الصراحة المرة
د.ضرغام الدباغ
[size=32]الصراحة المرة[/size]
في الصباح الباكر، كنت أستقل الباص في عاصمة أوربية ، حين صعد شاب أفريقي يبدو عليه التعب والإرهاق، حتى أني ظننت أنه قد أسرف في تناول الكحول، ولكنه يحمل آلة موسيقية داخل علبتها، على الأرجح من نوع الأورغ (نوع صغير يوضع على طاولة)، وأختار أن يجلس بجانب شاب أوربي أبيض البشرة أشقر وسيم، لا يزيد عن بداية العشرينات، وراح يحدثه بصوت مرتفع " ها ... أنت أبيض اللون وهذا يجعلك تمتلأ فخراً وكبرياء .. أليس كذلك ..؟ "
الشاب الأوربي كان مهذباً فأجابه، " لا ليس كذلك، ولكننا في الصباح الباكر ونفتقر لشهية الكلام ".
فرد عليه الأفريقي " لا ..لا ... أنت تشعر بالغرور، وإلا فلا شيئ يميزك عني، بل أنا أثقف منك وأعمل بجد كل يوم طيلة الليل وحتى مثل هذا الوقت من الصباح فأنا عازف أورغ ".
وراح الشاب الأوربي يحدثه بهدوء وصبر كما شاهدت الأفريقي يعطيه بطاقته الشخصية ويتحدثان عن تواصل العلاقة بينهما.
فتأملت مقلباً الحديث على وجوه مختلفة. فأن تشاهد شبان أفريقيين في عواصم أوربا الغربية الأنيقة المترفة أمراً اعتيادياً، والأمر يتجاوز في جوهره مسألة توفير قوة عمل زهيدة السعر،إلى وجود اجتماعي / ثقافي، وصرنا نشاهد ظاهرة حالات زواج بين أفريقيين شبان وشابات، وأوربيين شباب، إلى جانب رفض عنصري من جانب أفراد من اليمين .. الأمر كله يجعلك على ثقة بأن المستقبل القريب للخمسين سنة المقبلة في عالم الغرب ينطوي على توجهات عنصرية، وقد تحمل في طياتها أحياناً على نزوع لاستخدام العنف ضدهم.
ومن جهة أخرى، حين نقرأ ونشاهد أفلاما وثائقية عن أفريقيا، يحملنا على التنبؤ بأن هناك مستقبلاً للقارة الأفريقية هي غير ما كان مخطط لها من الغرب الرأسمالي : أن تكون منبعاً للخامات الطبيعية، ومنجماً للقوى العاملة الزهيدة الثمن، أفريقيا تهرول نحو مستقبل آخر، وهناك صراع خفي / علني يدور في القارة السمراء، بين قوى أفريقية تطرح تصوراً جديداً لأفريقيا يحمل التقدم والتطور والتنمية .. ولكن حتى ذلك الوقت سيتواصل رسو القوارب التي تحمل المهاجرين من كافة الأعمار يفلح الكثير منها في الرسو على سواحل أوربا في البحر المتوسط، ولكن أيضا يبتلع البحر يوميا المئات منهم .
الغد الأفريقي مقبل بالتأكيد .... سيشرف حتماً وملامحه تبدو من الآن واضحة، الغرب يفقد ثقته بنفسه، فلم يعد التفوق الأبيض الغربي من المسلمات . والأوربيون بدورهم صاروا مقتنعين أنهم تجاوزوا الذروة، وصارت خلفهم، فهناك الكثير من الأسباب المقنعة والعنصرية أحدها، بأن وهج الحضارة الغربية في أفول، والقضية سنوات فحسب. والأفارقة (وربما غيرهم) صاروا لا يخفون دفء حرارة العلاقة مع الصين وروسيا، ورؤية روس وصينيين في المدن الأفريقية صار من المظاهر الطبيعية.
والصحف الأوربية تصدر يوميا وهي تحمل صور وكاريكاتور عن الولايات المتحدة التي تدمر أوربا بسياساتها الرعناء، فلا يدع سبباً واحداً للتعاطف مع الغرب التي أثخن شعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بجراح الشفاء منها ليس بسيط، ولكنه ممكن .. وقد أدركت الشعوب بداية الطريق.... ومن سار على الرب وصل ....!