عبد العزيز المقالح: سِيرة ُ الضّوءِ في حَضـرَةِ الشـِّعر
عبد الرحمن سبأ
01/02/2010
كان لا بُدَّ أنْ تلثمَ جائزةُ العويس الثقافية ( مجال الشعر) بريقَ هذا الصوفي الزاهدِ والراهب في محراب الكلمةِ الصادقةِ النبيلة؛ انتصاراً لمكانتها، وتتويجاً لمسيرتها الرائدة. أمضى سنيَّ عمرِه في القراءة والكتابة، وجنّد نفسَه شاعراً وناقداً وكاتباً للتنوير والتثقيف. وكان مخلصاً في كلِّ ذلك للقيم والمبادئ التي آمنَ بها وتمثّلها منذُ نعومة أظفاره. فقد كان أبوه ' صالح المقالح' ـ رحمه الله ـ أحد الثوار الذين ناهضوا الحكم الإمامي، وبعد فشل ثورة الدستور 1948م، وضعه الإمام أحمد في سجن حجة، فانفتح وعيُ أديبنا المقالح مبكراً على وطنٍ مقهورٍ وإرادةٍ شعبيةٍ سليبة، وغادر قريته ' المقالح' (إحدى قرى مديرية الشّعِر/ محافظة إب) في السنوات الأولى من عمره، إلى ' صنعاء' ثم إلى ' حجّة'؛ لحاقاً بأبيه، وتفتّقتْ شاعريتُه عن نفْسٍ أبيّةٍ ترفضُ الظلمَ والاستبداد، وعاطفةٍ جيّاشةٍ بكلِّ معاني الحب والبذل والتضحية، فحملَ اليمنَ وهمومها، وأرضعَ كتبَه ودواوينه ذلك النبض، لتدبَّ الحياةُ في المسيرة اليمنية مِن جديد، وفتَحَ الباب أمام الآخرين لقراءة حضارة البلد العريق، بعد عُزلةٍ فُرِضتْ عليه ردحاً من الزمن، غير أنّ الوطنَ العربي الكبير ـ من المحيط إلى الخليج ـ كان أفقَه الممتدّ على امتداد رحلته الإبداعية الخالدة.
حين قرّرتُ الالتقاء بأستاذ الأجيال، الدكتور المقالح أواخر العام 2004م، كنتُ قد عرفته شاعراً وناقداً وكاتباً، إلا أنني كنتُ أجهل الكثيرَ عن جوهر المقالح الإنسان، وكان الشوقُ يحثُّني لمعرفة ذلك كثيراً، إلى أن واتتني الفرصةُ عندما اخترت إحدى مجموعاته الشعرية موضوعاً لبحث التخرج من مرحلة البكالوريوس، وحفّزني المشرف على البحث - أستاذي الفاضل الدكتور رعد السيفي- على زيارته، ثم حمّلني رسالةً إليه. حَمَلْتُ ( لا أقول قطعتُ) المسافة من ' إب' إلى ' صنعاء' بتساؤلاتٍ غريبةٍ وتخميناتٍ طائشة، أحاطتني بهالةٍ من القلق والتوتر، خشية تجاهل المقالح أو انشغاله، فقد كنتُ أعدُّ زيارته دون سابق موعد مغامرة، لولا تعلّلي بموضوع بحثي ورسالة أستاذي الدكتور رعد السيفي. وفي مركز الدراسات والبحوث ( صنعاء)، كنتُ وزميلي العزيز رياض الرياشي ننتظرُ مقابلته، واللحظات تحاصرنا، وتمرُّ صعبةً وعصيّةً، وإذا بالدكتور المقالح يطلّ كالقمر قاصداً مكتبه، إلا أنه لمح وجودنا وابتسم مرحّباً. فسلّمنا عليه وصافحناه، في لحظاتٍ إنسانيةٍ مؤثرةٍ، يعزّ أن يحيطَ بها وصف، لا لمجرد مصافحته ومقابلته فحسب؛ بل لحميمية اللقاء التي غَمَرَنا بها المقالح، وحرارة مصافحته ونحن نلتقيه للمرة الأولى.
بعد نهاية ذلك اللقاء قلت في نفسي يا الله..! هل هذا هو المقالح الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؟! وأدركتُ يومها كُنْه ما يقال عن أنّ السنابلَ الممتلئة تقتربُ مِن الأرض، في حين أنّ الفارغة تتعالى عليها. وكانت سعادتي - وأنا أغادر مكتبه - غامرةً ؛ لأن هذا اللقاء منحني فرصة الاقتراب من هذه الشخصية الفارقة في التاريخ الحديث، وسبر أغوار عبقريةٍ فذّةٍ كالمقالح، ولما وجدتُ فيه مِن صفاتٍ مثاليةٍ قلّ أنْ نجدها في أُمّةٍ واجتمعتْ في شخصِه.
أحسب أنني تتلمذت على يديه، وقد ترددت عليه في مكتبه بمركز الدراسات والبحوث، للمناقشة والاستفسار وبث هموم الحياة، وكان أباً حنوناً، هادئاً في طرحه ومناقشته، مهيباً في حركته وسكونه، جليلاً في علمه وأدبه، كبيراً في تواضعه وكرمه، نبيلاً في حلمه وزهده، عميقاً في رؤيته وفكره، فريداً في ذكائه وذاكرته التي لم تستطع السنواتُ النيل منها. يكتبُ كلَّ حرف بعناية فائقة، ويرهق نفسَه حتى في وضع الفاصلة والنقطة وعلامة التعجب؛ احتراماً لذاته ككاتبٍ وأديبٍ له جمهوره ومريدوه، وارتقاءً بقارئه أياً كان.
متواضعٌ حدّ الخضوع، يتماهى مع الآخر دون تمييز، محتشدٌ بالضوء والجمال، مسكون بالحب والتسامح، مكتنزٌ بالحزن والألم، يشعُّ من عينيه تفاؤلٌ مسرف، ويقفزُ منهما قلقٌ رهيب. ما إن يلج الزائرُ مكتبَه حتى يرحبَ بقدومه مبتسماً، عَرفَه أم لا، ليتحوّلَ كلُّ شيءٍٍ في المكتب برداً وطمأنينةً وسلاماً، وتكتمل تلك اللوحةُ ' المقالحية' العظيمة بآيةٍ قرآنيةٍ تكلّلُ مكتبَه، مكتوبةً بخط اليد، وفيها قوله تعالى: }تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ولا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ (القصص:83). وهي آيةٌ عظيمة الدلالة، تلخّص رؤيةَ المقالح للحياة، وتفسّر زهدَه فيها، وتوضّح سرّ نقائه وبهائه.
اثنان وسبعون عاماً على ولادة هذا الهرم اليماني الباذخ، هي ضريبة الوجع تتكئ على مشارف الخلود الذي عانق الضوء وهو يكتب سيرتنا منذ العام 1937م. قدّم اليمن في صورتها الأبهى والأجمل، وكان ـ بحق ـ وما زال، وسيبقى، بوابتنا الحضارية المشرعة على العالم. عَشِقَ الوطنَ حدَّ الشّغف، وكان مخلصاً لذلك العشق؛ أفنى فيه زهرة شبابه، واشتعلتْ سنونه برأسه وما زال يمنحه فوق ما يعطيه.
عبد العزيز المقالح شاعرٌ وناقدٌ ومفكرٌ يمني غزير الإنتاج، تلازم ' الكمُّ' مع الـ' كيف' في نتاجه، فكان واحداً من أهم الذين أسهموا في إضاءة درب الثقافة العربية، وإخراجها من إطارها الإقليمي إلى العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، وما زال يحفرُ في جدارنا المظلم بحثاً عن النور الذي وهب حياته في سبيله، دون مللٍ أوضَجَر.
شاعر وكاتب من اليمن
a_saba2005@yahoo.com
نقلا عن صحيفة القدس العربي