لماذا يخشون التاريخ؟
د. منار الشوربجي
لماذا يخشون التاريخ؟
مفارقة لافتة حقاً أن يتحول تدريس العنصرية إلى قضية جدلية بالولايات المتحدة في الشهر نفسه الذي تحتفل فيه البلاد بذكرى اغتيال الزعيم مالكولم إكس.
والقصة باختصار أن حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري خاض معركة اضطرت معها الجهة المسؤولة لتنقية أحد مناهج الدراسة من كل ما له علاقة من قريب أو من بعيد بتدريس العنصرية الهيكلية؛ بدعوى أنها تغرس في نفوس النشء «كراهية أمريكا»، وتبث في قلوب البيض منهم «الشعور بالذنب».
كما تم حظر عشرات الكتب بالمدارس، كان من بينها روايات لأديبة نوبل السمراء توني موريسون، بل وبعض كتب الرياضيات؛ لأنها، وفق من حظروها، انطوت على إحصاءات تتناول التمييز ضد غير البيض. والحقيقة أن فلوريدا ليست الولاية الأولى التي اضطلع حكامها أو مجالسها التشريعية بمثل تلك الحملة، إذ انشغلت 42 ولاية من الولايات الخمسين بجهود مماثلة.
والعنصرية الهيكلية ليست مفهوماً جديداً ظهر بالأمس. وهو يعني، باختصار، أن العنصرية ليست مجرد مسألة فردية تتعلق بانحيازات الأفراد ضد غير البيض واعتبارهم أدنى درجة، وإنما هي مسألة هيكلية صارت جزءاً لا يتجزأ من عمل المؤسسات الاجتماعية والسياسية ذاتها حتى باتت تعيد إنتاج أنماط السلوك ذاتها.
وليس جديداً أيضاً، بالمناسبة، أن تكون حكومات الولايات في الصدارة عند اتخاذ مواقف رجعية من قضايا العنصرية، فبسبب الطابع الفيدرالي للدولة الأمريكية، ظلت حكومات الولايات هي السبيل للالتفاف حول ما يصدر عن الحكومة الفيدرالية من قوانين لها السيادة على الولايات الخمسين، فحين ألغيت العبودية، ثارت ولايات الجنوب التي كان اقتصادها الزراعي يحقق أرباحه من استعباد البشر، وهي الثورة التي وصلت للسعي إلى الانفصال.
فاندلعت الحرب الأهلية التي فاز فيها الشمال، بزعامة إبراهام لينكولن، فبقيت ولايات الجنوب قسراً في الاتحاد الأمريكي. لكن هزيمة ولايات الجنوب لم تكن نهاية المعركة، فقد تفننت حكوماتها في اختراع قواعد أدت لإرساء منظومة الفصل العنصري البغيضة، التي ظلت قائمة في الشمال والجنوب إلى أن نجحت حركة الحقوق المدنية في الستينيات في إلغائها، وصدرت قوانين فيدرالية تحظر التمييز العنصري في التعليم والتوظيف.
وتعيد للسود الحق في التصويت، لكن بعض حكومات الولايات ظلت ملجأ العنصرية؛ لتطل بوجهها عبر قواعد مختلفة تكرس العنصرية الهيكلية، وتحرم السود عملياً من حقوقهم على الرغم من أنهم قانوناً يتمتعون بها.
والنظام الجنائي القضائي من أهم تجليات العنصرية الهيكلية. وما يراه العالم من تورط بعض رجال الشرطة الأمريكيين في قتل السود هو مجرد رأس جبل الثلج، فقد أثبتت عشرات الدراسات والإحصاءات أن السود ينالون، مثلاً، عقوبات أشد وسنوات سجن أكثر بكثير من البيض الذين يرتكبون الجرم نفسه، وأثبتت أن عدد السود الذين يتم توقيفهم عشوائياً على الطرق السريعة أكثر بكثير من عدد البيض، بل وبما لا يقارن بنسبة السود للعدد الكلي للسكان.
ولو كانت المسألة فردية لا هيكلية لما رأينا رجال الشرطة السود يمارسون الوحشية ذاتها ضد الشاب الأسود تاير نيكولز، تماماً كما يمارسها الضباط البيض. وتلك العنصرية الهيكلية هي التي أدت إلى ظهور حركة «حياة السود مهمة»، فأعادت قضية العنصرية للصدارة، وأجبرت النظام السياسي إجباراً على اتخاذ إصلاحات مهمة.
والحملة الشرسة ضد تدريس تاريخ السود هي، في تقديري، رد فعل لنجاح حركة «حياة السود مهمة»؛ لأنها أعادت للواجهة ضرورة معالجة محنة السود، وهي حملة في جوهرها تمثل المسلك ذاته، أي اللجوء لحكومات الولايات للتراجع عن أية مكتسبات يحققها السود في مسيرة كفاحهم.
المفارقة هي أن مالكولم إكس، الذي اغتيل في الستينيات، كان من أهم من أشاروا مبكراً للعنصرية بوصفها أزمة هيكلية تتخطى انحيازات الأفراد. أما أن يتحول تدريس تاريخ السود إلى قضية جدلية تغطي على ما عداها من أخبار في الشهر ذاته الذي تحتفل فيه الولايات المتحدة رسمياً بتاريخ السود، فتلك مفارقة أخرى لا تحتاج للتعليق.