العراق بعد عشرين عاما من الاحتلال الأميركي .. دولة متحولة أم ممسوخة
بلد لم يستقر حتى الآن
دامت حرب العام 2003 أقل من شهر، لكن تداعياتها تواصلت عقدين من الزمن تاركة العراق منقسما والعراقيين فقراء وغير متأكدين من المستقبل الذي ينتظرهم ومن المآل الذي سيأخذهم إليه الحكام المنشغلون بمطامحهم ومصالحهم الذاتية الضيقة.
العرب/واشنطن - كان الاحتلال الأميركي للعراق حدثا مصيريا في التاريخ المعاصر للبلد؛ فقد غيّر الكثير من أوضاعه السياسية والاقتصادية وغيرها، ومازالت تداعياته مستمرة في ذاكرة العراقيين وحتى المراقبين للبلد، وبعد مرور عشرين عاما على الإطاحة بنظام الراحل صدام حسين لا يزال الباحثون والمحللون يتساءلون: هل أصبح العراق دولة متحولة أم ممسوخة؟
وتحدث الصحافي والمؤلف غيث عبدالأحد عن بلاده كدولة متحولة خلال ندوة تشاتام هاوس التي انعقدت في السادس من مارس الجاري. وحدد أنها جمهورية أجرت انتخابات وتتبع
دستورا، وهو ما يمكّن من تسميتها ديمقراطية، أو ديمقراطية جزئية على الأقل. لكن قوانين البلاد تفرض تقسيم السلطة بين النخب، حيث يتمتع أمراء الحرب وميليشياتهم المسلحة بالسلطة في البرلمان على حساب الدولة المركزية.
وكتب غيث عبدالأحد عن حرب العام 2003 والاحتلال وحقبة الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر في كتابه الأخير المُعنون بـ”غريب في مدينتك”. واعتبر فيه أن سلطة الاحتلال الجديدة التي تسمى “سلطة الائتلاف المؤقتة” تجمع شبابا
متعصبين ساذجين يشغلون سلطات بلا منازع لإعادة تشكيل العراق بالطريقة التي يريدها أسيادهم. ورأى أنهم يشكّلون أسوأ مزيج من الغطرسة الاستعمارية والعنصرية وعدم الكفاءة.
وهدفت قرارات بريمر إلى حل الجيش العراقي وتفكيك الإدارة المدنية لإنهاء وجود حزب البعث. وخلّف حل الجيش فراغا ملأته بسرعة الميليشيات المسلحة (يُقال إن الرتب الدنيا في الجيش حلت نفسها إثر الهزيمة بشكل غير رسمي). ولا تزال تبعات هذه القرارات وخيمة.
وأقال بريمر موظفي الإدارة المدنية دون النظر في مهامهم مع تجاهل حقيقة أن أي شخص في منصب حكومي من أي أقدمية يحتاج إلى أن يكون عضوا في الحزب.
وأشار المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تقريره لسنة 2013 إلى أن عملية اجتثاث البعث كانت معيبة منذ بدايتها في 2003. واعتبر أن النهج غير الفعال وغير المتماسك هو ما أدى إلى استقطاب السياسات العراقية وسبّب عدم الاستقرار الحاد في الجيش والحكومة. وذكر أن التبعات تجاوزت أول تغيير للنظام، وامتدت حتى الانتخابات البرلمانية لسنة 2010، أي بعد حوالي سبع سنوات من الغزو.
وضمن اجتثاث البعث وصياغة دستور 2005 المعيب والمتسرّع تنامى الفساد المستشري الذي تجاوزت أضراره كل ما عانى منه العراقيون خلال سنوات حكم صدام. وشلّ هذا الفساد قدرة البلاد على إنشاء طريق لتجاوز تاريخ الدكتاتورية العنيفة. وبلغت حركات التمرد الجهادية في العراق ذروة وحشيتها إثر بروز تنظيم داعش.
وذكر رئيس مشروع مبادرة العراق في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) ريناد منصور أن مزاعم حرب عام 2003 كانت تغيير النظام وأن “القرار اتخذ لتدمير الدولة، وحلّ الجيش، وإقالة الإدارة المدنية”.
وينظر المحللون الغربيون إلى هذه الكارثة على أنها مجرد أخطاء فادحة فات أوان تصحيحها. لكن منصور يتساءل عما إذا كان الأمر خطأ أم منطقا متّبعا؟ ومكّن كل هذا “الغرباء من أن يصبحوا أقوياء” ودعم النخب الجديدة. ويواجه الشعب العراقي عددا كبيرا من الطامحين المسلحين بأيديولوجيات وميليشيات طائفية تمكنهم من اعتماد العنف بينما يتنافسون على الغنائم فيما بينهم عوض أن تكون السلطة في يد رجل قوي واحد.
وكان نوري المالكي من بين الذين حاولوا أن يرثوا منصب الرجل القوي في الدولة. وشغل منصب رئيس الوزراء من 2006 إلى 2014. ونال دعم جو بايدن حين كان نائب الرئيس الأميركي باراك أوباما في ولايته الثانية، بعد فوزه في انتخابات متنازع عليها. وشنّ المالكي، الذي كان واثقا من الدعم الأميركي، حملة مناهضة للسّنة شهدت تطهير الجيش من أتباع هذا المذهب وشن أيضا حملات عنف ضد المدنيين.
وساعدت سياسته على تحقيق داعش نجاحا في 2014 حيث كان العديد من العراقيين السّنة ينظرون في البداية إلى الجهاديين على أنهم محرِّرون.
واعتبرت الخبيرة في الشؤون العراقية لؤلؤة الرشيد أن المالكي فشل في مساعيه للانفراد بالسلطة على غرار صدام لأن النظام السياسي شديد التنافسية الذي ظهر بعد عام 2003 لا يسمح لأي شخصية باحتكار السلطة. لكن سياسة الجشع بين النخب الجديدة سادت في عهد المالكي الذي كان الفساد خلاله مستشريا. وقالت الرشيد إن “إنجازه الوحيد كان ضمان توزيع الفساد بالتساوي”.
وكان السير وليام باتي سفير المملكة المتحدة لدى العراق من 2003 إلى 2005، وقد اعترف بوجود العديد من أوجه القصور في دستور 2005. وقال إن “الضغط كان مسلّطا فقط لإتمامه. كنت أطلب المزيد من الوقت لكن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير لم يسمحا بذلك. قيل لي: يجب أن يكون جاهزا بحلول نهاية أغسطس”.
وأضفى الدستور الطابع الرسمي على المحاصصة القائمة على الطائفية التي أدخلها التحالف بعد الحرب. وتُمكّن المحاصصة من تقسيم الوزارات الحكومية على أسس طائفية وعشائرية، وتدعم الفساد المستشري الذي جعل دولة غنية بالطاقة تفتقر إلى إمدادات كهربائية آمنة، وابتلاها بنظام صحي معطل تشوبه الأدوية المقلّدة. كما يعاني البلد من نقص نظافة الماء، ومن نظام تعليمي يخون الشباب العراقيين. وأصبح العراق بذلك دولة تخذل شعبها.
وتتفق الرشيد والمحللون الآخرون على أن التغيير والنضال من أجل المساواة والحكم الرشيد يجب أن يأتي من داخل المجتمع العراقي. وتحدّثت عن “الدولة الممسوخة” بعد الغزو حيث “يحق لآية الله السيستاني إعلان الحرب، ويخصص أمراء الحرب النواب ميزانية من الدولة لميليشياتهم، وتفتخر الميليشيات المدعومة من إيران بشوفينيتها، وتعاني البصرة التي تجمع الكثير من ثروة البلاد النفطية من الفقر المدقع”. وقالت الخبيرة في الشؤون العراقية إن “العراق مجتمع متقلب… ولا نعرف بعد 20 عاما من يحكم أو من سيفوز في نهاية العملية”.
وأعرب ريناد منصور عن أسفه لجرّ العراق إلى دائرة الصراع بين أميركا وإيران. ويرى أن الإصلاح يتطلّب مساءلة أولئك الذين غزوا البلاد والجهات الداخلية التي استفادت من هذا التحرّك العسكري على حساب الشعب. لكن من أين ستأتي هذه المساءلة ومن سيشرف عليها؟ كما طرح غيث عبدالأحد فكرة أخيرة مفادها أن الديمقراطية في الشرق الأوسط هي “الضحية الكبرى”.