نهر دجلة بين الماضي والحاضر
بقلم الاستاذ الدكتورصلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
بغداد 2022
[size=32]نهر دجلة بين الماضي والحاضر[/size]
أحد الجنائب (دوبة) غارقة في نهر دجلة بالقرب من جسر الشهداء (عدسة المؤلف)
عندما خلق الله الجنة اوجد معها نهري دجلة والفرات فهما من أنهار الفردوس الأربعة: (وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة)، ومنه يتفرع إلى أربعة فروع منهم نهر الفرات وتوأمه نهر دجلة الذي يجري فيهما مياه الحياة، وجعل الله المياه تخرج من الجنة فكانت مصدر النهرين العظيمين دجلة والفرات، وعلى ضفافهما ازدهرت أقدم الحضارات في بلاد الرافدين، وذكرت التوراة اسماء الانهار في بستان الرب فنهر (حداقل) الذي أخذ تقليديا على أنه نهر دجلة، اما نهر الفرت فهو الفرات، وكلاهما النهرين في العراق ولذلك (فجنة الله) هي بلاد الرافدين.
نرى في الدراسات الحديثة وجود اختلاف بين الباحثين حول الأصل السومري لأسم دجلة والفرات حيث ورد ذكرهما في الألواح الطينية السومرية منذ الألف الثالث ق.م، فاسم نهر دجلة جاء بصيغة لغوية اديكنا (Idigna) أو اديكينا (Idigina) ويعني بالسومرية (الماء الجاري) ويمكن القول بأنه يعني ايضا (النهر السريع)، ويعتقد الباحث (Landsberger) أن تسمية نهر دجلة يعود إلى لغة شعب آخر سبق الشعب السومري العيش في منطقة وسط وجنوب بلاد الرافدين أطلق عليهم (اوائل السومريون) أو (الفراتيون) وان أغلب اسماء مدن بلاد سومر (أور، وأوروك، ولارسا، وادابا، ونفر (بالأكدية نِبُر)، وسـﭘار...الخ) ليست سومرية انما هي اسماء اطلقها الفراتيين سابقا، اما البابليون فقد كتبوا اسم نهر دجلة بالصيغة ايديجلات (idiglat) أو ادقلات أو ادكلات بمعنى (النمر) أو (الجاري)، كتوصيف لطغيان فيضانه المفاجئ، وفي اللغة العيلامية (مملكة عيلام في جبال زاكروس ومتاثرة حضاريا ببلاد الرافدين) أطلق على النهر تيكرا (Tigra)، وباللغة الفارسية القديمة تركه (Tirgah ) ويعني (السهم) أو (الجاري) أو (السريع)، وباللغة الانجليزية تايكر (Tigris) بمعنى (النمر) لسرعة جريان النهر.
كان لنهر دجلة قدسية لدى سكان العراق القديم، فقد ذكر في نصوصهم المسمارية وتشير أحد النصوص القديمة بان الإله (أنكي) حفر مجرى نهري دجلة والفرات ليجعل أرض الرافدين أحد جنان السماء على الأرض، ولهذا اعطى النهر خيراته لجميع من سكن على ضفاف النهر وروافده سواء في مزاولة النشاط الزراعي أو الحرفي، كما قدم الأسماك كغذاء للسكان، ومن هنا كتب اسم مدينة نينوى (الموصل) نسبة إلى الإلهة (نينا) (إلهة السمكة) مع إضافة علامة البيت فتقرأ نينوى، كما ان لفظة (نون) بالآشورية تعني (سمك) واشتق منها اسم (يونان في التوراة - والنبي يونس في القرآن - واسم ذو النون)، كما ويعتقد أيضا بأن الاسم متصل باسم مؤسس نينوى وهو القائد نينوس حسب الروايات الإغريقية، كما استفاد العراقيون القدماء من النهر في النقل، فصنع الكلك (كلكو Kalakku) كواسطة نهرية تنطلق من نينوى وإلى البصرة وتنقل الركاب والبضائع، كذلك السفن (سفيناتو Sapinatu)، والقفة (قفو quppu)، وفي عهد سنحاريب جلب صناع مهرة من الساحل الفينيقي بسوريا لإنشاء اسطول آشوري على طراز السفن الفينيقية اعد لغرض حملة عسكرية نهرية إلى اقصى جنوب العراق وحتى ساحل الخليج العربي، وتم تحميل السفن بالجنود الاشوريين ومعداتهم وسارت مع تيار دجلة السريع وعند موقع (بكدادا) (بغداد) نقلت السفن عبر طريق بري لتواصل رحلتها مع تيار نهر الفرات، وبالمناسبة لم يركب الملك سنحاريب تلك السفن فقد فضل ان يمتطي صهوة حصانه والسير بمحاذاة نهر دجلة ربما لخوفه من الموت غرقا.
على اية حال نهر دجلة عزيز على قلب كل عراقي تماما مثل اخيه الفرات، ولكن ما يحزن العراقيين رمي الاقذار ومياه الصرف الصحي في مجرى النهر، وازدادت هذه الظاهرة بشكل ملحوض جدا في السنوات الاخيرة، كما ان الاغنياء وكبار السياسين شيدوا قصورهم ومنازلهم على ضفاف النهر فحجبوا عن الناس منظر النهر فاصبح حكرا لهم، ناهيك عن المشهد المحزن غرق أحد (الجنائب) (يطلق عليها أهل بغداد (دوبة) بالقرب من جسر الشهداء منذ زمن ليس بالقصير، وكانت الجنائب تنقل البضائع على طول الرحلة من البصرة الى بغداد، ولا اعرف ما هو دور امانة العاصمة في بغداد والتي خصص لها سنويا اموال طائلة يجعل بمقدورها ان تنظف النهر وتجعل ضفافة منتزه ومكان للترفيه للجميع اسوة بنهر السين في باريس مثلا ، واخيرا دجلة عمره ملايين السنين لا نريد ان يفتقدة الناس في بضعة سنوات .