شهد القرن العشرين جملة من التحولات على مستوى جهاز المفاهيم / ياسين طالب باحث في ماستر الأدب المغربي
شهد القرن العشرين جملة من التحولات على مستوى جهاز المفاهيم، وعلى مستوى النظريات والاتجاهات في مجال النقد الأدبي بصفة عامة، وعلمنة الدراسة الأدبية بصفة خاصة، نتيجة لما توصلت إليه العلوم المعرفية المتعددة من حقائق ونظريات استفاد منها النقد الأدبي. إذ أضحى المشهد النقدي المعاصر يتجه أكثر فأكثر نحو إلغاء الحواجز المختلفة بين الظواهر الأدبية وبين العلوم التجريبية البحتة. فضلاً عن استفادته من نظريات لسانية حديثة بما تتضمنه من مناهج متعددة ، أحدثت تحولات عميقة في توجهات الخطاب النقدي المعاصر ذي المرجعيات الغربية التي لها الدور الحاسم في توجيه الخطاب النقدي العربي الجديد. ويعد المنهج الثقافي واحد من المناهج المتميزة في الفكر النقدي ، وفي الثقافة العربية بوصفه مشروعا نقديا وفكريا، تتجلى فيه بوضوح شعرية الخطاب النقدي الذي هيمنت فيه جميع الدراسات لصياغة فكر نقدي أصيل ، إنطلاقاً من خلفيات تاريخية ، ولغوية ، وقاعدة معرفية زاخرة لمستجدات المشهد النقدي. وبهذا أحدثت إنجازاته نقلة نوعية في مسار الحركة النقدية العربية الراهنة من خلال دراساته الحديثة المتنوعة والمعمقة للظاهرة الأدبية ، إضافة إلى أنه انخرط في أفق النقد المعرفي الذي تلتقي فيه مختلف الحقول المعرفية موظفا منجزات علم النفس والعلوم البحتة عموماً ، فشكلت تجربته حدثاً ثقافياً مهماً.
ومن المعلوم أن مصطلح الثقافة عام وعائم وفضفاض في دلالته اللغوية والاصطلاحية، ويختلف من حقل معرفي إلى آخر، وهو من المفاهيم العلمية في الثقافتين: الغربية والعربية على حد سواء. فالثقافة بطابعها المعنوي والروحاني تختلف مدلولاتها من البنيوية إلى الأنثروبولوجيا وما بعد البنيوية . وتندرج الثقافة مجالياً ضمن الحضارة التي تنقسم إلى شقين:النسق المادي والنصي ،ويسمى بالتكنولوجيا ، والنسق المعنوي والأخلاقي والإبداعي ، ويسمى بالثقافة . ومن ثم يمكن الحديث عن نوعين من الدراسات التي تنتمي إلى النقد الحضارى ، الدراسات الثقافية التي تهتم بكل ما يتعلق بالنشاط الثقافي الإنساني ، وهو الأقدم ظهوراً والنقد الثقافي الذي يحلل النصوص والخطابات الدينية والفنية والجمالية في ضوء معايير ثقافية وسياسية وإجتماعية وأخلاقية ، بعيداً عن المعايير الجمالية والفنية ، وهو الأحدث ظهوراً بالمقارنة مع النوع الأول ومن ثم ، فالنقد الثقافي نقد إيديولوجي وفكري وعقائدي. اذ ظهر في العالم العربي والإسلامي بشكل خجول، ولا يزال في بدايته أمام هيمنة المؤسسة وجبروتها وقوة دفاعاتها. وقد برز في هذا المجال ثلاثة رواد هم: إدوارد سعيد وعبد الجواد ياسين وعبد الله الغذامي، مما فتح مجالات جديدة للخطاب النقدي العربي وسمح بتنويعه وإكسابه فعاليات القراءة والتحليل والنقد؛ نقد الدراسات العلمية، ونقد الخطاب النقدي .
وعليه فالنقد الثقافي هو الذي يدرس الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافية مضمرة وبتعبير آخر، هو ربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم لايتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية ومجازات شكلية موحية بل على أنها أنساق ثقافية مضمرة تعكس مجموعة من السياقات الثقافية والتاريخية .ومن هنا يتعامل النقد الثقافي مع النص الأدبي الجمالي ليس بإعتباره نصاً، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية تضمر أكثر ما تعلن وينتمي هذا النقد إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق.في حين تنتمي الدراسات الثقافية إلى الأنثروبولوجيا وعلم الإجتماع والفلسفة وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى
ويعتبر الدكتور عبد االله الغذامي واحد من أهم النقاد العرب المعاصرين الذين يملكون مشروعا نقديا ثقافيا حداثيا متكاملا .ويعمل حاليا أستاذ النظرية والنقد في جامعة الملك سعود في الرياض. وقد نشر عددا لا بأس به من الكتب مثل: (الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية)1985 ،و(تشريح النص) 1987 و(الموقف من الحداثة)1987 ،و(الكتابة ضد الكتابة)1991 ،و(ثقافة الأسئلة : مقالات في النقد والنظرية) 1992 ،و(القصيدة والنص المضاد)1994 ،و(المشاكلة والاختلاف) 1994 ،و(المرأة واللغة)1997 و(ثقافة الوهم : مقاربات من المرأة واللغة والجسد) 1998 ،و(تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) 1999 و(حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) 2003 ،و(النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية .2000) في هذا الأخير يعرف د. عبد االله الغذامي النقد الثقافي على النحو الآتي: " النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء . ومن حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي.
بالنسبة للعلاقة أو الفرق بين النقد الأدبي والنقد الثقافي عند كل من ليتش وعبد الله الغدامي، فإن ليتش يؤكد عند تناوله لطبيعة الروابط بين النقد الثقافي والنقد الأدبي أن هذين النقدين مختلفان على الرغم من وجود بعض نقاط الالتقاء والاهتمامات المشتركة بينهما. وبعكس بعض المهتمين الآخرين بالنقد الثقافي الذين يرون أن على النقد الثقافي أن يركز على تلك الظواهر التي يهملها النقد الأدبي مثل مظاهر الثقافة الشعبية أو الجماهيرية، ويبتعد عن الميادين الأدبية "المتعالية" كنظرية الأدب، يرفض فنسنت ليتش الفصل بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، ويرى أن اختصاصيي الأدب يمكن أن يمارسوا النقد الثقافي دون أن يتخلوا عن اهتماماتهم. أما الدكتور عبد االله الغذامي فيقول في محاضرة ألقاها في مطلع سنة 2002 في مؤسسة عبدالحميد شومان: "نحن لا نملك إلا أن ننسب النقد الأدبي إلى الأدب، وبالمقابل فإننا سننسب النقد الثقافي إلى الثقافة". كما يلاحظ الغذامي أن النقد الأدبي الذي في الثقافة العربية قد ترعرع في أحضان البلاغة أصبح فنا في البلاغة يعنى في المقام الأول بجمالية النصوص والوقوف على مكونات أدبيتها، أو كشف عوائقها .
سأتناول في هدا الشق من البحث، الحديث عن رواية "المصري"