عن أى ديمقراطية نتحدث؟
د.علي محمد فخرو
عن أى ديمقراطية نتحدث؟
فى كل يوم ينكشف للإنسان ما يصدم بعضا من قناعاته السابقة. فقد قرأت مؤخرا كتابا للصحفى والكاتب الإنجليزى، وهو أحد كتاب جريدة الجارديان ونيويورك تايمز، أوليفر بولوغ وتحت عنوان «رئيس الخدم للعالم» «Butler to the world».
وهو كتاب يحكى دخائل وأسرار انقلاب بريطانيا منذ أوائل خمسينيات القرن الماضى، عندما انهارت كإمبراطورية تتحكم فى ربع مساحة وشعوب العالم وأصبحت كأى بلد أوروبى آخر فى الوزن والقدرات، انقلابها إلى ممارسة مهنة رئيس الخدم فى أمور المال وشتى الخدمات المشبوهة الأخرى.
فأولا غضت الطرف عن بنوكها فى لندن ومؤسسات المحاماة والفاسدين من الشرطة وحتى الفاسدين من أعضاء البرلمانات النافذين بأن يقدموا خدمات قانونية ومالية بنكية ونصائح مشبوهة لكل من يريد التهرب من دفع الضرائب أو من سرقة أموال بلاده العامة، ممن كان رئيس بلد فاسدا ومن كان رئيس مافيا إجرامية أو من كان يعيش على تبييض الأموال أيا كان مصدرها، طالما أن أولئك الفاسدين المجرمين يدفعون عشرة فى المائة من ذلك المال المنهوب كثمن للحصول على تلك الخدمات والنصائح غير القانونية.
ثم بعد أن ترسخت تلك التجارة فى لندن، أصبحت مصدر عمالة للألوف من البريطانيين ومصدر ثروة هائلة للبلاد، وأعطت الحق والحرية للجزر والمناطق التابعة للتاج البريطانى، من مثل جزر فيرجن البريطانية أو جزيرة كايمان أو جبل طارق، لممارسة تلك التجارة تحت مسميات كثيرة وبطرق ملتوية كثيرة، لتصبح تلك الأماكن جنات لكل مال فاسد أو منهوب أو متستر، حيث لا ضرائب وحيث الكتمان والأقنعة الحامية عن أى رؤية أو معرفة من أية جهة متطفلة.
تلك الخدمات قدمت للفاسدين والسارقين والمجرمين من روسيا والصين وأفريقيا والبلاد العربية والهند وغيرها من بقاع العالم. الخدمة كانت متوافرة لكل من يدفع، دون سؤال أو تأكد أو شكوك. ويذكر المؤلف أمثلة وقصصا يندى لها الجبين.
النقطة الأساسية فى هذا الموضوع هى أننا كنا نعتقد أن الديمقراطية، خصوصا إذا كانت قديمة وراسخة وكانت مثالا للبشرية كالديمقراطية البريطانية، ستمنع وجود مثل تلك التجارة والممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية، أو على الأقل ستجعل وجودها محدودا أو كشفها سهلا، أو لن تشمل رجال قضاء وقانون وتشريع. أما تكون بالصورة التى أظهرها الكاتب، وأن تتواجد عبر سبعين سنة دون أن يوقفها قانون أو صحوة ضمير أو انزعاج ورفض من قبل مؤسسات المجتمع المدنى، فذلك يمثل إشارة واضحة لعجز فى النظام الديمقراطى الذى كنا نعتقد أنه أحد أهم أعمدة حماية المجتمعات والصالح العام والقيم الأخلاقية.
ولكن هل تلك الصدمة لا تشير إلى سذاجتنا نحن؟ فضائح الأخطاء والممارسات التى ترتكبها الدول الأوروبية الديمقراطية وأمريكا الديمقراطية فى موضوع أوكرانيا وحربها العبثية، ألا تزكم الأنوف؟ ألا تشير إلى عجز غريب فى ديمقراطيتهم؟ وفى أمريكا، عندما يكتب جورج مونبيوت فى كتابه «للخروج من الدمار»، وهو يقصد دمار الحياة السياسية والاقتصادية فى بلاده، عندما يكتب بأن نظامهم الديمقراطى ملىء بسوء الاستعمال والفساد وأنه يقوى الأقوياء والمسيطرين ويضعف الضعفاء والمهمشين بدلا من أن يفعل العكس، ألا يؤكد أنه ما عادت هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية أخلاقية عادلة فى أعرق الديمقراطيات الغربية؟
ما يهمنا، نحن العرب، أن يدرك المعتقدون بأن الديمقراطية وحدها هى المدخل لحل كل مشاكلنا بأن الحل الديمقراطى ليس بالحل السحرى إلا إذا حددنا بصورة واضحة مكونات الديمقراطية والأسس التى تقوم عليها عبر القيم الإنسانية والأخلاقية التى تحكمها، والممارسة التى تتجنب وترفض وتحارب انتهاءها لتكون أداة فى يد أقلية كانت، وإنما بقاؤها أداة فاعلة وعادلة فى يد أغلبية المواطنات والمواطنين الواعين المتابعين لسيرورتها طيلة النهار والليل لخدمتهم وكرامتهم الإنسانية.
بدون ذلك سنعيش أوهاما بليدة، تماما كما تعيشها الكثير من أنظمة الديمقراطية فى العالم، وكما أرانا هذا المؤلف الشجاع فى كتابه المبهر.