد لهم الاصوات التي يقولون انها (سرقت منهم!)
ولتدارك ما لا تحمد عقباه، وفي ظل حكومة مركزية ضعيفة، بدات محاولات (رد اعتبار) لهذه التيارات عن طريق خدعة (العد اليدوي) والتي من خلالها تمت اضافة اصوات، وبالتالي مقاعد برلمانية الى هذه القوائم ارضاءا لها وللحيلولة دون لجوئها الى السلاح الذي تتحكم به وبعيدا عن سلطة الحكومة المركزية.
ـ رابعا: ان النتائج تنبئ بصعوبة امكانية تشكيل كتلة اكبر لتشكيل الوزارة، وذلك لعدة اسباب، اهمها ان ما اطلق عليه (كتلة المكون الاكبر ) قد تفتت بصورة واضحة، وان الطرف الفائز منها باعلى عدد من المقاعد (التيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر) لا يحظ بتاييد الكتل التي تعرضت لهزيمة واضحة، واغلبها يملك تنظيمات مسلحة كما قلنا، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فان رئيس التيار نفسه اعلن بان هدفه هو نزع سلاح هذه الفصائل، فكيف يمكن ان تتحالف تلك الفصائل معه؟ وهذا يعني انه لم يبق للتيار الصدري سوى التحالف مع الطرفين الاخرين الذين جاءوا بعده، كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة السيد مسعود البرزاني، وكتلة تقدم برئاسة رئيس مجلس النواب السيد محمد الحلبوسي، والكتلتين منذ الان بداوا بوضع شروط مسبقة للتعاون في تشكيل حكومة جديدة، وبعض هذه الشروط لا يمكن ان يقبلها التيار الصدري والا فان مصداقيته ووعوده التي اطلقها ستتعرض الى تشكيكات وانتقادات كبيرة. واذا قبل باعطاء تنازلات لتلك القوائم، كما فعل من سبقه، فان اي امل بالاصلاح سيذهب ادراج الرياح، هذا اذا سلمنا جدلا ان هناك نية صادقة للاصلاح ومحاربة الفساد. ربما هذه الازمة المتوقعة ستحل عن طريق تدخل الطرف الامريكي، الحريص على تقوية اي تكتل مناهض لذلك الذي تدعمه ايران، وحتى هذا الحل يمكن ان يتسبب باضرار اكبر. اذ بالاضافة الى كونه سيعطي الانطباع بان الولايات المتحدة ما تزال متحكمة بالمشهد العراقي، وهذا لن يرضي الطرف الايراني، فانه سيمثل ضربة للهدف الذي اعلنه التيار الصدري المتمثل في اخراج كل النفوذ والتواجد الاجنبي من العراق، بالاضافة الى انه قد يشعل اقتتال داخلي.
ـ خامسا: وكتحصيل حاصل فان مسالة اختيار رئيس وزراء جديد ستشكل مشكلة وتجاذبات اخرى، ووقت طويل لحسمها. وستثار تساؤلات مثل هل سيصر التيار الصدري على ان يكون رئيس الوزراء القادم من احد اعضاءه؟ ام انه، ارضاءا لاطراف خارجية قد يقبل بالتجديد للسيد الكاظمي؟ او، وفي ظل الاصرار على مبدا التقسيم الطائفي والاثني للمناصب الثلاث الكبرى، هل سيجد التيار مرشحا من مكونه يكون مقبولا من الكتل الاخرى؟ ام انه، كما طالب ثوار تشرين، سيكسر هذا التقليد؟ وكيف سيتمكن هذا المرشح ان يتصرف ويوفق بين اهواء قادة الكتل دون ان يخسر سلطاته وهيبته اذا ما حاول ارضاء جميع الاطراف؟ ثم كيف سيتم التعامل مع النفوذ الايراني المتغلغل بين اغلب الائتلافات الممثلة في البرلمان؟ كل الدلائل تقول ان اغلب قادة الكتل، ربما باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني الى حد ما، ليس لديها الرغبة في اغضاب ايران، على اقل تقدير، وهي في نفس الوقت غير قادرة على مواجهة القوة المسلحة التي تتمتع بها الفصائل المسلحة وفصائل الحشد الشعبي الموالية للدولة الجارة، فكيف سيتم تجاوز هذا المازق؟
ـ سادسا: كما ذكر اعلاه لقد اوجد اسلوب تضخيم نسبة المشاركة مخرجا للمفوضية لكي تُرضي من خلاله الكتل الخاسرة، وبالفعل بدات (بدعوى النظر بالطعون والعودة الى الفرز اليدوي) بتغيير النتائج في بعض المناطق لصالح الكتل التي تمتلك السلاح. ولكن من يضمن ان الكتل التي ستخسر عدد من نوابها الفائزين نتيجة لذلك ستسكت عن هذا الاسلوب؟ كل هذه الحقائق تثبت بما لا يقبل الشك ان الايام القادمة ستكون محفوفة بالمخاطر، التي قد تصل الى المواجهات المسلحة، التي سيكون المواطن العراقي اول ضحاياها.
ـ سابعا واخيرا: الحل الوحيد غير الممكن لهذه الازمة، ويمكن ان يعتبر ضربا من ضروب الخيال، هو ان يتم تشكيل لجنة على مستوى عالٍ جدا تتكون من الخبراء من كل الكتل تجلس مع بعضها وتضع خطة خلاص او برنامج انقاذ وطني بعيدا عن النزاعات، او البحث عن مصالح انية ومادية. حل يلغي المحاصصة الطائفية والعرقية. حل يضمن وصول الاكفأ والاقدر على تطبيق خطة اصلاحية شاملة وجدية تحارب الفساد وتبني الدولة من جديد، وتكون فيه الكتل الفائزة الممثلة بالبرلمان بمثابة المراقب لما يحدث. ولكن كل الدلائل تشير الى ان كل المشاركين في العملية لم يصلوا الى هذا المستوى من الوعي والنضوج لكي يقبلوا بهذا الحل.
وهكذا سيكون قدر العراقيين من جديد ان يعيشوا اربع سنوات قادمة مع برلمان عادت اليه كميه غير قليلة من الفاسدين والفاشلين، والله اعلم ماذا سيكون موقف القادمين الجدد، هل سينظمون الى كتلة الفساد ام سيدافعون عن حقوق شعبهم كما وعدوا. كل هذه الامور تبقى في علم الغيب، ولكن بالتاكيد ان الحديث الشريف (كيفما تكونوا يولى عليكم)، والاية الكريمة (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) قد اثبتتا مرة اخرى عمقهما وصحة تشخيصهما.