حكومة السوداني ام ثورة تشرين؟
عوني القلمجي
حكومة السوداني ام ثورة تشرين؟
يشعر المرء بالغثيان جراء ما يدور من جدال واسع في الأوساط السياسية، حول إمكانية نجاح حكومة محمد شياع السوداني. وقدرتها على تحقيق برنامج الإصلاح وانقاذ العراق من محنته. في حين لا يحتاج المرء الى أي جهد للوقوف على حقيقة هذه الحكومة. فرئيسها السوداني تلميذ نجيب في عملية المحتل السياسية. وهو مرشح اسوا طرف فيها، الموصوف بالإطار التنسيقي، الذي يقوده كبار الحرامية والفاسدين، أمثال نوري المالكي وهادي العامري وعمار الحكيم.
وتشكيل هذه الحكومة قام على ذات المحاصصة الطائفية والعرقية، ومنح المليشيات المسلحة حصة كبيرة فيها، والبيع والشراء للوزرات التي تبيض ذهبا، وكذلك الدرجات الخاصة. اما ولادتها فلا علاقة لها بنتائج الانتخابات، بصرف النظر عن كونها مزورة او عزوف غالبية الشعب العراقي عن المشاركة فيها، وانما ولدت، كما جرت العادة مع جميع الحكومات السابقة، بأمر من المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني. وهذا يعني، بان حكومة السوداني لن تكون سوى امتداد للحكومات السابقة. ودعكم من كل محاولة لتزيين وجهها القبيح، وتشبيه رئيسها بالمنقذ الذي سيملأ ارض العراق عدلا وقسطا بعد ان ملئت جورا وظلما. فهذه ليست سوى واحدة من لوازم الخداع والتضليل، او عدة الشغل كما يقال باللهجة العراقية التي درج الاسلاف على اتباعها.
ليست حكومة السوداني وحدها التي تختفي وراء اقنعة التضليل، او تختلف في المصير الذي ستنتهي اليه. فقد شمل الفشل والنهايات البائسة جميع الحكومات المتعاقبة في عهد الاحتلال. فعلى سبيل المثال نذكر القريب منها وهما حكومة عادل عبد المهدي وخلفه مصطفى الكاظمي. فالأول نال من عظيم الاوصاف وبديع المدائح ما نال، من قبيل الدكتور والخبير الاقتصادي والمستقل والمستقيل من الفساد، فشل فشلا ذريعا. فبدلا من تحقيق وعوده في القضاء على أربعين ملف فساد، أعلنها بنفسه امام عدسات الاعلام ومن داخل مجلس البرلمان، والتي شملت كل ركن وزاوية في مؤسسات الدولة ومرافقها المختلفة، خرج من الحكومة وقد زاد عدد هذه الملفات سبعة عشر ملفا. اما مصطفى الكاظمي فهو الاخر انتهى الى ذات المصير الأسود. خاصة فيما يخص نزع سلاح المليشيات المنفلتة. فبدلا من نزع سلاح هذه المليشيات، نزع الرجل ملابسه في أحد مقراتها، وامام العدسات وارتدى لباسها وابدى أعجابه الشديد بها، وتغنى ببطولاتها وكال المديح لانتصاراتها!!!
ان تفسير هذه الظاهرة لا يحتاج أيضا الى أي جهد يستحق الذكر. فالمحتل بعد ان هدم النظام السابق وصفر مؤسساته وهدم جميع بناه التحتية، او ما تبقى منها، بنى دولة فاشلة في العراق الى درجة يصعب اصلاحها. وإذا نظرنا الى مواصفات الدولة الفاشلة سنجدها واضحة وجلية في العراق المحتل. فالدولة تكون فاشلة، وفق المعايير العالمية، إذا عجزت عن بسط الأمن في ربوع أراضيها، واخلت بمبدأ تكافؤ الفرص بين مواطنيها، وفضلت فئة على غيرها من المواطنين، والغت مبدأ المساواة بين الناس، وكثرت الشروخ والصدوع في نظامها القيمي والأخلاقي، وتعطلت فيها المسارات القانونية، وفسدت النخب الحاكمة، وتهدمت البنى التحتية وفقدت الخدمات، ويصعب، إن لم يكن مستحيلا، التخطيط لحياة المواطن تخطيطا بعيد المدى أو حتى متوسط المدى، بل وقصير المدى. وفي الدولة الفاشلة يشيع الكذب والنفاق شيوعا لا حد له ولا ضابط، وتصبح أجهزة الحماية من أعداء الداخل وأعداء الخارج كسيحة، وفي الدولة الفاشلة يتم اغتيال الأفكار النافعة في مهدها، وتنظم عمليات ممنهجة لتغييب العقول لصالح شرذمة قليلة، وفي الدولة الفاشلة تختلط الأشياء اختلاطا عظيما، وتكون الغلبة والظهور لتوافه الأشياء والبشر، وفي الدولة الفاشلة عادة ما يصير الصواب خطأ إلا في القليل، والسير في الطريق المستقيم شبهة، وتفرض قرارات صارمة تجاه من يعارضها، وتلجأ لمصادرة الحريات بالسجن والترهيب والتعذيب والقتل لكل من يفضح سلوكها، ويشكل تهديدا لها. وفي الدولة الفاشلة تكون المؤسسات محطمة، لأن المسؤولين عن ادارتها يستولون على خزينتها، وبشكل قانوني، تجنبا للمساءلة وحفاظا على ما تبقى من سمعة وشرف افتراضيين، يتطلبهما ادعاء الدين والتدين لتمرير بضاعتهم الفاسدة. فهؤلاء على سبيل المثال يطرحون مشاريع كاذبة ويرصدون اموالا فلكية لشراء الات حديثة لا تصل لمعامل لا وجود لها الا على الورق. ناهيك عن دعم هذه الدولة الفاشلة بعملية سياسية طائفية ومليشيات مسلحة وطابور خامس من احزاب محلية كبيرة، واسنادها الى مبادئ طائفية وعرقية وفساد مالي واداري وحمايتها بدستور ملغوم لا يمكن تعديل مادة واحده منه، بل حرف واحد على حد تعبير نوري المالكي في احدى مؤتمراته الصحفية. وهذا ما يفسر انتقاء المحتل لهؤلاء الأشرار الذين أبدوا استعدادهم لتنفيذ مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا.
لكن هذا ليس كل شيء، فهذه الدولة الفاشلة، التي حرص المحتل على اقامتها في العراق، لم تأت برغبة من هذا الرئيس الامريكي او ذاك؟ وانما قامت استنادا الى نظرية الفوضى الخلاقة، التي صاغتها النخب الاكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة، وكبار العقول الاستراتيجية لتكون خلاقة بالنسبة لمصالح امريكا، ومدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب. ولكيلا نطيل أكثر، فمن بين مفردات هذه الفوضى الخلاقة، تشجيع النزاعات الداخلية ودفع مكونات المجتمع للاقتتال فيما بينها، كأقوام وطوائف وكتابة دساتير ملغومة وسن قوانين ملتوية واقامة قواعد عسكرية وخلق الحروب وتقسيم الدول. وكل هذا حصل في العراق بعد الاحتلال، اليس كذلك؟
اما الارهاب والطائفية، فهما لحمة الدولة الفاشلة ونظرية الفوضى الخلاقة وسداها. فأينما حل الإرهاب تستيقظ النزعات الطائفية، أو تزداد حدة واشتعالًا. لان تنظيمات الإرهاب لا تعرف معنى الحوار مع الاخر، ولا تؤمن به اصلا، لأنها تريد فرض منهجها ورؤيتها بالقوة والترهيب، رافضة كل فكر يخالف فكرها، أو رأي لا يتماشى مع هواها. بل ان الارهابيين استخدموا الطائفية كسلاح ضمن ترسانة أسلحتهم لضرب الاستقرار، وتقويض السلم الاجتماعي وتوسيع مشاعر الانقسام. وهذا ما يفسر وجود المحتل وراء ظهور القاعدة وبعدها الدولة الاسلامية ثم داعش المجرمة. فقد تمكنت هذه التنظيمات من تقديم خدمة جليلة لنظرية الفوضى الخلاقة، حيث اججت النعرات والمخاوف الطائفية، واستهداف الاقليات مثل المسيحيين واليزيدين والآشوريين بطريقة ممنهجة.
إذا لم يتوفر الانتباه بالقدر الكافي الى كل هذا، والذي كان من أبرز نتائجه ما وصل اليه العراق من دمار وخراب، فان المجتمع سيكون عاجزا عن الوقوف امام هؤلاء الاشرار والتخلص منهم. ومن اسيادهم المحتلين وبالتالي لابد من العمل الجاد لإنقاذ العراق ليس عبر المراهنات على حكومة السوداني، او اصلاح العملية السياسية من داخلها، وانما عبر الايمان بثورة تشرين العظيمة وتشجيع العراقيين للانضمام الى صفوفها. وتقديم كل الدعم والاسناد لها. وهذا يتطلب فيما يتطلب، اهمال ما يشيعه الأشرار بان ثورة تشرين قد انتهت وأصبحت من الماضي. وأيضا عدم الالتفات الى التجمعات والشخصيات السياسية المهزوزة، الذين بدأوا في البحث عن بدائل اخرى مشينة ومهينة. فمنهم من يروج لحكومة السوداني ومنهم من توجه بأنظاره خارج الحدود، وعلى وجه التحديد الى أمريكا، لتخلصهم من المحنة. ولا الى الذين ذهبوا ابعد من ذلك، حيث ارتفعت اصواتهم بوقاحة تطالب بإقامة اقليم سني في المنطقة الغربية وإقليم شيعي في جنوب العراق واظهار محاسن الاقليم وفوائده، متناسين ان ما يقومون به، دعوة صريحة لتقسيم العراق الى دويلات هزيلة.
ان ثورة تشرين مازالت حية، وان ابناءها مصرون أكثر من أي وقت اخر على التحضير لانطلاق ثورتهم بقوة أكبر وزخم أكثر. وما حدث من تراجع لا يعيب هذه الثورة العظيمة. فلقد سبق للانتفاضات التي قامت قبلها، منذ انطلاقتها في بداية عام 2011، ان تراجعت وانكفات وخف صوتها وقل نشاطها، واضيفوا ما شئتم من اوصاف اخرى، لكنها سرعان ما تمكنت من نفض الغبار عنها والعودة بقوة وفاعلية وبتأثير أكبر. وخير دليل على ذلك، الانتفاضة العملاقة التي قامت بعد سلسلة من التراجعات وخيبات الامل في مدينة البصرة، وامتدت الى المحافظات المجاورة. حيث ارتقت ولأول مرة متخطية الشعارات المطلبية، مثل توفير الخدمات كالماء والكهرباء، الى شعارات سياسية، من قبيل الغاء المحاصصة الطائفية ومحاسبة الفاسدين والحرامية. في حين ذهبت الاخرى الى الصدام مع القوات الامنية والمليشيات المسلحة في وسط العاصمة بغداد. اما التي اعقبتها فقد اقتحم المنتفضون المنطقة الخضراء والسيطرة عليها وهروب اعضاء الحكومة والبرلمان امام ابنائها العزل، بطريقة مخجلة ومهينة ومعيبة. ولولا تواطؤ مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، مع رئيس الحكومة حينها المدعو حيدر العبادي، واصداره امرا بالانسحاب من المنطقة الخضراء، لسقطت الحكومة وعمليتها السياسية الطائفية دفعة واحدة.
لا نجادل في قيام انتفاضات وثورات انتهت الى الفشل، ثم طواها النسيان او سجلت ضمن الذكريات الوطنية المؤلمة. لكننا نتحدث اليوم عن ثورة لا تزال نيرانها مشتعلة وطاقاتها الثورية والابداعية متفجرة، وتمثلها قيادات شابة ذات وعي متقد وخبرة واسعة وتجربة غنية افرزها طريق الكفاح على مدى السنين الماضية، اضافة الى ان رياح هذه الثورة وافكارها تجذرت في اعماق المجتمع العراقي، ودخلت في كل بيت ومدرسة وجامعة ومعمل ومصنع ومسجد وحسينية وكنيسة.
كلنا امل بان الانتفاضة الكبرى قادمة، وان انتصارها هذه المرة حتمي، وان اعداءها سينتهون الى مزبلة التاريخ.
عوني القلمجي
9/2/2023