جلال طالباني أول سياسي كوردي يُنتخب لرئاسة العراق.. كان يتمنى أن يكون رئيساً لتحرير "جريدة" فصار رئيساً "للجمهورية"
روداو/معد فياض:أربعة رؤساء جمهوريات تعاقبوا على هذا المنصب في العراق منذ عام 2004 وحتى اليوم.. ثلاثة منهم من الكورد الذين تعرفت عليهم عن قرب، وكنت قريباً ومقرباً منهم، وهم: جلال طالباني، وفؤاد معصوم، وبرهم صالح.. رووداو عربية تنشر هنا، والعراق بانتظار الرئيس العاشر منذ قيام النظام الجمهوري في 1958.. على حلقات، ريبورتاجاً مروياً، أو صوراً مكتوبة عن رؤساء الجمهورية بعد 2003، قبل وخلال توليهم هذا المنصب، لتعريف القارئ بصور رؤساء جمهوريات العراق ما بعد التغيير.
الرئيس (مام جلال)
عندما تم انتخاب جلال طالباني، الأمين العام للاتحاد الوطني الكوردستاني، رئيساً لجمهورية العراق، عام 2005، اتصلت به من لندن، عن طريق الهاتف النقال (موبايل) لرفيقه وصديقه الأقرب، الدكتور فؤاد معصوم، فهو (طالباني) نادراً ما كان يحمل الهاتف النقال أو يرد عليه.
كان هدف الاتصال تهنئته والحصول على تصريح صحفي سريع وسط انشغالاته وقتذاك، لا سيما وأن الاتصال تم مباشرة بعد الاعلان عن اختياره لهذه المسؤولية. قلت له: نحن نناديك باسم "مام جلال" فماذا سنناديك بعد اليوم، ضحك وقال "مام جلال"، قلت مقترحاً: ما رأيكم بفخامة الرئيس مام جلال؟، أجاب "بلا فخامة، ولتكن الرئيس مام جلال.. هكذا أفضل".
جلال حسام الدين نورالله نوري طالباني، المولود في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1933 في قرية كلكان على سفح جبل كوسرت المطل على بحيرة دوكان في محافظة السليمانية، ويعرف "مام جلال"، أي العم جلال، و(العم) هنا ليست نسبة إلى عمره فقد حمل هذا اللقب (مام) منذ شبابه، وإنما نسبة إلى حكمته ولذكائه وقدرته القيادية المبكرة.. هو أول رئيس جمهورية منتخب من قبل أعضاء مجلس النواب منذ قيام النظام الجمهوري في العراق عام 1958، إذ لم يتم تعيينه من قبل أية سلطة عسكرية أو حزبية أو تم فرضه على العراقيين من قبل قوات الاحتلال الاميركي، كما أنه أول سياسي كوردي عراقي يتولى هذه المسؤولية في تاريخ الدولة العراقية.
موجز لتاريخه النضالي
وبتعريف موجز لتاريخه النضالي من أجل القضية الكوردية، والذي يمتد على مدى أكثر من نصف قرن، حيث انتمى، جلال طالباني، عام 1947 إلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي أسسه الزعيم ملا مصطفى بارزاني، وسرعان ما تبوأ مناصب قيادية في الحزب لحرصه على تنفيذ الواجبات وكفاءته، وعندما اندلعت الثورة الكوردية، بقيادة بارزاني، ضد حكومة عبدالكريم قاسم في سبتمبر (أيلول) عام 1961، كان طالباني مسؤولاً عن جبهتي القتال في كركوك والسليمانية.
وفي منتصف الستينيات تولى عدداً من المهام الدبلوماسية التي مثل فيها القيادة الكوردية في اجتماعات أوروبا والشرق الأوسط، قبل أن ينشق عن الحزب. ومن ثم أسس حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني عام 1975، وبعد تغيير نظام صدام حسين عام 2003 أختير عضواً في مجلس الحكم. ودرس الحقوق (القانون) في جامعة بغداد، ويجيد إلى جانب لغته الكوردية، اللغات: العربية والفارسية والانجليزية.
اللقاء الأول
تعرفت على الزعيم الكوردي جلال طالباني مباشرة في لندن في أواخر التسعينيات ، ومنذ اللقاء الأول بدا طالباني ودوداً، مبتسماً، محتفياً بي، وأشعرني بقربي منه، كان صريحاً في حديثه عن الثورة الكوردية ومبدياً أسفه لاحداث الاقتتال الكوردي- الكوردي عام 1996، متفائلاً بعودة المياه إلى مجاريها وبانتصار الثورة الكوردية.
ثم توالت اللقاءات هنا وهناك، وكان آخر لقاء بيننا قبل تغيير نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين قد تم خلال مؤتمر المعارضة العراقية الشهير في فندق المتروبوليتان في العاصمة البريطانية، لندن، آواخر عام 2002، وبعد تغيير النظام التقيت بالزعيم طالباني ببغداد عام 2004 خلال فترة رئاسته لمجلس الحكم، ومنذ ذلك توالت اللقاءات بيننا، سواء كانت لأغراض صحفية أو شخصية فهو اعتبرني صديقاً مقرباً، وفي ذلك شرف لي.
رئيس تحرير (جريدة).. وليس (جمهورية)
كنت أستغرق مفكراً بينما الرئيس طالباني يتحدث لي عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكيف إنه (صدام حسين) لم يعف عن طالباني، أو عندما كان يجلس معه للتفاوض لإيجاد حل للقضية الكوردية، وأتساءل: هل كان طالباني يفكر وقتذاك أو يتوقع أن يكون رئيساً لجمهورية العراق.
يجيب، مام جلال، عن هذا التساؤل قائلاً: "في خارطة حياتي لم أضع في أي من محطاتها فكرة اسمها رئاسة الجمهورية، وفي بداية حياتي كان طموحي أن أكون أستاذاً في الجامعة، وعندما انخرطت في العمل السياسي كنت أعمل من أجل نظام ديمقراطي وإصدار جريدة، لم أكن أخطط لتحمل مثل هذه المسؤوليات، حتى في المفاوضات التي جرت مع الحكومات العراقية، لم أرشح نفسي لأي منصب، وذات مرة طلبوا مني ذلك ولم أوافق".
يصمت قليلاً، ثم يعاود الحديث عن أمنياته السابقة التي يبدو أنه أخفق في تحقيقها، يقول: "كنت أتمنى أن أكون رئيس تحرير جريدة كما كنت في بغداد عامي 1959 و1960، رئيس تحرير صحيفة "كوردستان" بالكوردية، وعضو تحرير في صحيفة "خَبات"، فأنا عضو الهيئة الإدارية لنقابة الصحافيين العراقيين منذ عام 1959 والتي كان نقيبها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، أو في أبعد الحدود أن أكون نائباً في البرلمان العراقي إذا توفرت الظروف".
يستطرد مام جلال، قائلاً: "لكني كنت أتصور أنه في ظل عراق ديمقراطي يمكن أن يكون الرئيس شخصاً كوردياً، لكنه ليس جلال طالباني، وقد حدث في تاريخ الدولة العراقية أن تسلم الكورد مناصب مهمة، مثل علي صالح السعدي، وهو كوردي من أربيل، وطاهر يحيى، كوردي وصار رئيس وزراء في العراق في الستينيات".
رئيساً لكل العراقيين
سألته: إذن، كيف وجد طالباني الطريق إلى الرئاسة؟ من رشحه لهذا المنصب الذي لم يفكر فيه على الإطلاق؟ يقول الرئيس طالباني: "اقترحت القيادة الكوردية أن يرشح الأخ مسعود بارزاني لرئاسة الإقليم وأن أرشح أنا لرئاسة جمهورية العراق، وكان هناك رأيان داخل المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكوردستاني، الأول يرى أهمية بقائي في السليمانية وقيادة الحزب والإشراف على الأوضاع والحكومة المحلية أفضل من الذهاب إلى بغداد، والرأي الثاني كان يعتقد أن وجودي ببغداد كرئيس للجمهورية أفضل للعراق ولنا، أنا شخصياً كنت مع الرأي الأول وما كنت أريد الذهاب إلى بغداد، وبعد نقاشات طويلة أخذنا برأي الأكثرية التي كانت مع ذهابي إلى بغداد والترشح لرئاسة الجمهورية".
لكن "مام جلال" لم يخضع لرأي الأكثرية في حزبه من دون شروط، ويقول: "وضعت شرطين، الأول قلت أنا إذا ذهبت إلى بغداد سوف أنزع الملابس الكوردية وأضع العباءة العراقية لأنني سأجسد الشخصية العراقية وسأكون رئيساً للعراق وليس للأكراد، والشرط الثاني كان هو أن يحظى ترشيحي بقبول القوى السياسية الأساسية في العراق، وقد حظينا بهذا القبول والتأييد، حيث كان الائتلاف العراقي (الشيعي) موافقاً، وكذلك القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي، وقسم كبير من جبهة التوافق (سنية) كانوا مؤيدين لرئاستي، فضلاً عن التحالف الكوردستاني، ثم صارت هذه التركيبة لمجلس رئاسة الجمهورية والتي تتكون من الرئيس، أنا، ونائبي الرئيس، ونلنا أكثر من ثلثي الأصوات في البرلمان، وأقسمنا على القرآن الكريم على صيانة الدستور ووحدة واستقرار العراق".
"مام جلال" كان قد مارس في السليمانية تجربة الرئاسة، رئاسة الإقليم من هناك، على الرغم من أنها كانت تجربة محدودة وغير موسعة مثل رئاسته لعموم العراق، ويوضح قائلاً: "في كوردستان وعندما كانت هناك حكومتان، واحدة في أربيل والأخرى في السليمانية، كنت أنا رئيس الإقليم في السليمانية، وعندما كنا في أربيل لم أتقلد أي منصب، بل كنت الأمين العام للاتحاد الوطني الكوردستاني، وكان في فترة من الفترات الدكتور فؤاد معصوم رئيس الحكومة، ثم كوسرت رسول، بينما أنا كنت الأمين العام للحزب فقط، على الطريقة السوفياتية القديمة".
عقبات في الطريق إلى الرئاسة
لم يكن طريق مام جلال إلى رئاسة الجمهورية سالكاً، فقد جوبه باعتراضات، هناك من اعترض على ذهابه إلى بغداد، وأولهم زوجته هيرو خان، ويعترف بذلك قائلاً: "في كوردستان اعترض كثيرون على ذهابي إلى بغداد، بدءاً بزوجتي ومروراً ببعض قيادات الاتحاد الوطني، وفي بغداد لم ألاحظ، علناً، أي معارضة على ترشيحي، لكن لا أدري ماذا كان موقف التيار الصدري وقتذاك، هل صوتوا معنا أم ضدنا، ولو أنهم في العلن ودودون معنا، وبعض القوميين في جبهة الوفاق، حيث لا أعرف كم شخصاً منهم صوت لنا، أما الإدارة الأميركية فقد أيدت ترشحي للرئاسة لأنهم كانوا يرون أني الأصلح لهذا المنصب، لكن في ظل حكم بريمر (بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد 2003) فقد كانت هناك معارضة لأن يتسلم كوردي القيادة، وكان بريمر يرى أنه يجب أن لا يكون رئيس الحكومة أو الجمهورية كوردياً، لكن السفير الأميركي زلماي خليل زاد كان موقفه على العكس من موقف بريمر، حتى في مجلس الحكم، وأنا كنت عضواً فيه، عارض بريمر أن أكون رئيساً للجمهورية، ولهذا رشحنا غازي الياور، نحن لم نكن طامعين بأي منصب، لكننا كنا نعترض على المبدأ ونقول إن من حق أي عراقي أن يكون في أي منصب، شرط أن تتوفر فيه الشروط الدستورية".
ويشرح الرئيس طالباني نهج بريمر في حكم العراق فيقول: "كان مصراً على مشاركة الكورد في العملية السياسية، لكن كانت هناك اختلافات في وجهات النظر حول الدستور ومن يترأس العراق".
بريمر لم يكن أميناً
ويقارن الرئيس العراقي بين سياسة جاي غارنر وخليل زاد وبريمر فيقول: "في بداية الوجود الأميركي كان جاي غارنر ومعه خليل زاد، الذي كان سفير أميركا لدى المعارضة العراقية، وكان رأيه ورأي غارنر تشكيل حكومة وطنية عراقية مؤقتة بعد سقوط النظام السابق مباشرة ورشحوني أنا لرئاسة هذه الحكومة، وجاء غارنر وخليل زاد إلى هنا في دوكان وعرضا علي وعلى الأخ مسعود بارزاني الذهاب إلى بغداد لتشكيل الحكومة، وبالفعل ذهبنا إلى بغداد حيث كانت آمنة، واستقر بارزاني في فندق، بينما أجرنا نحن بيتاً في حي المنصور، والتقينا بالمعارضة العراقية، وهم المجلس الأعلى وحركة الوفاق والمؤتمر الوطني وحزب الدعوة والحزب الشيوعي، واقترح خليل زاد إضافة أسماء من الداخل إلى تشكيلة المعارضة، فاقترحنا نصير الجادرجي وعبد الإله النصراوي، وكانت هناك شكوك حول هل هذا هو رأي الإدارة الأميركية لتشكيل حكومة مؤقتة أم هذا رأي غارنر وخليل زاد، لهذا تم جمع القيادات العسكرية والحكومية الأميركية وكذلك البريطانية ومندوب وزارة الدفاع الأميركية في فندق في بغداد وأعلن هؤلاء موافقتهم على تكليفنا بتشكيل الحكومة المؤقتة، ومر شهر من دون أن نشكل الحكومة، حتى تم إرسال بريمر وسحب غارنر وخليل زاد من العراق، وجاء بريمر الذي بدأ يتصرف وكأنه نائب الملك وأن من حقه أن يفعل ما يشاء في العراق، فألغى فكرة تشكيل حكومة مؤقتة، ثم جاء قرار مجلس الأمن الذي اعتبر العراق محتلاً وأعطى القوات الأميركية حق التصرف كمحتلين للعراق، وهذه كانت الغلطة الأميركية الكبيرة الأولى".
ويرى طالباني أنه لو كانت الحكومة قد تشكلت لتغير الوضع الأمني في العراق، حيث اكتشف العراقيون أن الأميركيين جاؤوا كمحتلين وليسوا منقذين أو محررين، وهناك حاكم مدني باسم الاحتلال، حتى إنني أتذكر خلال اجتماع لنا مع القيادتين الأميركية والبريطانية، خاطب الدكتور أحمد الجلبي البريطانيين الذين أيضاً كانوا يعارضون تشكيل حكومة وطنية مؤقتة، فقال لهم: إن مِسْ بيل كانت أفضل منكم لأنها جاءت عام 1922 وشكلت حكومة وطنية وأنتم اليوم تعارضون تشكيل هذه الحكومة"، وأنا أعتقد أن هذه كانت نقطة بداية الخلاف بين الجلبي والاحتلال.
سألت مام جلال عن رأيه في بريمر وعما ورد في كتابه (عام أمضيته في العراق) عن القيادات الكوردية وغيرها، أجاب قائلاً: "بريمر لم يكن أميناً في كتابه الذي يحتوي على كثير من المغالطات".
طالباني مع صدام حسين
غيرت الصورة النمطية للرئيس
لقد عرف عن الرئيس طالباني عدم التزامه بالبروتوكول، خاصة مع أصدقائه من قادة الدول أو الضيوف، فهو يتصرف مثلما كان بلا أية تغييرات، هو أراد أن يغير الصورة النمطية لرئيس الجمهورية في الشرق الأوسط، أو لنقل ما هو متعارف عليه في العراق على الأقل؛ يخرج مع فريق حماية مختصر، يستقبل ضيوفه بنفسه ويودعهم حتى باب بيته، يفرح عندما تخاطبه بـ"مام جلال"، يمسك بيدك ويقودك إلى مجلسه، وعندما سألته عن سبب خروجه عن البروتوكولات، أجاب قائلاً: "أنا خرجت كرئيس عن البروتوكول وعن نمطية صورة الرئيس، أنا لم أشعر بأي اختلاف عندما صرت رئيساً للجمهورية، ولماذا هذا الاختلاف، الرئاسة مسؤولية ومنصب يمارسه الرئيس، أنا اعتقد أن الإنسان يعطي القيمة للمنصب وليس العكس، فأنا لم أغير سلوكي سواء في الرئاسة أو خارجها كإنسان وكجلال طالباني، فأنا أمارس مسؤولياتي كأمين عام حزب سياسي عراقي كوردي، وكذلك مسؤولياتي كرئيس للعراق ولا أجد صعوبة في التوفيق بين مسؤولياتي لكونها متقاربة، فهي مسؤوليات وطنية تهم العراق وشعبنا بالدرجة الأولى".