من مواقف وطرائف الساسة العراقيين....
علي المسعود
من مواقف وطرائف الساسة العراقيين....
هناك الكثير من القصص والطرائف التي تروي عن الروؤساء و الورزاء في الحكومات العراقية السابقة وسأروي لكم بعض من هذه المواقف الطريفة عن الشخصيات السياسية بدءأ من العهد الملكي والمتمثلة بالباشا نوري السعيد وأنتهاءأ بالمرحوم جلال الطالباني ومرورا بالرئيس الراحل عبد السلام محمد عارف ورئيس الوزراء الراحل طاهر يحي والرئيس الراحل صدام حسين ، وسابدأ بالباشا نوري السعيد .
من المعروف عن السيد نوري السعيد رئيس وزراء العراق كثرة مآثره وظرائفه. ورحابة صدره وروحه المرحة الجميلة ، وإستعداه للفكاهة والملاطفة وإستمتاعه بالطرائف والمقالب وكثيرة هي الحكايات الطريفة التي رواها بعض الناس وخاصة ممن عايشوا فترة الحكم الملكي، عن الباشا نوري السعيد رئيس وزراء العراق، والذين يروونها هم من (اهل الله) ، البسطاء في حياتهم والحكماء في اقوالهم وفهمهم للحياة ، ومن هذه الحكايات حكاية طريفة رواها احد البغداديين من كبار السن ومفادها:
اعتاد الباشا نوري السعيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي ان يجلس كل ليلة في داره الواقعة بمنطقة الكرادة المطلة على نهر دجلة، مع عديله وزير الدفاع جعفر العسكري الذي يزوره كل يوم ويتبادل معه اطراف الحديث عن وضع البلد والحياة العامة وهما يشربا قنينة الشراب التي اعتاد الباشا جلبها معه يوميا عند عودته ظهرا من مكتبه.. وذات يوم من تلك الايام نسي الباشا ان يجلب معه عند عودته من عمله قنينة الشراب، حيث انشغل في ذلك اليوم بالوفد الاجنبي الذي زاره في مكتبه.. وعندما حان وقت الليل وجاء جعفر العسكري كالعادة ولم يجد شرابا، اقترح على الباشا العبور الى جانب الكرخ بالبلم والذهاب الى محلة الشواكة ويشربا هناك، فوافق الباشا على ذلك وعند نزولهما الى ضفاف النهر وجدا احد البلامين جالسا في بلمه وبجانبه (لاله) ذات ضوء خافت، وبعد ان القوا السلام عليه طلب منه جعفر العسكري ان يعبرهما الى جانب الكرخ، والبلام لم يعرفهما، حيث اعتذر منهما بحجة ان ماء النهر في هذا الوقت كان غير مستقر وامواجه عاليه وذلك لمرور بعض الدوب الكبيرة المحملة بالنفط منه.. واستفسر البلام منهما عن حاجتهما بالعبور فاجابه جعفر العسكري لنشرب كاسا من الشراب في الشواكة، فضحك البلام الذي مازال لم يعرفهما وقال لهما:
عندي في البلم مبتغاكما ربعا عرق مستكي اصلي وعندي ايضا كاسين وعدد من الخيار والطماطة والمشكلة محلولة واتفضلوا اشربوا اهلا وسهلا.. ضحك الباشا وشكر البلام على ذلك الكرم البغدادي، فقبلا دعوته وجلسا داخل البلم وبدأ البلام يحضر لهما الكؤوس والشراب وقدم لهم كذلك الخيار والطماطة وبدأ يشربان ويتبادلان الحديث عن وضع ماء النهر اليوم وعن امواجه المتلاطمة وبعد ان اوشكا على نهاية الشراب وشعرا بالراحة وقضاء وقت ممتع في تلك الليلة الصيفية القمرية، مع هذا البلام البغدادي الكريم الطيب، فسأله جعفر العسكري هل تعرف ايها البلام الطيب من نحن؟
فاجاب بالنفي لم اعرفكما... ولا زغرا بكما...
ثم اردف العسكري قائلا: هل من المعقول لم تعرف هذا الرجل، اشار الى الباشا نوري السعيد ولم تشاهده في التلفزيون؟ فقال البلام بعد ان نظر اليهما، لم اعرفه... فاجاب العسكري هذا الباشا نوري السعيد وانا جعفر العسكري وزير دفاعه... فضحك البلام بصوت عال قائلا: (يمعودين شرب كل واحد منكم كاسين من العرق، صار واحد الباشا نوري السعيد والاخر جعفر العسكري وزير الدفاع ...لعد لو تشربون اكثر فماذا ستصبحون؟) .
فضحك الباشا والعسكري، وبعد لحظات من الصمت بدأ البلام يتفرس في نظره الى الباشا والى العسكري ثم تذكر واستعادة ذاكرته صورة الباشا نوري السعيد وصاح بصوت عال قائلا: (لك اي والله هذا الباشا وهذا العسكري).
ثم انحنى ليقبل يد الباشا ويعتذر منه عما صدر منه من كلام قد يكون غير لائق في حضرته... ثم اخرج الباشا من جيبه مبلغ من النقود واعطاه الى البلام الذي شعر بالفرح والسرور...
هذه هي ايام زمان... بساطة وتواضعاً وكرماً وحسن نية . ومن الاحداث المتداولة الناس عن "الباشا نوري السعيد" رحمهُ الله، والتي تدلل على عــُمق نظرتهِ وفهمهِ للشخص الذي يقابلهُ، ومنها حدث الموظف الذي تقدم لشغل منصب مدير لأحد النواحي . أراد "الباشا نوري السعيد" أن يــُشرف بنفسهِ على مقابلة مجموعة من المتقدمين لشغل وظيفة مدير ناحية، وذلك بعد أن أعلنت وزارة الداخلية عن حاجتها لعدد من مدراء النواحي على أن يكون المُتقدم حاصل على شهادة (البكلوريوس) بالحقوق! [ولا ننسى انه في ذلك الوقت التعليم المجاني لم يكن مُتاحاً في العراق بشكل واسع وكان المثقفين في العراق عددهم ليس كبيراً]، أضافة الى كونه حسن السيرة والسلوك وما الى ذلك من شروط أخرى . بدأ "الباشا نوري السعيد" يقابل المتقدمين ويفحصهم ويدقق في مدى أنطباق شروط التعيين عليهم، ويكتب عبارة ( يعين مديرا للناحية الفلانية بعد أكمال دورة التدريب) وهكذا؛ الى أن تقدم للمقابلة شخص كان البؤس والفقر واضحا عليه! هندامهُ، صفار وجههُ، ضعف شخصيتهُ، ولكن لفت أنتباه "الباشا نوري السعيد" بأن المتقدم فيه كل المؤهلات المطلوبة! أضافة الى كونه موظف بأحدى دوائر الدولة بعنوان رزام( الشخص الذي يرزم الأوراق) ، فسأله "الباشا نوري السعيد": (أبني أنت وين تشتغل)؟ ، فاجابه الموظف بأرتباك: (باشا بالدائرة الفلانية)، عاد "الباشا نوري السعيد" ليسأله: (وليش عنوانك الوظيفي الى الان "رزام" وأنت عندك البكلوريوس وصارلك أربع سنين بالوظيفة؟)، سكت صاحبنه الموظف ولم يجب بأي شي ! ، سحب "الباشا نوري السعيد" ورقة وكتب عليها : يراجعني بعد (6) أشهر ! ، وأشر ذلك على أضبارتهِ ولم يكتب له بالألتحاق بالدورة التدريبية كبقية المتقدمين؟! ، أخذ صاحبنا الورقة وعاد لدائرته . فما كان من "الباشا نوري السعيد" ألا أن اتصل هاتفياً بمدير الدائرة التي يعمل بها هذا الموظف - المتقدم، فأرتبك المدير بعد أن أخبره موظف البدالة بأن "الباشا نوري السعيد" رئيس الوزراء يطلب على الخط!؟، سأل "الباشا نوري السعيد" مدير الدائرة قائلا: (عندك موظف أسمه فلان شعجب الى هسه باقي عنوانه (رزام) وصارله (4) سنين بالوظيفة وهوخريج حقوق؟ ، فأجابه المدير بأرتباك: (بصراحة باشا ما عنده واسطة!؟ ، رد عليه "الباشا نوري السعيد" بلهجة آمـــرة: (هسه تعدل درجته الوظيفية الى "ملاحظ" حسب الأستحقاق الأداري وطبعا تعدل راتبه ... هــــا افتهمت!) فأجابه المدير بأرتباك: (نعم باشا تأمر باشا صار باشا!، وسرعان ما أنتشر خبر أتصال رئيس الوزراء "الباشا نوري السعيد" بالمديرالعام من أجل ترقية الموظف الفلاني! وأنقلبت الدائرة وساد لغط كبير بين الموظفين وكثر القيل والقال والتكهنات! والتعليقات، (هذا الموظف اللنكة! طلع يعرف رئيس الوزراء!)، وما الى ذلك من حكايات، ومعروف عنا نحن العراقيين التعليقات بهكذا أمور ومواقف!.وكل هذا يحدث (والموظف الرزام) الذي في طريقه للعودة الى الدائرة، لا يدري بكل ما جرى، وما أن وصل الى الدائرة حتى أستقبله موظف الأستعلامات بجملة غريبة: (عمي هاي شنو "الباشا نوري السعيد" بزرة يخابر عليك!) ، و .... و.... و.... و.... غيرها الكثير من التعليقات، حتى أرسل في طلبه المدير العام الخائف!! . وسأله: (أبني أنت منين تعرف"الباشا نوري السعيد" ؟) ، فأجابه الموظف الخائف: (والله أستاذ لا أعرفه ولا يعرفني! بس اني أخذت ساعتين أجازة زمنية لأن عندي مقابلة مال تعيين مدراء نواحي وقابلني نوري باشا بنفسه! هذا كل ما في الأمر ). في اليوم الثاني صدر أمر اداري بتعديل درجته الوظيفية من "رزام" الى "ملاحظ"!، وتم نقله من مكانه البائس تحت الدرج الى غرفة أنيقة في الطابق الثالث مع أثنين من الموظفين فقط ورتبوا له مكتبا لطيفا، وكذلك تم تعديل راتبه تبعا لذلك من ( دينار شهرياً!! الى (30) دينار، والكل يعرف كم كانت القوة الشرائية قوية للدينار العراقي في تلك الفترة وقـــس على ذلك كم تحسنت احواله ! . وفي أول راتب جديد أستلمه، بانت النعمة عليه وتحسن هندامه وشكله وتورد وجهه، حيث أخذ يأكل ويشرب ويلبس بشكل جيد، كما أن الوظيفة الجديدة أضفت عليه شيئا من الشخصية! وصار يتكلم مع الموظفين ويناقش أمور العمل ويكتب الهوامش والمطالعات على الكتب الواردة للدائرة ويبدي ملاحظاته عليها!، بعد أن كان لا يجيد ألا لغة الكلام مع الأضابير والملفات وأرشفتها منذ بداية الدوام حتى نهايته حتى كاد أن يصاب بالخرس! ناهيك عن الأتربة والأوساخ التي تغطي الأضابير والتي لا يستنشق غيرها ، وبعد مرور (3) أشهر وأذا بتلفون آخر الى المدير العام من "الباشا نوري السعيد" يسأل فيه عن صاحبنه الموظف وما هي أخباره وسلوكه وأنضباطه وأداءه الوظيفي؟ ، فأجابه المدير العام بأنه: (والله نعم الموظف الكفوء الملتزم المنضبط و و و) . عندها طلب "الباشا نوري السعيد" من المدير العام أن يرقيه الى درجة "رئيس ملاحظين"! . فما كان من المدير العام ألا السمع والطاعة وتنفيذ أمر الباشا ، فتم نقل صاحبنه! الى غرفة لوحده، وأصبح أتصاله بالمدير العام مباشرة، ووضحت أثار النعمة عليه أكثر وأكثرخلال هذه الفترة وبشكل ملفت، حتى أصبح من كبار موظفي الدائرة لا سيما وهو لا يخلوا من الكفاءة والذكاء!. ولأنه لا ينسى أن سبب كل هذا الخير الذي ظهر عليه وأصبح فيه هو "الباشا نوري السعيد"!، لذا فأنه كان حريصا على لقاء الباشا ثانية! وكان يعد الأيام عدا بأنتظار انقضاء فترة (6) أشهر للقاء الباشا. وحان الموعد وأذا هو وجها لوجه أمام الباشا ثانية!، ولكن الأمور اختلفت هذه المرة؟!، فنظر أليه "الباشا نوري السعيد" من خلف نظارته ورأى أثار النعمة وقد بانت عليه بوضوح، ملبس أنيق مع ربطة عنق ووجه حليق متورد وعطر نفاذ، وشخصيته بدت أكثر وقارا وأتزانا، فما كان من "الباشا نوري السعيد" ألا أن يؤشر على ملفه بعبارة "يعين مديرا للناحية الفلانية ، وسلمه الملف وقال لهُ (سلمه للقسم الأداري لكي يصدروا الأمر الأداري لك وتباشر عملك ، ولم يقل صاحبنا أي شيء سوى كلمة نعم باشا . وما أن هم صاحبنا بالخروج من مكتب الباشا حتى سأله "الباشا نوري السعيد" : أبني شو أنت مسألتني ليش أخرتك كل هذه المدة دون أقرانك الي تقدموا معك لوظيفة مدراء نواحي)؟ ، فرد عليه صاحبنا بشيء من الأرتباك: (باشا والله ما أعرف غير هي بكيفك وأنت الأعرف!). فأجابه الباشا: (أبني تذكر من أجيتني أول مرة شلون جان حالك، جنت هلكان ومبهذهل وقاتلك الفقر وجان وجهك أصفر من الجوع لان جنت حتى أكل مشبعان!، وجنت خايف من خيالك وشخصيتك جانت ضعيفة!، فتدري يا أبني لو بوكتها دازك وصاير مدير ناحية، جان نهبت الناحية نهب، وجان تنشغل وتفكر شلون تبوك وتشبع نفسك من كلشي ولا جان فكرت أبدا شلون طور الناحية وتخدم أهلها!، بس هسه أمورك تحسنت وتغيرت أحوالك وشفت النعمة وشبعت منها أن شاء الله، وشفت المنصب والجاه والراتب الزين. فأريدك أبني هسه من تروح للناحية تخلي بالك عليها وتحصر كل تفكيرك شلون تطورها وتخدم ناسها وأهلها بأخلاص وفي كل المجالات، يله أبني توكل بالتوفيق والنجاح ) ، الى هنا أنتهت قصة "الباشا نوري السعيد" ونظرته في الأنسان وقراءته للشخصية التي يتعامل معها وبنائهِ لها من اجل خدمة العراق . وأعتقد ان قصة الباشا هذه ونظرته للأمور فيها الكثير من الِـعـبـر، فمن الصعب أن تنتظر الخير والعطاء من بطون جائعة ومن أناس صعدوا من قاع المدينة وحضيضها الى أعلى المناصب... مثل أصحاب المناصب اللذين جاؤوا للعراق من بعد 2003 والى اليوم !!! . وقصة الباشا مع هذا الموظف ألها رباط كما يقال أنتهى الجزء ألاول والى اللقاء في الجزء الثاني
علي المسعود