هل يتجه العالم لتصفية آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية
د.ضرغام الدباغ
هل يتجه العالم لتصفية آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية
مثل التوسع هدف الحروب الاستعمارية في ظاهرها وجوهرها، التوسع والضم والإلحاق، ونهب ثروات البلدان المستعمرة، وفي حالات كثيرة كان سكان وشعوب البلدان التي تتعرض للغزو الاستعماري يستخدمون جنوداً بالسخرة ووقوداً لحروب وفتوحات استعمارية، وضحايا مجانية للحروب الاستعمارية.
وكما في معطيات الطبيعة، هناك ما يطلق عليه في علم الجيولوجيا، الهزات الارتدادية (Aftershock) فكثيرا ما تقود الحروب الاستعمارية إلى حروب أخرى، ذلك أن المنتصرون في الحرب غالباً ما لا يحكمون العقل بقطف ثمار انتصارهم، فيبالغون في الاستيلاء على ممتلكات المنهزم، من منقولات: ممتلكات مصانع، وأموال وذهب، يتحولون بعدها إلى تقاسم ما يمتلك من مصادر ثروات غير قابلة للنقل، أراض ومصادر ثروات طبيعية ومناطق استراتيجية، موانئ، منافذ بحرية، إطلالات استراتيجية ...الخ
وإذا كانت الثروات والغرامات قضية يمكن أن تتجاوزها الدول بمرور الزمن، ولكن المناطق المستولى عليها (عبر اتفاقيات الإذعان) ستمثل عقدة يصعب حلها في العلاقات بين الدول، ولا سيما بعد زوال الظروف السياسية التي أدت إلى الصراع المسلح، وقيام معطيات جديدة وآفاق جديدة تستلزم العمل والتعاون السياسي/ الاقتصادي، وبالتالي العمل كفريق حيال مهمات ومستحقات حديثة، ستحول تلك العقد دون المضي في قدما في مجالات التعاون، وستمثل عائقاً، وقد تقود إلى بؤر خلاف تحتمل الالتهاب والتطور إلى أزمة، والأزمة قابلة للتصعيد إلى حالات ومواقف قد لا تنجح الدبلوماسية في نزع فتائلها.
في أروقة الأمم المتحدة (ولابد من قول أنها لم تنجح تماماً في حل المشكلات وبؤر التوتر)هناك دوائر مختصة بدراسة الملفات العالقة، والتي تمثل قنابل موقوتة قابلة للألتهاب والانفجار في أي وقت، ومن يقرأ هذه الملفات يلاحظ أولاً كثرة عددها، وثانيا أنها تعود للعصور الاستعمارية والحربين العالميتين الأولى والثانية، فالمستعمرون حين اضطروا إلى مغادرة البلاد، خلفوا ورائهم مشكلات تستعصي الحلول، فيندر وجود إقليم في أوربا وآسيا (شبه القارة الهندية) وأفريقيا وأمريكا اللاتينية(جزر المالوين / فوكلاند)، تخلو من هذه المشاكل. ورغم مرور عقود على بعض تلك المشاكل إلا أن الملفات الشائكة ما تزال على الطاولة يمكن طرحها في أي وقت، وتلقي بظلالها القاتمة على العلاقات بين الدول.
وكان الروس قد اضطروا في الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى، إلى عقد معاهد صلح إذعان (معاهدة صلح بريست) مع ألمانيا، تنازلوا فيها عن أراضي واسعة ومدن، وثروات طبيعية، ولكنهم في سياق تطور الحرب العالمية الثانية، تمكنوا من استعادتها، وهناك مقاطعات أخرى تنازل عنها الروس طوعا، (فنلندة، بولونيا)، أو بسبب قيام الكيان السوفيتي التي استلزم بعض التعديلات الهامة، فتنازل الاتحاد السوفيتي (طوعاً) عن أقليم القرم (شبه جزيرة القرم) لصالح اوكرانيا وخلق كيان لم يكن موجوداً، وافق الروس على إنشاؤه (أوكرانيا). ولكنها اليوم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تطرح جمهورية روسيا الاتحادية في خضم توتر دولي، مسألة إعادة النظر في تلك التعديلات.
في أوربا مسألة أخرى تطرح نفسها بوصفها ملفا ساخناً، هي جزر بحر إيجة المتنازع عليها بين تركيا واليونان، فهذه أخذتها من تركيا (بعد الحرب العالمية الأولى)رغم أن معظمها لا يبتعد علن الساحل التركي سوى مئات الأمتار أحياناً، وهو ما يخالف القانون الدولي، ومنح بعضها الآخر لإيطاليا، وبعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت إيطاليا من الدول المنهزمة، أخذت منها الجزر وسلمت لليونان، ولكن القرار الدولي نص أن تكون الجزر وكثير منها غير مأهولة، أن تكون غير مسلحة، ولكن اليونان أخذت تدريجيا مستفيدة من أجواء التوتر الدولي، تسلحها وتعتبرها من ضمن ملكيتها، وتضمها للمناطق الاقتصادية لها، بما قد تتوفر بها والمياه المحيطة بها من ثروات طبيعية، وهنا تتفاقم مشكلة من غير المستبعد أن تقود لنزاعات دولية.
وتعسف المنتصرون في ختام الحروب، قد يتجاوز في مداه ما هو محتمل ومقبول، لذلك يشتهر المثل " الحروب تلد حروب أخرى ". والمقصود بنتائجها وآثار ها الجائرة، وهذه تجلت بشكل متعسف في معادة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا والشرق الأوسط، ومن تلك إضعاف ألمانيا بدرجة متطرفة وسلبها أراض وطنية عريقة تاريخياً مثل بروسيا الشرقية، فدولة بولونيا لم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن بأراض اقتطعت من روسيا وألمانيا تأسست دولة بولونيا كما أن دولة جيكوسلوفاكيا لم تكن موجودة، وكذلك دولة المجر ويوغسلافيا.
وإذا كانت الحروب فرصة للتوسع، وتحقق الدول المنتصرة من خلالها إرادتها ليس في التوسع فحسب، بل وإضعاف الدول المنهزمة إلى أقصى درجة ممكنة بحيث لا تشكل خطرا في المستقبل القريب والبعيد. ولكن لا شيئ كالسياسة موضوعة قابلة للتغيير والتطور، فالضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد، وكذلك الصغير، فهذه معطيات قابلة للتغيير، وتطرح نفسها كمستحقات بعد تغير ملموس على مسرح العلاقات الدولية.
والحقيقة أن كل من هذه الملفات تحتاج لبحوث معمقة ولكن ما نريد قوله، أن النظام العالمي بدأ يتفتت، والدول التي سلبت منها أراض بنتيجة الحروب العالمية(الأولى والثانية) تلمح اليوم مطالبة بتسويات جديدة، وأن المنتصرون تعسفوا كثيراُ وألحقوا أضرارا جسيمة آن اليوم وقت تصحيحها. فالأراضي الألمانية التي انتزعت من ألمانيا وضمت لبولونيا خاصة، اليوم تلمح الحكومة البولونية أن ألمانيا ترمقها بعين المطالب بعودتها للوطن الألماني. وكذلك تركيا تطالب بجزرها في بحر إيجة القريبة من سواحلها، وهي مطالب تبدو عادلة وتستحق إعادة التسوية.
وكما في أوربا، فهناك ملفات وبؤر قابلة للأشتعال في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، من مخلفات الحربين العالميتين، والعهود الاستعمارية، تم تصفية بعضها، ولكن ما تزال أخرى مطروحة تنذر بهبوب العواصف .
هذه ملفات نعد قراءنا بأن نبحث كل منها على حدة. في اليوم من الملفات التي وضعت تحت المجهر ...!