هل ما يحدث في العراق هو الحل للكوارث التي احدثها الاحتلال ومن جاء معه؟ وما هو البديل الامثل؟
د. سعد ناجي جواد
هل ما يحدث في العراق هو الحل للكوارث التي احدثها الاحتلال ومن جاء معه؟ وما هو البديل الامثل؟
منذ ايام والشارع العراقي يعيش على حافة الانزلاق الى ما لا تحمد عقباه نتيجة لتظاهرات واعتصامات شعبية وصلت في بعض الاحيان الى درجة الفلتان، وكادت تودي بالسلم الاهلي والمجتمعي الهش اصلا. وحبس الناس انفاسهم خشية من الاسوأ. واذا ما علمنا ان كل الاطراف المتخاصمة تتحكم بمجاميع مسلحة عديدة نستطيع ان نتصور سبب خشية اهالي بغداد وباقي المحافظات. وهذا كله سببه ظاهريا العجز عن تشكيل حكومة، وفي جوهره التنافس والتنازع على المناصب والمصالح الكبيرة التي لم يعد قادة الاحزاب والكتل السياسية الحاكمة مستعدون للتنازل عنها، لما حققته لهم من امتيازات لم يكونوا يحلمون بها.
الملاحظات التي لا تخطئها عين اي متابع لما يجري عديدة: اولا ان ما يجري اثبت ان التيار الصدري التابع للسيد مقتدى الصدر ، سواء اتفقنا او اختلفنا معه، هو الاقوى في الشارع العراقي والاوسع انتشارا والاكثر شعبية، وخاصة بين الفئات العمرية الصغيرة، (وهذه الحقيقة هي اكثر ما ارعب اهالي بغداد خاصة، خوفا من ان ينزلق هولاء الشباب الى العنف الذي لا تحمد عقباه، ولو ان قادة التيار استطاعوا لحد الان ضبط ايقاع التظاهرات التي تمثلهم، ولكن لا احد يدري ما قد يثير العنف في اية لحظة، خاصة وان اطراف اقليمية وحتى داخلية تسعى لذلك). ثانيا اصبح واضحا ان السيد مقتدى الصدر مصمم على افشال مخططات الطرف الاخر (والذي عرف بالاطار التنسيقي) لتشكيل حكومة. والاكثر من ذلك فانه مصمم ليس فقط على حرمان غريمة السيد نوري المالكي (الشخص الاكثر تاثيرا داخل الاطار) من تشكيل الحكومة بنفسه او ترشيح احد مواليه، وانما هو مصمم على ان يحال المالكي للقضاء لمحاسبته عما بدر منه من اساءات له ولجمهوره. على الطرف الاخر فان السيد المالكي قد اخفق في تقييم قوة التيار الصدري وزاد من تحديه له بان رشح شخصا يعتبر من اتباعه (السيد احمد شياع السوداني) لكي يكون رئيس الوزراء المقبل، هذه الخطوة اشعلت الفتيل، ونتج عنها اقتحام البرلمان من قبل اتباع الصدر، والاعتصام به لمنع اية جلسة قد ينتج عنها المصادقة على اسم السيد السوداني. الملاحظة الثالثة ان الاطار التنسيقي فشل في مقابلة المد الجماهيري الواسع للتيار الصدري، وان ما نجح في تجميعه هي اعداد لم توازي مجاميع الطرف الاخر، والاهم ان الاعداد التي حركها لم تستمر في تجمعها سوى لمدة ساعتين تقريبا. (الاطار يزعم ان خطته كان كذلك، وانه لو اراد الاستمرار لفعل ولحشد اعداد اكبر).
الملاحظة الرابعة هي فشل كل الجهود لتهدئة الامور والتقريب بين الاطراف المتنازعة، فالتيار الصدري صعد من مطالبه وبدا يتحدث عن ضرورة تغيير نظام الحكم وتعديل الدستور وتفعيل دور القضاء لمحاسبة الفاسدين والاهم محاسبة المالكي على اساءاته للتيار ورئيسه وللشعب العراقي بصورة عامة. بينما ظل الاطار التنسيقي متمسكا بمرشحه لرئاسة الوزراء، ويصر على ان يعد العدة لعقد البرلمان لتمرير هذا الترشيح. علما بان هذا الترشيح جاء من لجنة مكونة من الاحزاب والتكتلات التي خسرت الانتخابات التي جرت قبل عشرة اشهر، وهذا بحد ذاته يمثل عدم احترام لاراء الناخبين، مهما كان الراي بالانتخابات السابقة ونسبة من شارك بها. وهذا الفشل في التهدئة لا يزال مستمرا على الرغم من وجود السيد قآاني، قائد فيلق القدس الايراني، في بغداد منذ ايام، والاقرب للاطار، وجهود المرجعية الدينية في النجف الاشرف التي تواصلت معد السيد الصدر.
الملاحظة الخامسة والاهم ان الطرفين المتقابلين لا يزالان يتحدثان بطريقة لا تدلل على وجود تصور واضح لديهما عن طريق الخروج من الازمة، ولا برنامج اصلاحي واضح لحال العراق البائس منذ ما يقارب العشرين سنة، وان الامور اخذت تبدو وكانها تنافسات او عداوات شخصية. فالسيد الصدر مصر على ابعاد السيد المالكي واخرين من الاطار عن المشهد السياسي، متهما اياهم بكل ما تسبب في وصول العراق الى هذا الوضع الماساوي، في حين ان تياره كان ولا يزال مشاركا في العملية السياسية منذ بدايتها ويشترك في المسوولية. من ناحيته فان المالكي يعتبر ان كل ما يقوم به الصدر موجه له شخصيا، حتى وصل به الامر الى ان ينشر صورا له وهو يحمل السلاح ومحاط بافراد مدججين به، في اشارة الى ان هناك محاولة لتصفيته شخصيا من قبل التيار، ناهيك ما سرب عنه من احاديث اساءت للسيد الصدر شخصيا. كما انه ظل مصرا على تمرير مرشحه بدعوى انه مستقلا. بكلمة اخرى فلقد ظهر ان الاطار يحاول ان يطرح مرشحه في اية لحظة يلتئم فيها البرلمان. ولهذا جاء اقتحام البرلمان من قبل اتباع التيار الصدري.
السوال الاكثر ترديدا من قبل كل العراقيين الان هو: ما هي النتيجة؟ هل ان الامر سينتهي باجبار الاطراف المختلفة على التصالح على الطريقة العشائرية (تقبيل اللحى والجباه، او بوس عمك بوس خالك كما يقول العراقيون)؟ واذا لم يتم ذلك هل سيستمر التصعيد حتى يصل الى مواجهة مسلحة تدخل البلاد في حرب اهلية؟ خاصة وان اي من الاطراف لم يظهر نية للتنازل او للتقارب او يطرح برنامجا اصلاحيا واضحا. نعم التيار الصدري يتحدث عن الاصلاح ومحاسبة الفاسدين، وهذا مطلب شعبي كبير، ولكن التيار يضم عددا غير قليل من هولاء الفاسدين والذين لم تتم محاسبتهم لحد الان، والناس تنتظر من التيار ان يضرب المثل في تطبيق ما يطلبه بحق الاخرين. كما ان المالكي واتباعه مازالوا مصرين على نفس النهج الذي اوصل العراق لهذا المنحدر الطائفي والمحاصصاتي والتوافقي والمتستر على الفاسدين، بدليل انه ما زال مصرا على تشكيل الحكومة بنفس الوجوه والطرق والاساليب السابقة التي لم ينتج عنها سوى المزيد من الفساد ونهب المال العام وحرمان العراقيين من اية مشاريع خدمية وحتى البسيط منها.
ان الاستمرار في اقتحام البرلمان هو ليس الحل الذي ينشده العراقيون. نعم هذا الحل افسد عملية الاستمرار على نهج اثبت فشله لعقدين من الزمن، ولكنه يبقى محفوف بالمخاطر. ان الحل الافضل هو الذي يجب ان يكون قانونيا ودستوريا. ومثل هذا الحل لا يتوفر الا لمجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية، اذا كان من يقف على راسهما جادا حقيقة في ايجاد حل دائم للمشكلة.
ان كل الدلائل والمؤشرات تقول ان الحل يكمن في: اولا ان يبادر القضاء ويصدر حكما قضائيا يعتبر مجلس النواب بتركيبته الحالية برلمانا غير شرعي ويامر بحله، وهذا الامر لا يحتاج لتبريرات قانونية، لان 73 نائبا منتخبا بصورة صحيحة قدموا استقالاتهم، وبدلا من الدعوة لانتخابات جديدة جرى احلال خاسرين بدلا عنهم، وهذا الامر يُفقِد المجلس شرعيته. ثانيا ان تعترف كل الاطراف المشاركة بالعملية السياسية بفشلها الذي استمر لما يقارب عشرين عاما، وهم جميعا اعترفوا شفهيا بذلك، وان يتم التوافق على تشكيل حكومة طوارئ لمدة محددة (سنتين في اقل تقدير) من اشخاص مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والقدرة على الاصلاح، تقوم بتهدئة الامور وتطلب من كل المشاركين بالعملية السياسية الحاليين اغتنام هذه الفرصة لاعادة التفكير بما فعلوه وتشذيب تنظيماتهم من الفاسدين ومن الذين اوغلوا بالدم العراقي ومن حملة الشهادات المزورة، لكي يشاركوا بوجوه جديدة نزيهة وكفوءة في الانتخابات القادمة. وان افضل من يمكن ان يطرح هذا الحل الان كمخرج للازمة الحالية هو التيار الصدري الذي يملك الزخم الشعبي الداعم. وثالثا ان يتم اصلاح القضاء بحيث ياخذ دوره الحقيقي في محاسبة كل فاسد او قاتل او مزور او يظهر انه يقدم مصلحة اطراف خارجية على مصلحة العراق. رابعا ان يتم تشكيل لجنة اقتصادية او مالية (لجنة نزاهة حقيقية من قضاة وخبراء ماليين) تعيد النظر بكل الميزانيات السابقة وتكشف حجم الفساد والسرقات التي حدثت، وتعمل على استرداد ما نهب من اموال الشعب العراقي. خامسا ان يتم العمل على حصر السلاح بيد الدولة ولا يبقى بيد اطراف تستطيع ان تستخدمه متى ما شاءت. سادسا واخيرا ان تعمل حكومة الطواريء على تشكيل لجنة من خبراء وفقهاء دستوريين عراقيين اكفاء تعيد النظر بالدستور الحالي، الذي كان ولا يزال السبب في تمزيق وشرذمة العراق، وتضع دستورا يتعامل مع الجميع كعراقيين متساوين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. طبعا هناك من سيقول ان كل هذه الخطوات ستكون مرفوضة من الاحزاب والتكتلات المشاركة في العملية السياسية، لانها ببساطة ستطيح باعداد كبيرة من داخلهم وتودع اعدادا اخرى السجون جراء ما اقترفوه. ولكن من يريد الاصلاح حقيقة لا يوجد امامه غير هكذا برنامج يمكن ان يضع العراق على الطريق الصحيح، واي حلول عكس ذلك ستمثل استمرارا لما حصل منذ عام 2003 ولحد الان.