رسالةٌ عراقية، من الرسائلِ البابِلِيَّة، في مُناجَزَةِ البيروقراطيَّة – ٨ –
د.عبد يونس لافي
[size=32]رسالةٌ عراقية، من الرسائلِ البابِلِيَّة،في مُناجَزَةِ البيروقراطيَّة – ٨ –[/size]
[size=32]
[/size]
دعْنا في هذه الحلقةِ وحلقاتٍ أُخَر،
نقرأ فيما دوَّن البابليّونَ،
على بعضٍ من رُقُمِهم الطينيَّة،
كما دوَّن الأكديّون والآشوريّون.
نعم البابليّون، وإنْ شئت فقلِ العراقيّون.
أمّا إن سألت عن عمرِ هذه الالواحِ بالأرقام،
فستقولُ لك أنَّ عمرَها اربعةُ آلافٍ من الأعوام.
ها نحن عند بدايةِ الدولةِ البابليَّةِ القديمة،
وإذ نقولُ قديمة،
فنعني أنَّ هناك بابليَّةً وسطى، واخرى حديثة.
وحين نتكلم عن القديمة،
فلا بد من ذكرِ مؤسِّسها الملكِ الأموري
(سومو– ابوم) (Sumu-Abum)
او (سو– ابو) (Su-abu)
هكذا نقل الناقلون، وحدَّثنا به المؤرِّخون،
ليؤولَ الحكمُ بعد ما يقارب القرنَ،
من حكمِ خمسةِ ملوك أموريّين
الى سادسِهم حَموراي (Hammurabi)
ومن لا يعرفُ حمورابي؟!
فاذا ما ذُكِرَ هذا الرجل،
ذُكرتْ بابل، واذا ما ذُكرتْ بابل،
فلا سبيل لنِسيان حمورابي،
إسْمان متلازمان،
اذا ذُكِرَ أحدُهما، تذكَّرْتَ الآخر،
كما يقول الشيخُ ديكارت
في مذهبه "تداعي المعاني"
او كما قالت العربُ قبله:
"والشيئُ بالشيئِ يُذكرُ"!
كذا الحال اذا ما ذُكِرتْ مبادئُ حقوقِ الإنسان،
فإنَّما تُذكرُ شريعةُ هذا الملك.
حيث أرست حينها أوَّلَ مبادئِ تلكُمُ الحقوق
في الحريةِ والعدلِ والإنصاف.
نعم حقوق الإنسان الأساسية،
خاليةً مما يُصدِّعُ رؤوسَنا من تزييفٍ
نسمعُهُ ليلَ نهار،
من تجار النهبِ والدَّمار.
حكم الرَّجلُ قرابةَ اربعةِ عقودٍ
من البناء الحقيقيِّ ليشملَ الإنسانَ،
وما يخدم الإنسانَ من عُمران.
بعد هذا التمهيدِ،
عسانا نقرأ الرسالة الأولى من احدِهم،
وهو يُناجِزُ بيروقراطيَّةَ صاحبِهِ الحاكمِ،
في بدايات الدولةِ القديمة.
أخبِرْ حاكمَ المنطقةِ الداخلية:
أدامَ كبيرُ الآلِهةِ مردوخ (Marduk) عليه الصحة،
بأن دِنگِر - شاگا (Dingir- šaga)
يرسل الرسالة التالية:
(عسى آلهةُ الشمسِ شماش (Šamaš )
وكبيرُ الآلِهةِ مردوخ (Marduk)
يُديمانِ عليك الصحةَ الى الأبد.
كم كنتُ مرتاحًا عندما بوَّأكَ الإله مردوخ
منصبًا إداريًّا عاليًا.
قلت في نفسي: ان الذي مُنِح هذا المنصب،
يعرفني شخصيًّا، وسوف يُلبّي الذي أريد.
بلغ الأمر أنَّ الموظفينَ المحيطينَ بي،
ممَّنْ لا يعرفوني شخصيًّا،
صاروا يعرفوني، ويلبّون أيَّ شيئٍ اطلب منهم،
حالَما أرسلُ إليهِمُ الطَّلب.
وطلبي هنا بخصوص مغنّي المعبدِ
نابيوم - مالك (Nabium-mālik)
الذي ينحدر من مدينة خبوز (Ḫabuz)
فإنَّه أفادني بما نصُّه:
"ليس هناك من شخص استدعاني أبدًا،
لكي اعملَ حاجِبًا،
ولكنَّ حاكمَ المنطقةِ الداخلية،
أرسل إليَّ طلبًا بهذا الشأن فرفضْتُ،
وحين رفضتُ،
أخذوا خادمي كرهينة".
إنَّ الرجلَ نابيوم – مالك هذا،
ليس غريبًا بل يُعتبرُ واحدًا من افرادِ اسرتي.
هو عادةً ينجزُ ستَّ وظائفَ اخرى،
إضافةً الى نشاطِه في المعبد كمغني،
ويدفع أيضًا تكاليفَ رئيسِ الكَهَنة!
انا أناشدُك بهذا الخطاب،
واقولُ اذا كنتَ تُعِزُّني وترعاني،
فإنه لاينبغي لأحدٍ اسْتِدعاءَ أحدِ أفرادِ أسرتِه.)
انتهت الرسالة!
يبدو من الرسالة أنَّ دِنگِر - شاگا،
كان صاحبًا لحاكم المنطقة الداخلية،
قبل استلامه لهذا المنصب،
وحاول بأدبٍ اسْتعطافَه مستغِلًّا صداقتَه هذه،
ليُلْغيَ الأوامرَ الصادرة من هذا الحاكم،
بحق نابيوم – مالك مغني المعبد،
بعد ان اخبرَه الأخيرُ برسالةِ الاسْتدعاء،
وممارسة الحاكم بيروقراطية الإدارة،
في فرض الأوامر من أعلى،
وترويجِها الى الأدنى للتنفيذ،
وما ادَّت اليه من نتائج يراها دنگِر – شاگا،
تعسُّفيَّةً بحق المغني مالك.
نقلتنا الرسالةُ الى حالةٍ انسانيةٍ ومجتمعيَّةٍ وسياسيَّةٍ معاشةٍ،
تتكرر في معظم دول اليوم،
كما حدثت في الدولة البابلية الأولى،
قبل اكثر من أربعة آلاف سنة، وما أراها ستتوقَّف،
فهل أنت معي قارئي الكريم؟! سلام.