بينهم السيستاني والخوئي.. لماذا يعترض الكثير من الفقهاء على ولاية الفقيه؟
(الحرة عراق) - غادر الشاه محمد رضا بهلوي العاصمة الإيرانية طهران في السادس عشر من يناير سنة 1979 بعدما عمت المظاهرات شتى ربوع إيران. بعد أقل من أسبوعين، وصل رجل الدين الشيعي الإيراني روح الله الخميني إلى طهران قادمًا من فرنسا، بعد أربعة عشر عامًا في المنفى.
أنهت تلك الأحداث المتسارعة الحقبة الملكية الطويلة التي عرفتها إيران لما يزيد عن 2500 سنة. في الوقت نفسه، سمحت تلك الظروف بتأسيس حكم الولي الفقيه.
نلقي الضوء في هذا المقال على نظرية ولاية الفقيه، وعلاقتها بالمعتقدات الشيعية الإمامية التقليدية. لنرى كيف عارض العديد من فقهاء الشيعة تطبيق تلك النظرية منذ وصول الخميني إلى سدة الحكم في 1979م وحتى اليوم.
السلطة في الفكر الشيعي التقليدي
يؤمن الشيعة الإمامية الإثنا عشرية أن الإمامة منصب إلهي، بمعنى أن الله وحده الذي يختار الإمام ويعينه في منصبه، وأن البشر ليس لهم شأن في المسألة. تُجمع المصادر الشيعية أن هناك اثني عشر رجلًا تعاقبوا على منصب الإمامة بعد وفاة النبي في العام الحادي عشر من الهجرة. كان علي بن أبي طالب هو أول الأئمة، ومحمد بن الحسن العسكري آخرهم. يعتقد الشيعة أن آخر الأئمة اختفى عن الأنظار سنة 329هـ، ويؤمنون بأنه سيظهر مرة أخرى في آخر الزمان ليقيم دولة الحق والعدل التي انتظرتها البشرية منذ القدم.
أكدت الكثير من الروايات المنسوبة للأئمة على ضرورة الابتعاد عن السلطة والسياسة والحكم. على سبيل المثال، روي عن الإمام الرابع زين العابدين قوله: "ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا".
المعنى نفسه ينقله محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" عن الإمام الخامس محمد الباقر. يذكر المجلسي أن الباقر أمر أحد أتباعه قائلا: "الزم الأرض ولا تحرك يدًا ولا رجلًا حتى ترى علامات أذكرها لك وما أراك تدرك...". أيضًا، ذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه "الكافي" أن الإمام السادس جعفرا الصادق قال لأحد أتباعه: "يا سدير ألزم بيتك وكن حِلسا من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك".
النهي عن ممارسة العمل السياسي ورد في أوضح صوره في القول المشهور المنسوب للإمام الصادق: "كل راية تُرفع قبل قيام القائم عليه السلام فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل".
بموجب هذه الروايات، التزم الشيعة الإمامية بالابتعاد عن السلطة ورفضوا العمل على إقامة دولة أو نظام سياسي. يتسق ذلك مع القصة المشهورة التي ذكرها المؤرخ المسعودي في كتابه "مروج الذهب". يحكي المسعودي أن الثورة العباسية لمّا كُتب لها النجاح سنة 132هـ، فإن الداعية العباسي أبا سلمة الخلال عزم أن يسلم زمام السلطة للعلويين. فبعث برسالة مع رجل من عنده إلى الإمام جعفر الصادق. وعرض في تلك الرسالة أمر الخلافة والحكم على الصادق. فلمّا وصل الكتاب للأخير، قال: "ما لي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري؟! فقال له الرجل: اقرأ الكتاب، فقال لخادمه: أدن السراج مني فأدناه، فوضع الكتاب على النار حتى احترق، فقال الرسول: ألا تجيبه؟ قال: قد رأيت الجواب. عرّف صاحبك بما رأيت".
من هنا، فإن الرأي المشهور الذي انتشر بين الشيعة على مر القرون، كان يدعو دائما إلى البعد عن الحكم أو الثورة. وكان أصحاب هذا الرأي يرون أن ثورة الحسين بن علي بن أبي طالب على الحكم الأموي في 61هـ، كانت الثورة الشرعية الأخيرة، وأن الشيعة دخلوا في فترة الانتظار والترقب منذ ذلك الوقت. ولا يمكن أن يرفعوا سلاحهم مرة أخرى إلا بعد ظهور المهدي الغائب.
ولاية الفقيه
في سنة 329هـ، اختفى الإمام الثاني عشر عن الأنظار. وحسب المرويات الشيعية، فقد أرسل لشيعته قبل اختفائه ليخبرهم بما يجب أن يفعلوه في قادم الأيام. قال لهم في تلك الرسالة: "...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم...". بناء على ذلك الأمر بنى الفقهاء مفهوم مرجعية التقليد. وكان كبار الفقهاء الشيعة يرشدون الطائفة إلى ما يجب فعله، كما كانوا يرشدونهم في مسائل الدين ويفتونهم في الأحكام الشرعية.
في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، قامت الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس. عمل ملوكها على نشر التشيع في إيران، فاستقدموا العديد من الفقهاء الذين يسكنون جبل عامل في لبنان. كان المحقق الكركي أول العامليين قدومًا للدولة الصفوية. حظي الكركي بمكانة معتبرة عند السلطان الصفوي طهماسب، لدرجة أن الأخير أصدر مرسومًا إلى جميع نواحي إمبراطوريته، جاء فيه: "إن كل مَن يخالف حكم خاتم المجتهدين، ووارث علوم سيد المرسلين نائب الأئمة المعصومين ولا يتابعه، فإنه لا محالة ملعون مردود وعن مهبط الملائكة مطرود، وسيؤاخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة".
يذكر المفكر العراقي علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" أن الكركي بعد هذا المرسوم صار شريكا في الحكم، كما "أصبح هو الحاكم الفعلي في عهد طهماسب". كان الكركي في الحقيقة هو أول فقيه شيعي يقترب من منزلة الولي الفقيه بحسب ما تشكلت تلك النظرية فيما بعد.
ولاية الفقيه.. "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"
أعطى الخميني للولي الفقيه الولاية المطلقة وكل صلاحيات الإمام والرسول، واعتبر الولاية شعبة من ولاية الله.
في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، عمل الفقيه الشيعي أحمد بن مهدي النراقي على مناقشة نظرية ولاية الفقيه في كتابه "عوائد الأيام في مهمات أدلة الأحكام". يقول النراقي: "كل ما كان للنبي والإمام، الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام، فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضًا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نص أو غيرهما".
في النصف الأول من القرن العشرين، أُعيد طرح نظرية ولاية الفقيه في إيران على يد رجل الدين روح الله الموسوي الخميني. تم نفي الخميني من إيران عقب قيادته للمظاهرات المعارضة لدولة الشاه. في أواخر سنة 1969م، قام الخميني بإلقاء بعض الدروس الحوزوية في النجف. جُمعت تلك الدروس فيما بعد في كتاب الحكومة الإسلامية، والذي أعلن فيه الخميني رأيه في نظرية ولاية الفقيه. يقول الخميني في كتابه المذكور: "ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان… فالحاجة إلى الخليفة إنما هي من أجل تنفيذ القوانين، لأنه لا احترام لقانون من غير منفذ. وفي العالم كله لا ينفع التشريع وحده، ولا يؤمن سعادة البشر، بل لا بد من سلطة تنفيذية يكون افتقادها في أية أمة عامل نقص وضعف".
يتابع بعدها مشيرًا لأهمية هذه النظرية للواقع الذي تعيشه المجتمعات الشيعية "واليوم -في عهد الغيبة- لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام مُعطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول إن الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن حقنا وعن أرضنا؟ هل يسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة ضرورة من ضروريات الحياة؟".
يحدد الخميني بعد ذلك صلاحيات الولي الفقيه، فيقول: "وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة...".
حلم الخميني الذي أشار إليه في كتابه تحقق على أرض الواقع سنة 1979م عقب نجاح الثورة في إيران. نصت المادة الخامسة من الدستور الإيراني على أنه "فـي زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير". تولى الخميني منصب الولي الفقيه من 1979م إلى وفاته في 1989م. خلفه بعدها علي خامنئي، ولا يزال محتفظًا بالمنصب حتى اللحظة.
الاعتراض على ولاية الفقيه
يوضح المفكر العراقي علي المؤمن طبيعة الاختلافات الدائرة حول نظرية ولاية الفقيه عند الشيعة. يقول: "جميع الفقهاء من دون استثناء يؤمنون بولاية الفقيه، ويطبقونها عمليًا؛ لكنهم يختلفون في مساحتها. ومساحة الاختلاف هي نقطة واحدة فقط، وهي المتعلقة بمساحة النظام العام؛ فمنهم من يوسعها لتشمل موضوع الدولة والحكم، وهم القائلون بولاية الفقيه العامة أو المطلقة، ومنهم من يضيقها لتقتصر على الحسبة وحفظ النظام الاجتماعي العام، وهم القائلون بولاية الفقيه الخاصة".
بدأ الاعتراض على التطبيق الخميني لولاية الفقيه منذ فترة مبكرة. عارض آية الله حسين علي منتظري الولاية المطلقة التي دعا إليها الخميني. كلفه ذلك الإقالة من منصبه كنائب للمرشد الأعلى للثورة. نفى منتظري أن تكون الولاية من الأمور الواردة بشكل واضح في الشرع الإسلامي، فقال: "نفي الولاية المطلقة للفقيه لا يستدعى دليلا، إذ الأصل الأولي يقتضي عدم ولاية أحد على أحد، بل إثباتها يستدعى دليلا قاطعًا، ولم أعثر على ذلك في الكتاب والسنّة ولا في حكم العقل".
أكد منتظري في كتابه "دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية" أن التطبيق الحالي لولاية الفقيه لا يعدو أن يكون شكلًا من أشكال الغلبة والقهر والديكتاتورية. وأشار إلى أهمية أن يتم اختيار الولي الفقيه بالشورى "ففي عصر الغيبة إن ثبت نصب الأئمة للفقهاء الواجدين للشرائط بالنصب العام بعنوان الولاية الفعلية فهو، وإلا وجب على الأمة تشخيص الفقيه الواجد للشرائط وترشيحه وانتخابه، إما بمرحلة واحدة أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل صقع وناحية بعض أهل الخبرة، ثم يجتمع أهل الخبرة وينتخبون الفقيه الواجد للشرائط واليًا على المسلمين. والظاهر كون الثاني أحكم وأتقن وأقرب إلى الحق، كما يأتي بيانه. وكيف كان فالفقيه الواجد للشرائط هو المتعين للولاية، إما بالنصب أو بالانتخاب".
كان المرجع الديني محمد الحسيني الشيرازي -وهو أحد الفقهاء الكبار الذين ساندوا الثورة الإسلامية ووقفوا مع الخميني- أيضًا ممن وجهوا سهام نقدهم لأطروحة الخميني. في كتابه "كيف نجمع شمل المسلمين"، نبه الشيرازي لأهمية اشتراك الفقهاء جميعًا في أمر الولاية. يقول: "إن الحكومة الإسلامية قوامها: شورى المراجع الذين هم مراجع تقليد الناس… لأنهم نواب الأئمة، عليهم السلام، الذين نصبوهم حكامًا وخلفاء… ولا وجه لأن يكون بعض المراجع في الحكم دون بعض، لأنه عزل لخليفة الرسول، والحاكم المنصوب من قبل الإمام، ولا حق أن يقول أحدهم إن المرجع الفلاني لا يفهم أو ما أشبه (من الاتهامات) إذ ما دام قبلته جملة من الأمة بملء إرادتها، فاللازم أن يكون شريكًا في الحكم".
في السياق، نفسه نبه الشيرازي على رفض السلطة المطلقة التي تمتع بها الولي الفقيه. يقول في كتابه "السبيل إلى إنهاض المسلمين": "الحكم في الإسلام ليس رديئاً ولا دكتاتورياً، كما أن الحاكم الذي يأتي إلى الحكم عبر انقلاب عسكري مرفوض من قِبل الإسلام حتى لو كان الحاكم مسلماً، إذ الإسلام يشترط آراء الأكثرية، وهذا الانتخاب ينبغي ألا يكون أجوائياً، أي بالمظاهرات والاحتفالات كما من الضروري أن تجري انتخابات عامة بين فترة وأخرى- كل أربع أو خمس سنوات مثلًا- لانتخاب الحاكم العام والحكام المحليين حسب رأي الأكثرية أيضًا..".
علي السيستاني
وتوضح الباحثة في مركز "بروكينغز" للأبحاث مرسين الشمري، لوكالة فرانس برس أنه "فيما يبتعد الكثير من الناس عن الدين في كل أنحاء العالم، حافظ السيستاني على سلطته المعنوية نفسها".
لم يقتصر انتقاد نظرية ولاية الفقيه على الفقهاء والمراجع الإيرانيين فحسب، بل نراه امتد ليشمل عددًا من كبار الفقهاء الشيعة في شتى المجتمعات الشيعية المعاصرة. على سبيل المثال، رفض المرجع الشيعي في العراق أبو القاسم الخوئي الإقرار بولاية الفقيه في كتابه "التنقيح في شرح العروة الوثقى". فرق الخوئي بين الولاية الممنوحة للنبي والأئمة من جهة، والولاية التي يجوز للفقهاء أن يدَّعوها في زمن الغيبة. يقول الخوئي: "إن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة، بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه، وليس له التصرف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلاّ في الأمر الحِسبي…".
في السياق نفسه، حصر علي السيستاني -المرجع الشيعي الأكبر في العراق حاليًا- ولاية الفقيه في بعض الأمور دون بعض، وربط الولاية المطلقة بـ"قبول المؤمنين". يقول السيستاني: "الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد. وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي، فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط إضافية ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين".
كبار مراجع لبنان أيضًا انتقدوا التطبيق الخميني لولاية الفقيه. على سبيل المثال، قال الفقيه محمد جواد مغنية في كتابه "الخميني والدولة الإسلامية": "إن الإمام الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي والإمام المعصوم إلى الفقيه، ولكني لا أثبت إلاّ بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه".