لماذا تخدعنا الاستطلاعات بانتخابات الرئاسة الأمريكية؟
د. منار الشوربجي
لماذا تخدعنا الاستطلاعات بانتخابات الرئاسة الأمريكية؟
تقدُّم كامالا هاريس على منافسها في استطلاعات الرأي العام عقب انعقاد المؤتمر العام لحزبها، ليس مؤشراً على المستقبل، إذ لا بد من توخي الحذر عند قراءة الاستطلاعات من الآن وحتى يوم الاقتراع العام. ولا يعني ذلك التشكيك في دقة استطلاعات الرأي، وإنما معناه أن هناك اعتبارات ثلاثة ينبغي أخذها في الحسبان عند قراءتها.. فكثيرة هي الحالات التي فوجئ فيها العالم، في العقود الأخيرة، بخسارة المرشح الذي كانت تشير نتائج الاستطلاعات لتقدمه، فهيلاري كلينتون، مثلاً، والتي كانت تتقدم على ترامب، هزمها الأخير في عام 2016.
وتقدم هاريس في استطلاعات الرأي التي أجريت فور انتهاء المؤتمر العام لحزبها، لا يشكل جديداً.. فمن الطبيعي في كل انتخابات رئاسية، أن ترتفع أسهم المرشح، فور انتهاء المؤتمر العام لحزبه، لأن أيام انعقاد المؤتمر تكون فرصة جيدة ليُكوّن الناخبون انطباعاتهم عن الحالة الراهنة لذلك الحزب ومرشحه.. لكن سرعان ما ينطفئ الحماس، وتتحول الأنظار بعيداً، نحو وقائع أخرى في الانتخابات أو في غيرها، ما قد يغير الخريطة الانتخابية. ولا أدل على ذلك من أن ترامب كان هو الآخر قد حصل على دفعة للأمام، بعد المؤتمر العام للحزب الجمهوري، سرعان ما تبخرت عقب المؤتمر العام للحزب المنافس.
لذلك، فهناك اعتبارات يجب أخذها في الحسبان، عند قراءة الاستطلاعات في الفترة المتبقية من الحملة، أولها أن فترة الشهرين من الآن وحتى يوم الاقتراع العام، ليست بقصيرة في عمر الانتخابات الرئاسية، ففضلاً عن أن أحداثاً مهمة قد تقع خلالها، من شأنها أن تغير مجريات الأمور تماماً، فإن الأهم أن الكثير من الأمريكيين لا يولون اهتماماً يذكر للحملة إلا في الأسابيع الأخيرة، قبل الاقتراع العام.
وعليه، فإن استطلاعات الرأي الأهم على الإطلاق، هي تلك التي تجري في تلك المرحلة الدقيقة. لكن حتى تلك الاستطلاعات ذاتها، قد تكون خادعة، هي الأخرى، إذا لم يُحسن المتابع قراءتها، حتى يدرك مغزى كل من نسبها المئوية. وهذا هو بالضبط الاعتبار الثاني. ففي بلد يعانى استقطاباً حاداً، صار معه هامش الفوز بانتخابات الرئاسة ضئيلاً للغاية، لا يجوز قراءة الاستطلاعات، دون النظر للعبارة بالغة الأهمية التي عادة ما تتذيلها، والمتعلقة بهامش الخطأ.
فإذا قلنا مثلاً إن الاستطلاع الذي رصد تقدم دونالد ترامب على كامالا هاريس بنسبة 48 % إلى 46 %، يذكر أن هامش الخطأ فيه يساوي 2 %، فإن هذا يعني أن نسبة شعبية ترامب على أرض الواقع، تتراوح بين 46 % و50 %، أي بإضافة 2 %، أو طرحها من النسبة التي حصل عليها. والشيء نفسه بالنسبة لهاريس، فتكون نسبة شعبيتها تتراوح بين 48 % و44 %. وبالتالي، فإن الفارق بين المرشحين، يسمح فعلياً لأيهما بالفوز. بعبارة أخرى، لأن هامش الفوز في انتخابات الرئاسة بات ضئيلاً، يستحيل الاعتماد على الاستطلاعات، مهما بلغت دقتها، للتنبؤ بالفائز في الانتخابات.
والاعتبار الآخر الذي لا يقل أهمية، هو أن الانتخابات الرئاسية بأمريكا، ليست انتخابات مباشرة، بل تتم عبر مرحلتين، من خلال ما يسمى المجمع الانتخابي.. فالناخب حين يدلي بصوته، فإنه عملياً لا يعطيه للمرشح الذي يفضله، وإنما للمجمع الانتخابي، الذي يقوم بدوره باختيار الرئيس.
وأصوات المجمع الانتخابي ليست موزعة بالتساوي بين الولايات، وإنما تحصل كل ولاية على عدد من المنتخبين، بناء على مجمل عدد سكانها. وجوهر المعضلة، هو أن صوت الناخب الأمريكي يترجم إلى منتخبين في ولايته وحدها، أي تحسب النتيجة في كل ولاية على حدة. وهو الأمر الذي يعني أن الولايات، لا الناخبين، هي التي تختار الرئيس فعلياً. والعلاقة وثيقة بين ذلك النظام الانتخابي، وبين ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد على استطلاعات الرأي، لمعرفة النتيجة النهائية للانتخابات.
فهذا التعقيد في العملية الانتخابية، قد يؤدي فعلاً بالمرشح المتقدم في استطلاعات الرأي للفوز بأصوات الناخبين الأمريكيين، ولكنه يخسر الانتخابات. ذلك لأن المعيار في الفوز بالرئاسة، ليس أصوات الناخبين الأمريكيين، وإنما أصوات الولايات، أي أصوات المجمع الانتخابي. ولهذا السبب تحديداً، فإن استطلاعات الرأي المتعلقة بمدى شعبية المرشح في كل ولاية على حدة، لا تقل أهمية عن تلك التي ترصد شعبيته في الولايات الخمسين مجتمعة.
ولا يقل عن ذلك كله، الاعتبارات المتعلقة بالحملة الراهنة تحديداً.. فانسحاب بايدن قبل المؤتمر العام بأسابيع قليلة، أدى تلقائياً لارتفاع أسهم هاريس الانتخابية، فالحدث سلط الأضواء والكاميرات عليها في لحظة حاسمة، ما أعطاها دفعة قوية، افتتح في خضمها المؤتمر العام، فتضاعف تقدمها على منافسها. وما يستحق التأمل، أن كل هذا الزخم الاستثنائي، لم يحقق لهاريس إلا تقدماً لا يزيد على ثلاث نقاط فقط في أغلب الاستطلاعات. باختصار، مهما بلغت دقة استطلاعات الرأي العام، فهي قد تكون خادعة للغاية، في بلد أدى فيه الاستقطاب لخفض هامش الفوز لأدنى مستوياته.