العدوان الاخير على غزة العزة والصمود.. وجهة نظر من زوايا اخرى
د. سعد ناجي جواد
العدوان الاخير على غزة العزة والصمود.. وجهة نظر من زوايا اخرى
ابتداءً وبدون اي شك ان ما حدث في غزة في الايام الثلاثة الماضية يدمي القلب والعين معا. وهذه ليست المرة الاولى، ولن تكون الاخيرة. ولقد كُتب الكثير عن هذه الجريمة والجرائم الكثيرة التي قبلها، وسيكتب الكثير عن التي سترتكب بحق الشعب الفلسطيني في قادم الايام، وبالاخص تلك التي ترتكب بحق ابناء غزة وحتى تحقيق النصر النهائي باذن الله.
لكن ما جرى يستوجب مناقشة الموضوع من زوايا اخرى غير تلك المتعلقة بالجرائم المحزنة التي ارتكبت بحق ابناء غزة الابطال والصابرين والذين يثبتون يوما بعد يوم انهم نموذجا رائعا وفريدا في المقاومة والصمود والاحتساب.
اولا يجب تثبيت حقيقة ان هذا العدوان الكبير والدامي والوحشي والذي تبجحت به اسرائيل والتي قالت بانه لن يتوقف حتى يحقق كل اهدافه، قد توقف بمجرد ان تدخلت مصر واقترحت وقف لاطلاق النار، وكأن هدف الحكومة الاسرائيلية كان فقط استهداف الشهيدين تيسير الجعبري وخالد منصور، وان غرضه او هدفه الاساسي يتعلق بامور انتخابية او داخلية اسرائيلية بحتة، بدليل ان تل ابيب سارعت الى قبول اتفاق وقف اطلاق النار، وكأنها كانت متعطشة له وتبحث عنه بفارغ الصبر.
ثانيا اذا ما قارنا ما حققته اسرائيل من خلال هذه العملية، (استهداف قياديين من حركة الجهاد الاسلامي، مع الرعب الذي حصل داخل اسرائيل نتيجة لصواريخ المقاومة، وما تكبدته من خسائر مادية كبيرة سواء للتصدي لصواريخ المقاومة، او تكاليف الفزع الامني واخلاء المناطق المحيطة بغزة)، يظهر ان تكاليف العدوان على اسرائيل كانت اكبر بكثير مما ادعت انها حققته في عدوانها على غزة. وفي هذا المجال يجب التذكير ان العقلية العنجهية للقيادات الاسرائيلية المبنية على فكرة اغتيال قيادات معينة، على اساس ان هذه الاغتيالات هي الطريقة الانجح في كبح المقاومة، قد فشلت واثبتت غبائها منذ زمن بعيد، لان المقاومة، اية مقاومة وبالذات الفلسطينية واللبنانية، اظهرت انها قادرة على تعويض هذه القيادات بوجوه شابة اقدر واكفا. ولو راجعت اسرائيل قوائم شهداء المقاومة الذين اغتالتهم، وقارنتها بالأسماء التي حلت محلها، والسرعة التي تم فيها ذلك ستدرك جيدا فشل استراتيجيتها في هذا المجال، والدليل ان قدرات المقاومة تصاعدت رغم كل عمليات الاغتيال التي طالت بعض قياداتها. والاهم انها لم تنجح (الاغتيالات) في انهاء المقاومة.
ثالثا ان اغلب مراكز الابحاث الغربية المحايدة تؤكد ان قدرة المقاومة الفلسطينية على جر اسرائيل الى مواجهات مسلحة شاملة او محدودة مقلقة تثبت فشل اسرائيل في التعامل معها بصورة حازمة ونهائية او انهائها بادعاء تحقيق نصر كامل فيها، (كما فعلت ونجحت في حروبها السابقة مع الدول العربية)، وبالتالي يمكن اعتبار هذه المواجهة، وسابقاتها، هي جزء من حرب استنزاف تفرضها المقاومة على اسرائيل وجيشها الذي لم يعد لا يقهر رغم امكانياته الضخمة، وان تكلفة هذه الحروب على اسرائيل في تصاعد مستمر، وان نتيجة كل المواجهات هي فشل دولة الاحتلال في تحقيق اهداف استراتيجية واضحة، ويكفي ان تكون النتيجة الاهم فيما يخص غزة هي العجز عن اجتياحها، والعجز عنن قتل روح المقاومة التي تنتقل من جبل الى جيل. ويكفي ان تكون النتيجة الاخرى هي تزايد عدد الصواريخ التي تستطيع المقاومة ان تطلقها على العمق الاسرائيلي.
وهذا ما عبرت عنه مجلة الايكونوميست البريطانية واسعة الانتشار في عددها يوم امس، والتي قالت فيه انه (رغم النجاحات الاسرائيلية العسكرية في استهداف قيادات في المقاومة، وان دفاعاتها الجوية استطاعت ان تسقط اغلب الصواريخ التي اطلقتها المقاومة، الا ان الحقيقة المهمة تظل تقول ان غزة، هذه المقاطعة الصغيرة المحاطة من كل جانب بأراضي فلسطينية محتلة اسرائيليا، استطاعت وتستطيع دائما ان تسحب القيادات الاسرائيلية الى التورط في عمليات تجلب للأراضي المحتلة وللحكومات الاسرائيلية الاضطرابات). بكلمة اخرى ان النجاحات العسكرية الاسرائيلية بالنتيجة تفشل في تحقيق الامان والاستقرار الذي تصبو له القيادات الاسرائيلية وهو ما بدا بسبب قلقا كبيرا للمستوطنين، وان المقاومة هي التي تنجح في بث الرعب سواء بين الناس او داخل الحكومة. واذا كان هذا الرعب محصورا في الحزام المحيط بقطاع غزة في السابق، فانه اصبح يوما بعد يوم يتمدد حتى وصل الى سكان تل ابيب نفسها.
الملاحظة الرابعة، وهذه ملاحظة قد لا تعجب بعض أطراف المقاومة، التي لا اتمنى لها سوى النجاح والنصر الدائم في مواجهتها مع العدو الاسرائيلي، ولكن حب فلسطين وشعبها ومقاومتها يحتم القول ان المواجهة الاخيرة اظهرت حاجة الى التثبت من بعض المتطلبات، او غياب لبعض الامور الحيوية.
اول هذه الامور الغائبة هو عدم التنسيق بين فصائل المقاومة الفلسطينية قبل الذهاب الى المواجهة. لقد كان واضحا ان الجانب الاسرائيلي كان يخطط لها وعازم على الذهاب اليها منذ أكثر من اسبوع من بداية العدوان. ومع ذلك فان حركة الجهاد الاسلامي لم تنجح في افشال هدف قادة اسرائيل الباحثين عما يعزز مواقعهم في الانتخابات القادمة التي ستجري في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. ثاني هذه الامور ان قيادات المقاومة لم توفق في الموازنة بين ما هو ضروري ويستحق ان ترمي المقاومة ثقلها فيه وتعرض حياة المدنيين للخطر، ومع ما يمكن تأجيله الى وقت انسب، وكذلك بين مسالتي الرغبة في المواجهة وهي امر مشروع، والقدرة على انجاح المواجهة وتحقيق نتائج ايجابية مهمة، وبين ما هو يصلح لان يكون دعائيا ومع ما هو جدي ومطلوب، وبين رد سريع محسوب ومحدود وآخر يتطلب حسن ادارة واستمرار في المقارعة. اذ كما اثبتت المواجهة الاخيرة ان الة الحرب الاسرائيلية لم تتورع عن الاستمرار في العمليات العسكرية على الرغم من عدم وجود اهداف اخرى لديها غير التي حققتها في ضربتين جويتين فقط، بينما باقي الضربات كانت لأهداف مدنية بحتة نتج عنه استشهاد اكثر من ثلاثين شخصا بينهم اطفال ونساء وشيوخ، وتدمير لبنى تحتية ومساكن لمدنيين ابرياء.
طبعا المحصلة النهائية لهذه المواجهة القصيرة، على الرغم من شدتها، الا ان نتائجها لم تظهر بعد. اسرائيل تكذب عندما تقول انها حققت اهدافها وذلك من خلال (استهداف استباقي لـشخاص كانوا على وشك شن هجمات داخل اسرائيل)، وانها (نجحت في جعل حركة حماس لا تدخل في المواجهة)، وهذان النجاحان مشكوك فيهما. فأولا ان خطر تعرضها لرشفات صاروخية اخرى ظل مستمرا ومازال قائما، وثانيا ان محاولة شق الصف الفلسطيني، مع تعرضه لتصدع، لم تنجح لحد الان، فكما هو واضح ان ما جرى لا يعني ان حماس قد تخلت عن هدف المقاومة. ولكن حماس بالتأكيد تظل مطالبة بتوضيح موقفها اولا لشعب غزة الصامد وثانيا لحليفها حركة الجهاد الاسلامي.
الرحمة لكل الشهداء الذين سقطوا في هذه المواجهة والدعاء لكل الجرحى بالشفاء. وكل الحب والتبجيل لأبناء غزة الابطال الصامدين، وان ينصركم الله فلا غالب لكم.