مفاوضات ابو كطان
متي كلو
مفاوضات ابو كطان
في عام 1977 نسبت للعمل كمديرمجمع مبيعات الرصافة في حي الجوادر في مدينة الثورة (1) والخاص بتجهيز وكلاء الرصافة بمختلف انواع الاقمشة وكان هذا المركز يشمل جميع وكلاء الشركة التجارية للقطاع العام في الرصافة وكانت توزع الحصص وفق الجدول الاسبوعي المعد لكافة الوكلاء وحسب المناطق في جانب الرصافة اي يوم معين لكل حي او عدة احياء وفق كثافة الوكلاء للحي ، وكان يوم الخميس من كل اسبوع مخصصا لوكلاء مدينة الثورة فقط لما تحتويه هذه المدينة من الكثافة السكانية وعدد كبير من الوكلاء.
حضرت يوم الخميس صباحا كعادتي يوميا قبل الدوام الرسمي بنصف ساعة وكان الدوام يبدا في الساعة الثامنة صباحا ولغاية انتهاء الدوام في الساعة الثالثة او حين الانتهاء من تجهير اخر وكيل لذلك اليوم،فكان العشرات بانتظار بدا الدوام وكان اغلب هؤلاء الوكلاء قد حضر قبل ساعة من بدا الدوام ووقف الجميع قرب الباب الرئيسي للمجمع وياخذ كل واحد من هؤلاء في الطابور الطويل والذي كان يستغرق وقتا طويلا لقطع قسيمة الشراء وتسديدها والانتقال الى المخازن المجاورة لاستلام الحصة الاسبوعية.
نشاهد هؤلاء الوكلاء يتراكضون كل مجموعة امام احد موظفي المبيعات لتثبيت المواد التي تكون موحدة لجميع الوكلاء ومن ضمنها المواد التي تفرض على الوكيل والتي غالبا ما تكون مواد بطيئة الحركة والتي يطلق عليها"الكوتة" والتي لا يمكن تسويقها من قبل الوكيل وهذه احدى السياسات الخاطئة التي كانت تنتجها لجان الاستراد والتي كان يعزف عن شرائها المواطن وبالتالي تتكدس في مخازن المنشاة التجارية وخلال فترة تتلف من جراء الخزن وبالتالي تلفها وشطبها من السجلات الحسابية!!
تم تجهيز الوكلاء في ذلك اليوم وفق سياقات التسويق و التسلسل بصورة طبيعية، ولكن بعد الظهر سمعت ضوضاء واصواتا مرتفعة في قاعة الوكلاء الملاصقة لمكتبي وقبل ان اخرج للاطلاع ما يحدث حضر امين المخزن وهو في حالة عصبية من تصرف احد الوكلاء واعلمني بانه تلقى كلاما غير لائق بحقه من قبل وكيل من حي الثورة وطلبت استدعاء الوكيل وحضر وكان في اواسط العقد السادس من عمره ذو لحية بيضاء، طلبت منه الجلوس والهدوء لكبر سنه ولكن رفض الجلوس وهو يتوعد الموظف امامي كررت الطلب اليه بالهدوء والكف عن التهديد والكلام الغير اللائق بحق موظف اثناء تادية واجبه، واعلمته بان هذا التصرف يعتبر جنحة يعاقب عليها القانون واجراءات اخرى من المنشاة التجارية بحرمانه من الحصة الاسبوعية لعدة مرات، قال، انه رجل كبير السن ومضى اكثر من ثلاثة ساعات بانتظار الحصة، وطلبت من الموظف استلام حصتي لكبر سني ولكن الموظف لم يلتفت الى طلبي، فطلبت منه الهدوء مرة اخرى ولا يمكن تلبية طلبه لان جميع الوكلاء متساوون والاستلام وفق التسلسل ، وشرحت له بان من يحضر اولا يستلم اولا وهذه القاعدة في جميع مجمعات المبيعات قائلا، وانت لست وكيلا جديدا وتعلم سياق العمل جيدا وهناك اكبر منك سنا كما هناك عدد كبير من النساء ولكن الوكيل اصر على الاستلام الفوري ولم تفلح كل محاولات التهدئة ثم بدا بكلمات بذيئة بحقي و الموظفين وفي لحظة غضب امسكه احد الموظفين ودفعه خارج المكتب، فوقع على الارض.
بعد تقريبا ساعة دخل مكتبي مسؤول العمال"ابو كطان" وهو مكفر الوجه، قائلا: استاذ ان الوكيل استصحب معه عدد من اولاده واقاربه حاملين العصي وهو ينتظرون انتهاء الدوام الرسمي، مهددين بانتقاص منك ومن الموظف الذي دفعه، لان عندما وقع الوكيل وقع عقاله ويشماخه على الارض وهذا يعتبر اهانة وطعنا لكرامته ومبادئه واخلاقه، فقلت له علينا الاتصال بالشرطة، اجابني على الفور .. لا لا يا استاذ، لان هذا الاجراء لا يمنعهم من الحضور غدا او بعده وان المشكلة سوف تبقى قائمة اذا لم تحل ، وعندما سالت ابو كطان عن الحل، اجابني سوف اخرج واعلم ما يريدون، وافقت على الفور.
غاب ابو كطان اكثر من نصف ساعة ثم عاد ليبلغني بان الحل هو تجهيز الوكيل فورا مع حصة اضافية ولا يوجد لديهم حل ثان، اتصلت بمعاون المدير العام لشؤون التسويق، ورويت له ما حدث، وكان الحل بتجهيز الوكيل نصف حصة اضافية تلافيا لما لا يحمد عقابه، بلغت ابو كطان بهذا الحل، وبعد مفاوضات ومباحثات بين ابو كطان واقرباء الوكيل، وافق على الاضافة مع اعتذار الموظف له وتقبيل جبينه.
دخل الوكيل مع احد ابنائه شاكرا هذه الاضافة وتقدم اليه الموظف وقبل جبينه وخرج وهو مبتسما ومنتصرا!!
في اليوم التالي قلت لابو كطان كم هو رخيص هذا الوكيل، وعندما سالني عن السبب مستغربا كلامي،
قلت له ان كرامة هذا الوكيل لا تساوي اكثر من نصف حصة من المادة، ولكن ابو كطان قال لي استاذ هذه هي تقاليدنا وعاداتنا فقلت له ارتضى بربحية لا تتجاوز العشرين دينارا مقابل وقوع العقال واليشماغ التي اعتبرها كرامته ، شكرت ابو كطان على مجهوده وقلت له كنت مفاوضا جيدا يا ابو كطان.
وهي المدينة التي شيدها الزعيم عبدالكريم قاسم وسميت بمدينة الثورة تيمنا بثورة 14 تموز 1958 وتم تغير اسمها على مر السنوات حيث سميت في عهد العارفين واحمد حسن البكر بحي الرافدين ثم سميت بمدينة صدام في عهد النظام قبل السقوط واطلق علي بعد التغير بمدينة الصدر.