مفاوضات "الجنرال صقيع"
سناء الجاك
مفاوضات "الجنرال صقيع"
لطالما شكل الصقيع الأوروبي عاملا حاسما في الحروب. كسر أكبر الجيوش وأقواها. أسقط نابليون ومن بعده هتلر وخرَّب لهما مشاريعهما التوسعية وأحلامهما بالسيطرة على العالم، وغيَّر المعادلات، بل قلبها رأسا على عقب، ونَصَرَ روسيا العظمى على أعدائها.
واليوم يعود هذا "الجنرال صقيع" إلى دوره المرتجى، وأيضا من البوابة الروسية مع إعلان شركة "غازبروم" الروسية العملاقة عن توقيف خط أنابيب الغاز "نورد ستريم" الذي يربط روسيا بشمال ألمانيا، حتى يتم إنجاز إصلاحات يحتاجها، من دون تحديد موعد نهائي.
وفي حين يشكل هذا الإعلان ورقة ضغط للروس تتجاوز إطار الحرب الدائرة في أوكرانيا إلى تغيير معادلات القوة والنفوذ في العالم من خلال تهديد دول أوروبا الغربية بشتاء فتاك، وفي حين تنشغل الولايات المتحدة بتأمين البديل قبل سقوط الثلج وتدني درجات الحرارة، لا يبدو مستغربا أن تتلقف إيران هذه الفرصة الذهبية، لتبتز الأميركيين بها، وكذلك دول أوروبا الغربية، في مفاوضاتها معهم بشأن ملفها النووي.
فالطاقة المفقودة التي تحولت سلاحا روسيا يهدد المستهلكين الأوروبيين في شتائهم المرتقب هي الكنز الذي عثر عليه الإيرانيون في عز حشرتهم مع البيت الأبيض.
ولعل اللعب بورقة الغاز يعطي نتائج إيجابية أكثر فعالية مما يعطيه خط النار المنبثق من طهران، يحركه الولي الفقيه، ليَعْبُر أينما يشاء ويتفرع كيفما يشاء، وصولا إلى شواطئ المتوسط.
صحيح أن خط النار هذا هو عنصر قوة لا يستهان بها وضرورة لا يمكن الاستغناء عنها لبسط نفوذ ولاية الفقيه عبر الأذرع التي تتولى تنفيذ أجندة المحور، وصحيح أن أهم الخطوط الحمر بالنسبة إلى إيران ترتبط ارتباطا مباشرا برفضها كل مطالبة تؤدي إلى تقليم أظافرها في المنطقة.
وصحيح أن علامات الوهن أصابت النفوذ الإيراني وكسرت قدسية الصورة، وتحديدا في قراءة التطورات العراقية الأخيرة، ومفاعيلها المرتقبة، لجهة الصراع على المرجعية الشيعية بين النجف وقم.
وصحيح أن قدرة "حزب الله" على فرض رئيس للجمهورية في لبنان يكون أداة بيده، دونها عوائق كثيرة، منها ما يهوِّل بحرب مع إسرائيل، ومنها ما يلوِّح بفتنة طائفية في الداخل.
وصحيح أن الضربات الإسرائيلية المتواصلة لإيران وأذرعها في سوريا تشكل علامات استفهام عن كل القوة والصواريخ والمسيرات التي لا يتوقف استعراضها والاستقواء بها على الشعوب المنكوبة في دول النفوذ الإيراني
لكن الصحيح أيضا أن إيران التي تخسر بالنقاط في المنطقة منذ فترة، لا تزال تملك أوراق قوة لا يستهان بها. والأهم أنها تملك موهبة الانكفاء والانتظار وضبط إيقاع اللعب في الأوقات الضائعة.
والصحيح أيضا، أن الدول العظمى والكبرى بقيت ولعقود تتفرج على العبث الإيراني بالدول العربية، ولا تتدخل بشكل فعال يلجم هذا العبث، وتغض الطرف عن وصول الاستراتيجية الإيرانية إلى تخريب كامل للبنان وسوريا والعراق وإيران وتهديد دائم لدول الخليج العربي، وتتواطأ أحيانا وفقا لمصالحها لبيع المزيد من الأسلحة للعرب أو لحماية إسرائيل، وتكتفي بالمواقف الكلامية، ولا تتورع عن إسقاط المصلحة العربية المشتركة بالضربة القاضية من خلال الاتفاق النووي الذي عقده الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع إيران بمباركة الدول الأوروبية، التي كانت ولا تزال تلهث من أجل بعض المكاسب الاقتصادية على حساب كل القيم التي انتجها تاريخها لوضع أسس الديمقراطية واحترام الشعوب.
وبالتأكيد، تعرف جمهورية "الولي الفقيه" ذلك، لذا تحاول الاستثمار من زاوية جديدة فرضتها الظروف القاهرة للشتاء الأوروبي، مع اقتراب حلول "الجنرال صقيع"، لتضغط أكثر في سبيل الحصول على شروط أفضل لمفاوضاتها بشأن ملفها النووي، ورفع العقوبات عنها والاستفادة من بيع الغاز والنفط في دول لا يزال محظورا عليها التعامل معها.
ولعل الموقف الجديد لممثل المرشد الإيراني، ورئيس تحرير صحيفة كيهان، حسين شريعتمداري الرافض تقديم تنازلات في المفاوضات، معتبرا أنها " لن تؤدي إلى نقطة تضمن مصالح البلاد"، يعكس "التمهل الطارئ" بعد استعجالٍ لاستئناف المفاوضات، ووصفه محاولة رفع العقوبات عبر المفاوضات "كالقابض على الماء"، وتلويحه بأن السبيل الوحيد أمام إيران هو "الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي"، يشير بشكل أو بآخر، إلى أن الرهان على "الجنرال صقيع" ربما يكون أجدى من الرهان على أي معطيات أخرى لا تملك القدرة الذي يملكه هذا الجنرال لإيلام الغرب "المستكبر".