شارع الذكريات ١٠ – عبد الكريم قاسم ويهود العراق (تلبد الغيوم)
د. ديفيد (خضر) بصون
شارع الذكريات ١٠ – عبد الكريم قاسم ويهود العراق (تلبد الغيوم)
بمناسبة مرور 59 عاما على انقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم اعيد نشر احدى الحلقات من ذكرياتي وفيها أصف الأشهر الاخيرة قبل الانقلاب وخاصة ما يتعلق بيهود العراق
في هذه الحلقة انهي ما بدأته قبل حلقتين في الحديث عن الحقبة التي حكم فيها عبد الكريم قاسم العراق وعن علاقته وموقفه من يهود العراق.
++++
دار عبد الكريم قاسم في العلوية وأموال اليهود المجمدة
من الجدير بالذكر أن عبد الكريم قاسم كان يسكن في دار في منطقة العلوية قرب الجندي المجهول سابقاً (ساحة الفردوس)، استأجرها من مديرية الأموال المجمدة لليهود. قيل ان الإيجار الشهري لهذا المنزل كان خمسة عشر دينارا. يُعرف الشارع اليوم ب "شارع الزعيم" ومعظم المنازل تعود أصلا لليهود وصودرت منهم بعد رحليهم، ثم سكنتها عوائل مسيحية غادرت بدورها العراق في السنين الأخيرة. قرأت أن المنزل الذي سكنه قاسم قد تم إزالته بعد انقلاب 8 شباط 1963 في محاولة لمحي ذكراه ثم شيدت عليه عمارة سكنية.
في تقرير لموقع "ساحات التحرير" في حزيران 2012 بعنوان "شارع الزعيم: ذكرى شاحبة لمؤسس الجمهورية العراقية"، ذُكر ما يلي "ونتيجة صدور قرار حكومي سمح لشاغلي عقارات الدولة بشرائها، استحوذ المسؤولون وبحسب رواية أهالي "شارع الزعيم " على العديد من المنازل المملوكة للدولة، بعد مصادرتها من أصحابها الحقيقيين من يهود العراق الذين غادروا البلاد نهاية أربعينات ومطلع خمسينات القرن الماضي، وألحقت بدائرة الأموال المجمدة".
ألغت حكومة البعث في بداية الثمانيات دائرة الأموال المجمدة وحلت محلها وزارة المالية – دائرة عقارات الدولة في إدارة هذه الأموال وأنيط للوزارة التصرف بعقارات اليهود المسقطة عنهم الجنسية العراقية بعد تحويل بعض العقارات إلى وزارتي السكان والزراعة. يذكر موقع وزارة المالية أن مجموع عقارات اليهود التي مُلّكت لوزارة المالية تصل إلى اثني عشر ألف وسبعمائة وستة وثلاثين عقاراً وتم تمليك ألفين وستة وستين عقاراً إلى بعض الوزارات والدوائر ذات العلاقة."
++++
بعض القرارات التي أدت إلى تحالف قوى داخلية وخارجية لإسقاط قاسم
منذ الأشهر الأولى للثورة اكتسب عبد الكريم قاسم شعبية واسعة بين الجماهير وتم تحقيق الكثير من المشاريع في عهده (ولو أن البعض منها كان قد خطط لها في العهد الملكي). من اهم المشاريع التي أنجزت كان شق قناة الجيش وبناء مدينة الثورة لإسكان الفقراء من الذين نزحوا من جنوب العراق (مدينة الصدر حاليا) وإنشاء العديد من المنشآت الصناعية.
غلى الرغم من القاعدة الشعبية كانت يتمتع بها عبد الكريم قاسم يرى الكثير من المؤرخين أن عدداً من القوانين والقرارات لحكومة قاسم التي ضربت مصالح فئات ضيقة من الشعب أو كان لها أبعاد إقليمية أدت إلى تحالف العديد من القوى السياسية والدينية مع المخابرات العربية والغربية، بالرغم من تناقض مصالحهم، لإسقاط عبد الكريم قاسم. أتطّرق إلى البعض منها بصورة موجزة وسأناقشها في مقال مفصّل في المستقبل.
قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء قانون حكم العشائر - في الأشهر الأولى للثورة سنّت حكومة قاسم قانون الإصلاح الزراعي الذي جرّد كبار الشيوخ الإقطاعيين من مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي كانت قد مُنحت لهم في العشرينيات من قبل الحكومة العراقية، في ظل الانتداب البريطاني، لكسب ولائهم، وقلّمت الحكومة أيضا نفوذ شيوخ العشائر بإلغائها قانون حكم العشائر مما أثار حفيظتهم ضد قاسم.
قانون الأحوال الشخصية - في سنة 1959 سنّت حكومة قاسم قانون الأحوال الشخصية رقم 188 الذي شملت أحكامه جميع المسلمين وغيرهم إلّا من استثنوا بقوانين خاصة وهم المسيحيون واليهود. استند هذا القانون إلى أحكام الشريعة الإسلامية، معتمداً على اهم أبواب الفقه الإسلامي دون تحيز لأي مذهب. حاول هذا القانون أن ينظّم حياة الأسرة ويعطي المرأة بعض من حقوقها المدنية وأن يساوى بينها وبين الرجل في الميراث وفي الشهادة في المحاكم ووضع شروطاً على تعدد الزوجات. واجه هذا القانون معارضة عنيفة من المؤسسة الدينية وبتحريض من القوى السياسية المناوئة لقاسم بحجة الدفاع عن الإسلام.
قانون رقم 80 للنفط - في ربيع 1961 صدر قانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99.5% من الأراضي العراقية التي كانت خاضعة لاتفاقيات الامتياز نظراً لعدم قيام شركات النفط باستغلالها، وأبقى لها القانون الحقول المنتجة آنذاك. أثار هذا القانون حفيظة شركات النفط وقرروا العمل للإطاحة بعبد الكريم قاسم. كانت شركات النفط مستعدة للتخلي عن 90% من أراضي الامتياز واستثمار الأموال لتكثيف عمليات استكشاف النفط في العراق وكان قاسم ميّالاً لقبول هذا العرض. لكن خبراءه الفنيين أشاروا عليه وعلى الوفد العراقي المفاوض رفض هذا العرض وذلك بتأثير من شعارات الأحزاب السياسية.
المطالبة بضم الكويت - في صيف 1961 قامت الكويت بإعلان استقلالها من بريطانيا وفي نفس الأسبوع عقد الزعيم مؤتمر صحفي طالب به بضم الكويت إلى العراق على أساس أن بريطانيا كانت قد اقتطعت هذا الجزء من العراق وان الكويت قضاء تابع للبصرة، مهدداً باستخدام القوة، ولو عملياً لم يحرك أي قوات ولم يُدخل الجيش العراقي في متاهات غير محمودة.
اندلاع النزاع المسّلح في كردستان - بعد فترة عسل قصيرة لم تتجاوز الثلاث سنوات، توترت العلاقات بين الحكم والقيادة الكردية وتوسعت الاختلافات إلى درجة أن اندلع في أيلول 1961 نزاع مسّلح بين السلطة المركزية والأكراد بقيادة الملا مصطفى البرزاني. أدى هذا النزاع إلى إضعاف القاعدة الشعبية لحكومة قاسم.
على ذكر قانون الإصلاح الزراعي تأثرت بعض العوائل اليهودية العراقية التي كانت تمتلك أراضي أو حصص في أراضي زراعية كعائلتي الخلاصجي وآل معلم حين انتزعت معظم الأراضي منهم بالرغم انهم اشتروها بعرق جبينهم ولم تُمنح لهم. كانت عائلتي الخلاصجي ومعلم من الرواد الأوائل في تطوير الزراعة في الفرات الأوسط وإدخال مضخات المياه والآلات الزراعية. لم تعوضهم الحكومة العراقية ولكنهم قبلوا بما كتب لهم وترّكزوا في التجارة والصناعة. في أواخر 1968 بعد إلقاء القبض على أعضاء من عائلة معلم وبعد تعذيب اضطروا للتخلي عن أكبر معمل طابوق فني في العراق كان يمتلكونه. هذه بعض الأبيات من قصيدة باللغة العامية كتبها عزت ساسون معلم أحد أصحاب معمل الطابوق، نشرت في كتابه "على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت":
بعراگي گضيـت الوكـت ضيم وقهر حـده بسموم سيـف البعث الصوّب گليـبي وچبدة
بنص كانــون وأطر جبــال بثلوجه او برده سهرت ليالي ونهاره وبنيت المعمل بلذة
وشكثر الجوامع والمدارس وللجيش طابوگي مده والريل يشهد چم ألف مليون للبصرة والسدة
ابـمـلايين والله ما بيــعه وبچدي تفــور زرده شط او بـحر يـجري ذهب للـعوز نــجده
++++
هدم مقبرة اليهود في وسط بغداد
تلبد الغيوم بدأ رويداً يتسع ليشمل يهود العراق. على الرغم من مرور قرابة ستين عاماً لاتزال احدى كبوات عبد الكريم تظل بظلالها الأليمة على علاقة الطائفة الموسوية بعبد الكريم قاسم في نهاية فترة حكمه. في سنة 1961 أراد قاسم تشييد أعلى برج في العالم العربي حيث كانت مقبرة اليهود في وسط بغداد (منطقة النهضة) المحاذية لشارع الشيخ عمر والتي كان يعود عمرها لأكثر من اربع مئة سنة، وفيها رفات كبار الحاخامات ورجال الدين، القبر الجماعي لضحايا الفرهود في 1941 بالإضافة إلى عامة الناس.
يذكر شاؤول ساسون في كتابه عن والده رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري "راع ورعية" (من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1999) ، ما يلي "....أن عدداً من الأشخاص المسلحين جاءوا إلى منزل الوالد ليلاً وطلبوا منه أن يذهب لزيارة الزعيم عبد الكريم حالاً. فاستعد الوالد لذلك وطلب سيارة لنقله إلى مكتب الزعيم دون أن يدري ماهي أسباب هذه الزيارة الليلية وبعد مرور ساعة عاد الوالد من الزيارة وأبلغنا بان الزعيم عبد الكريم بدأ كلامه معه وهو واقف، الأمر الذي لم يعتد عليه لا الزعيم ولا الوالد. وقال له: يا سماحة الحاخام لقد تقرّر تشييد "برج قاسم" وشُكّلت لجان عديدة لتحديد المكان اللائق لبناء هذا البرج. وتقرر أخيرا بالإجماع أن يتم البناء في المكان الذي تقع فيه مقبرة اليهود وسط بغداد"
وطلب عبد الكريم أن يتم نقل جميع محتويات هذه المقبرة إلى مقبرة جديدة خارج حدود بغداد وعلى أن يتم ذلك خلال ستة أشهر. وعندما اعترض الحاخام بأن المدة المحددة لا تكفي لنقل جثث تعد بالآلاف فأجابه الزعيم بما يلي: " يا سماحة الحاخام إن همم الرجال تقلع الجبال، فليس من المستحيل عليك أن تتخذ التدابير المستعجلة لإنجاز هذا العمل خلال الفترة المقررة وهي ستة أشهر. وهنا دق الزعيم عبد الكريم الجرس وهي إشارة إلى انتهاء المقابلة".
على أعقاب هذا الخبر ذهب وفد من يهود العراق لمقابلة قاسم وأخبروه أن من المحظور في الديانة اليهودية أن تجلى المقبرة وتحرك عظام الموتى من راحتها الأبدية وانه قد تحصل عواقب لا يحمد عليها. ولكن قاسم أصر على موقفه وتعهد انه سيوفر ما يحتاجون من العمال والمكائن لإكمال المهمة في الوقت المحدد!
أضطر اليهود إلى إخلاء المقبرة ونقل رفات أحبائهم إلى المقبرة الجديدة في الحبيبية قرب مدينة الثورة (الصدر) وكان بينهم الموتى الذين قتلوا في أيام الفرهود ودفنوا في القبر الجماعي. كان من المهم اتخاذ الإجراءات المناسبة، إن أمكن، لمعرفة هوية كل جثة (عظام) قبل دفنها ثانية في المقبرة الجديدة، وفقاً لأحكام الشريعة اليهودية. لم يفهم يهود العراق الذين شعروا بالطمأنينة والمساواة في عهده لماذا اتخذ عبد الكريم هذا القرار الظالم الذي ينطوي على عدم الحساسية ولماذا يجب أن يشيد هذا البرج على أراضي المقبرة. نقلنا أمواتنا على عجل ونفذنا القرار خوفا من "نقمة الزعيم على الأحياء" - ولم يشيد البرج وبقت الأرض خلاء لسنين عديدة.
كتب الأديب الكبير مير بصري هذه الأبيات:
أضاق بك التراب، وفي بلادي تراب القفر يعبـث بالصدور؟
وهذا الترب كون من جدودي وأبلائـي على مر العصور
فيا أبــت الذي غــاب عنــي وعاث الموت بالجسد الطهور
اذا اندثر الضريح ففي فؤادي مقامك، يا أبـي حتـى النشور
كان اليهود يرددون أن هذا نذير شؤم. إذا كنا نؤمن أو لا نؤمن فان نذير الشؤم تحقق فلم تمر إلا مدة قصيرة وقتل قاسم بأيدي البعث. من المبكي أن المقبرة بقت خالية لأكثر من عقد - إلى منتصف السبعينيات حين شرعت أمانة العاصمة ببناء مرأب لسيارات النقل العام.
++++
النهاية تقترب ليهود العراق
نستطيع أن نتطلع على صورة الوضع من قراءتنا لبعض من كتب عن تلك الفترة. في ذكريات الدكتور سلمان درويش "كل شيء هادئ في العيادة" (من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1981) يتحدث فيها د. درويش عن زيارته للحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفة الموسوية، بعد عودته من قضاء رحلة استجمام في أوروبا وبيروت في أواخر 1962:
"سألني الحاخام:
- ما الذي يقوله عنا يهود لندن؟ (القصد هنا اليهود العراقيون في لندن)
- إنهم يوجهون إلينا اشّد الانتقاد ويلومونا لأننا لا ننتهز الفرصة لمغادرة العراق نهائيا ما دام بالإمكان الحصول على جوازات سفر
قال: ولماذا أليست الحالة هادئة والسفر إلى الخارج متيسر لمن يريد؟
قلت: انهم يعترفون بميزات الظروف الحالية ولكن هل في الإمكان ضمان ذلك دوماً؟
قال: لا
قلت: ولهذا هم يلوموننا
قال: يظهر أن هناك انحرافاً أو تغييراً في تفكيرك أو اتجاهاتك
وهنا كان الأستاذ أنور شاؤل بين من كانوا في الديوان وسرعان ما أشار عليّ من طرف خفي بأن أخفف من الجدل والطف الجو فقلت:
إنني يا سيادة الحاخام اعبر عن رأي من هم في لندن وليس عن رأيي الخاص، وإنني اطمأن سيادتكم بأننا الموجدين هنا لا نزال نؤيد رأيكم من أن لا محل لنا في العالم خير من العراق وسرعان ما تركنا الموضوع وتطرقنا إلى حديث آخر...."
ويضيف الدكتور درويش "لا بد لي أن أذكر أن سفر اليهود إلى خارج العراق مُنع منعاً بتاتاً بعد ثلاثة أشهر من هذا الحديث"
++++
عمل والدي في السنتين الأخيرتين لحكم قاسم كسكرتير التحرير لجريدة الجمهورية لصاحبها عبد الرزاق البارح والمحسوبة على قاسم. كان والدي "قاسمياً" حتى النخاع وبرغم التذبذبات في سياسة قاسم ومحاولته مهادنة وموازنة القوى السياسية المتصارعة كان والدي من أولئك الذين يؤمنون بنزاهته وإخلاصه وكان يعتقد أن المقربين منه لا يقدمون النصائح الجيدة ولهم مصالحهم الضيقة. بحكم عمله الصحافي واطلاعه على الواقع السياسي في العراق كان والدي يردد أن السياسة التي يتبعها قاسم بعد اصطدامه مع القوى اليسارية والأكراد ستؤدي إلى كارثة من خلال انقلاب دموي سيطيح به.
في مقال لوالدي نشره في جريدة الأنباء الصادرة في اورشليم القدس في 8 شباط 1979،كتب ما يلي: "بالنظر إلى ما كان يحسه عبد الكريم قاسم في نفسه من ثقة واعتداد وكبرياء، ومن محبة الجماهير الواسعة له وانه بضربه اليسار المتطرف ومن معه، وبضربه اليمين المتطرف ومن معه، أصبح يسير في الطريق المعتدل أو السوي، وانه لا بد قادر على أن يجر أعداءه إلى جانبه، فراح يجاملهم ويغازلهم ويقربهم، ويسلم لهم بعض المناصب الحساسة كما أخذ يبعد أو يقصي حلفاءه السابقين ويقلّم أظافرهم، وفي وقت كان خصومه وأعداؤه يعدون الطبخة ويضعون التصاميم لقتله والانقلاب عليه والإطاحة بحكمه !..
في هذا الوضع كان الضعف يدب في حكم عبد الكريم قاسم، في حين كان يتصور نفسه شديدا وحكمه قوياً.. ولولا معرفة الشيوعيين بان نهاية عبد الكريم قاسم تعني نهايتهم لما تورعوا هم أيضا عن المشاركة في الإطاحة به.
وهنا اكتملت عناصر المؤامرة على حكمه فأعداؤه يعملون، وحلفاؤه يبتعدون، والأكراد ينكل بهم. أما الجماهير البسيطة والطيبة التي كانت تحبه، فلم تكن تستطيع أن تمنحه غير المحبة القلبية وغير الهتاف والتصفيق!.."
يقول الأديب الكبير أنور شاؤل في مذكراته "قصة حياتي في وادي الرافدين" (ايضاً من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1980) "في تقديري، أن الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد ثورة تموز، كان وطنياً طموحاً، كبير القلب، طيب النزعة، لكنه – رحمه الله – كان يعوزه الكثير من حسن التدبير والممارسة وبُعد النظر كما تنقصه الاستشارة النيرة التي كان من الفروض أن تقدمها اليه، حاشية التفت حوله التفاف السوار بالمعصم".
قبل أسابيع زرت ضياء ابن أنور شاؤل وذكرت ما قرأت لوالده فأخبرني بانه كان شاهداً على ما حدث في التاسع من شباط من 1963 حيث كانوا يسكنون في كرادة مريم قريبا من الشارع الرئيسي الذي كان في ذلك الوقت يسمى شارع المنصور وكانت غرفته تطل على الشارع. "لا يمكنني أن أنسى الموكب الذي مر أمامي تتقدمه سيارة مدرعة كانت تحمل في جوفها الزعيم عبد الكريم وهو يقتاد إلى دار الإذاعة تتبعها شاحنات مكتظة بأناس يهتفون كالمعتوهين والفرحة تغمرهم. وقف عدد من الجنود في وسط المدرعة وبيد كل منهم بندقية فوهتها موجهة إلى الأعلى وأخمصها إلى الأسفل ينهال به بوحشية على الفقيد وهو في طريقه إلى محاكمة صورية أكملوا بعدها إعدامه. فارق النوم جفوني ليال عديدة بعد هذه الحادثة الموجعة."
++++
الثامن والتاسع من شباط 1963
اذكر هذين اليومين المشؤومين (الثامن والتاسع من شباط 1963) مثل البارحة. بعد أن اتضح لنا نجاح الانقلاب ومقتل عبد الكريم، سارعنا للخروج من بيتنا في العلوية والذهاب إلى بيت خالي في المسبح حيث بقينا عدة أيام لأننا كنا خائفين من أن يُعتقل والدي وهو في البيت ويُقتل في الأيام الأولى للانقلاب (حسبما ذكرت كان والدي يعمل في الصحيفة المحسوبة على قاسم والمعروف عنن انه يساري بالإضافة لكونه يهودي).
بمقتل عبد الكريم ومجيء عبد السلام عارف لدفة الحكم فقد يهود العراق "صمام الأمان". في 21 آذار 1963 قامت حكومة احمد حسن البكر بإلغاء قانون رقم 11 (الذي ذكرته في الحلقة السابقة) وإضافة الفقرة ب من قانون التسقيط ثانية، محددة بذلك سفر اليهود والذي منع كليا بعد سنة. تصوروا ستة أسابيع بعد الانقلاب بدأت مجدداً الإجراءات التعسفية. في 1964 أصدرت حكومة طاهر يحيى الهوية الصفراء ليهود العراق لتميزهم عن باقي أبناء الشعب ومذكرة إيّانا بالنازيين. هذه أبيات من قصيدة الأديب أنور شاؤل بعنوان "الهوية الصفراء":
أهويـــــة الأحقــــاد والأرزاء يا صكّ أذلال ورمز شقاء
هذا اصفرارُك لن يطـول بقاؤه ولّت عهود الرقعة الصفراء
سأمزق الظلـم المشين وانفـض الذل المهين بعزّتي وإبائي
وأروح في طلب الكرامة نائياً وأقول للإذلال لست ردائي!
ولو إنني كنت صغير السن نسبياً (عندما قامت ثورة تموز لم أكن قد بلغت التسعة أعوام وحين قتل قاسم كان عمري ثلاثة عشر ونصف)، لكني اذكر تلك الحقبة جيداً. والآن، وانا انظر لتلك الفترة، أتسأل كيف لم يتعلم من تبقى من يهود العراق بعد التسقيط من دروس الماضي. مصيرنا كان مرتبطاً ببقاء عبد الكريم قاسم فقد كان هو صمام الأمان لنا. كيف لم نستغل الفرصة لنغادر العراق حين كان السفر مفتوحاً. أعطانا الله فرصة ثانية بعد التسقيط ولم يستغلها البالغون. دفعنا ثمناً باهضاً لهذا التقاعس بلغت ذروته في نهاية الستينات / أوائل السبعينات (أيلول 1968 – آذار 1973) بلغ عدد الضحايا من الذين قتلوا من قبل جلاوزة البعث قرابة الخمسين شخصاً من ضمنهم خمس نساء (1.5% ممن تبقى من يهود العراق آنذاك). هؤلاء الشهداء أعدموا شنقاً، لقوا حتفهم بعد أن اختطفوا، من جراء التعذيب في السجون، رمياً بالرصاص أو ذبحوا. رحم الله هؤلاء الأبرياء الذين قتلوا فقط لكونهم يهود. هؤلاء كانوا لنا المنار لكيلا نرتكب الخطأ مرة ثالثة ولهذا حديث آخر.
انهي هذه الحلقة بأبيات من قصيدة "يا كريم العراق" للشاعر الكبير جبار جمال الدين تخليداً للزعيم:
من بعد خمسين عاما أنت تزدهر عبدالكريم وأنت السمع والبصر
يا سيدي يا كـريم النـفس أن لنـا عــهدا قديمــــا وودا ليس يستتر
هيهات هيهات ما ساووك أنملة يا شامــخا كنــخيل زانه الكبــر
اشعث في الناس عدلا لا مثيل له وجرعونـــــــا ليـــال كلــها كدر
معذبــون وسيف الحقد يحصدنا مشردون ونــــار الظـلم تستعر
أنت الكريـم وذي ذكـراك خـالدة تطوى العصور ويبقى ذكرك العطر
[size=32]*رحم الله كل من وافته المنية من الذين ذكرتهم في هذا المقال.[/size]