عقدان من الزمن على ضياع الوطن - الجزء الأول-
د. صبحي ناظم توفيق
خبير ستراتيجي وعسكري...دكتوراه في التأريخ
نيسان/2023
عقدان من الزمن على ضياع الوطن -الجزء الأول-
ها قد إنقضى عقدان من الزمن على ضياع العراق العزيز وتدميره وتخريبه وحرقه، منذ إقتحمت قوات البَلطَجة الأمريكية- البريطانية أرضَ وطني الحبيب من دون قرار دولي، وتحت ذرائع ومزاعم ثبُتَ بُطلانها على لسان مُطلِقيها، فأُحتُلت بلاد الرافدين خلال ثلاثة أسابيع، قابَلَه إخفاق عسير للقوات العراقية بشكل مستغرَب لم يُنتَظَر ولم يُتَوقّع، وإنهار نظام الرئيس الراحل "صدام حسين" وإختفى جميع القادة المحيطين به، فباتت البلاد سائبة أمام الغزاة، وتعرّضت لأنكى جرائم الدمار والحرق والنهب والسلب، وسالت دماء أبنائه أمام أعين المحتلين وبتوجيهات من الساسة المُنَصّبين والعملاء المأجورين وزعماء العصابات وقادة الميليشيات وعتاة المجرمين وأرباب السوابق، فضلاً عن العَوام.
ولمّا كنتُ ضابطاً في الجيش العراقي برتبة "عميد ركن" منذ عام 1964، وعشتُ أحداث العراق بتفاصيلها حتى تقاعدتُ عام 1988، ثم مُحاضِراً وباحثاً لدى كلّيات جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا، ومتابِعاً لنكبة غزو دولة الكويت الشقيقة وما تلاه سنة 1991 والحصار المرعب لـ13 سنة متتالية، والمواقف التي تصاعدت ضد العراق، ناهيك عن حضوري ندوات وبحوثاً ستراتيجية متنوعة عن توقّعات الغزو الذي بدا واضحاً عند تحشيد القوات الأجنبية على مقربة من حدود وطني في أوائل 2003.
لذلك لا أرى نفسي بحاجة لمصادر ومراجع تُعينني في إعداد هذه الدراسة المتواضعة، فقد تابعتُ إستحضارات الغزو وسطرتُ ساعاته منذ الصباح الباكر ليوم الأحد 19 آذار 2002 ورصدتُ مُجرياته وأيامه، والتي من خلالها أحاول تسليط بعض الضوء على موجِبات النصر الحليف الساحق، والإخفاق العراقي غير المستغرَب، موجِزاً اُموراً تستند إلى ثقافتي وخبراتي من خلال خدمتي الفعلية التي طالت 36 سنة، ومتابعاتي للأمور الستراتيجية حتى يومنا الراهن.
مقالة بجزءَين ولكي لا أثقل على المتابع الكريم، فقد جزأت مقالتي الأصل إلى جزءَين، وحمّلتُ أولهما العناوين الآتية:-
1. التمهيد للغزو.
2. أَنَفَة القيادة العراقية.
3. مفاجأة اليوم الرابع المُحبِطة.
4. إنعدام التكافؤ
5. خطط الطرفين.
6. تحـشّيد القوات.
التمهيد للغزو
في أواخر سنة 2002 كانت القوات الأمريكية والبريطانية تتحشد جهاراً ولا تنكر عزمها لغزو العراق لإسقاط نظامه السياسي في قادم الأيام، تحت حجج إمتلاك العراق أسلحة جرثومية تُحَمّل على رؤوس صواريخ بالستية بعيدة المدى تكفي لإبادة الملايين من البشر خلال 45 دقيقة!!! والتي لم تَفِدْ معها إنكار العراق وعدم إمتلاكه ولو مليمتراً مُكعّباً واحداً، سواءً من هذا السلاح المزعوم أو سواه، بعد أن جرّدته فرق التفتيش الدولية من أسلحته الكيميائية كلّياً منذ عام 1992.
وفي تلك الفترة تواردت أنباء مؤكدة أن مجاميع من المعارضين العراقيين المأجورين لدى الدوائر المخابراتية الأمريكية والبريطانية، قبل أن يتجمّعوا في "أربيل" تحت راية أحزاب كردية، إستحضاراً للإنطلاق من كردستان العراق لفتح جبهة حرب على المحافظات الأربع المتاخمة له، والإقدام على أعمال تربك الأمن الداخلي فيها بالتزامن مع الغزو.
وفي "هنغاريا" كان 2000 من شباب المعارضة العراقية يتدربون تحت إشراف ضباط عراقيين ذوي رتب عالية، لتشكيل فرقة خاصة تفتح جبهة حرب إضافية من إتجاه ما، أو تؤدي أدواراً داخل الوطن تدعم الغزو وتربك الأمن بمثابة طابور خامس.
ومن العاصمة الجيكية "براغ" إنطلقت إذاعة المعارضة العراقية ينطق منها مذيعون مأجورون ومقدمو برامج عراقيون مجنّدون، يدفعون الجماهير للتعاون مع الغزاة للتخلّص من براثن الدكتاتورية الشمولية، كي يحققوا مستقبلاً رغيداً تحت مسمّيات الديمقراطية، الحرية، التعددية، الفيدرالية، وتقديم الخدمات التي سترقاهم إلى مصاف دول العالم المتحضّر.
أما في أروقة مجلس الأمن الدولي، فإن الثنائي الأمريكي- البريطاني لم يستطعا إمرار مشروع قرار مشترك لتخليص العالم من مخاطر أسلحة العراق المزعومة، بعد إعتراض شديد من دول عظمى وكبرى، في حين واصلا تكثيف قواتهما البرية، البحرية، الجوية، وخمس حاملات طائرات عملاقة في مياه الخليج والشرق الأوسط.
وفي الساحة السياسية ظلّت القيادة العراقية منبوذة في أنظار الزعماء العرب وقادة العالم منذ نكبة الكويت، وأمست لا صاحب يسندها ولا صديق يدعمها.
وتردّد في وسائل الإعلام أن دولة الإمارات العربية عرضت على الرئيس صدام حسين أن يترك بغداد مع عائلته ليُستضاف لديها معززاً ومكرّماً، ويسلم العراق من الكارثة الآتية، ورفضه الشديد لذلك كما كان متوقعاً.
ووقتما حلّ مطلع شهر آذار 2003 أيْقَنّا 100% أن الحرب باتت وشيكة لا ريب فيها.
أَنَفَة القيادة العراقية
رغم كل ذلك، ظلّ الرئيس صدام حسين صلباً كما عهدناه، يشيع آمالاً غير منطقية لا تمت إلى الواقع في وسائل الإعلام وصفوف القوات المسلحة وعموم المجتمع بصلة ، في حين دأب المتزلّفون والمنافقون على هتافاتهم وأهازيجهم وقصائدهم ومدائحهم الرخيصة والمعتادة، ليستحصلوا مكرمات ومكاسب، رغم إستجلابهم وسخرية العراقيين وسخطهم خلف الأبواب الموصدة.
ولكن الأخطر من تلك المصائب، وإستناداً الى صديق عزيز برتبة "عميد ركن" في رئاسة أركان الحرس الجمهوري، نقل لي ما تفوّه به "قصي صدام حسين" -قائد قوات الدفاع عن "بغداد"- في لقاء خاص مع كبار قادة الحرس الجمهوري وضباط أركانهم الأقدمين:-
((أيها الرفاق.. أنقل لكم أن القيادة العامة قدّرَت الموقف الستراتيجي، ورأت بما لا يقبل الشك أن العدوان قادم لا محالة، وأن الغزاة المنطلقين من أقصى الجنوب، لا يمكن أن يتقرّبوا الى ضواحي العاصمة إلاّ خلال مدّة لا تقلّ عن ستة أشهر!!! لأن كل محافظة جنوبية سوف تقاومهم فترة تتراوح بين 15-30 يوماً في كل مدينة، وتخوض قتالاً شرساً وسط الشوارع والمباني.. وهذا ما سيُحَسِّن موقف العراق ويُقوّي سمعته على مستوى العالم أجمع، عندئذ تتدخّل دول عظمى وكبرى بغية إيقاف الحرب، ليس لسواد عيون العراق، بل لمصالحها الذاتية والنفطية والإقتصادية)).
كل ذلك قبل أن يوجز "قصي صدام حسين" حديثه بغرور:-
((الأهم يا رفاق.. أن المنتصِر في هذه الحرب، هو من سيظل قائماً على قدميه في أرض بغداد))!!!!
مفاجأة اليوم الرابع المُحبِطة
وتحدث لي ذات الصديق العميد الركن حقيقةً مأساوية مفادها:-
(كانت القيادة والسيطرة عندنا في رئاسة أركان الحرس الجمهوري مطمئِنة لغاية لغاية مساء اليوم الرابع من الغزو، حتى وردتنا معلومات تؤكد بأن طلائع القوات الأمريكية بلغت صحراء النجف وكربلاء، وأن مواجهة بنيران خفيفة حصلت في ضواحي ناحية "ذي الكَفَل"، فكانت مُفاجأة مُحبِطة أدت إلى تخبّط ملحوظ في دوائرنا، وجعلتها ترتبك في توجيهاتها ونتخبّط في أوامرها، وأفقدتها السيطرة المتأنّية على تشكيلاتنا الميدانية المنفتحة جنوبي بغداد، وأمسينا نحَرِّك ألوية من هذه المنطقة إلى تلك رغم علمنا أنها مجرودة من أي غطاء جوي، وستضحى تحت رحمة موجات من طائرات الهجوم الأرضي الحليفة، فوقعت في صفوفها خسائر كارثية خلال التنقّل فحسب).
إنعدام التكافؤ
لسنا بصدد الإستصغار من شأن الضابط أو الجندي العراقي، الذي تَمَرَّسَ على القتال ومجابهة الأخطار في حرب طالت ثماني سنوات ازاء إيران، وحرب غير متكافئة حيال التحالف المناهض للعراق قبل إنسحابه القسري من الكويت، وحروب أخرى يطول الحديث عنها.
ولكن الذي يجدر ذكره، أن الجيش العراقي وقواته المسلحة كانت مجهّزة ومُهَيّأة ومُدرّبة لخوض قتال حيال دول الجوار والمنطقة، ولم تُعَدّ بشكل مطلق لمواجهة دولتين تمتلكان قوات مسلحة هما الأعظمان في حلف (NATO) ومصمّمتان لخوض صراع حيال الجيوش السوفييتية وحلف "وارشو" خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا ما تركنا تعداد الجنود الذين حُشِّدهم الطرفان للمواجهة الميدانية على أرض العراق جانباً، لنقارن بين أسلحتهما المتنوعة، لتوصّلنا إلى:-
1. لا وجه مقارنة بين الطرفين من حيث أسس التجنيد والإعداد والتدريب والخبرة بين مستويات الطوائف والأفراد في مناحيهم الثقافية والعلمية.
2. التفاوت الشاسع في نوعية الأسلحة والمعدّات وكفاءتها وأدائها بالإعتماد على التكنولوجيا الرائعة... فعلى سبيل المثال المدى المباشر لمدفع الدبابة الأمريكية "إبراهامز" يبلغ 4000 متر، يقابله مدى الدبابة العراقية الأفضل T-72 (2200) متر... أي أن بإستطاعة الدبابة الأمريكية أن تستهدف قرينتها العراقية بفارق (1800) متر... وهذا مثال ينطبق على العديد من الأسلحة الأخرى.
3. تمتّع الغزاة بتفوق الجوي كاسح في سماء العراق، بهليكوبتراتهم المسلحة وطائرات الهجوم الأرضي (F.G.A) المرافقة لقطعاتهم، محمّلة بمقذوفات دقيقة ذات مديات تبلغ (10) كلم فأكثر، وإستغناء العراق عن جميع قواعده الجوية وإخباء طائراته وسط البساتين والبراري، ناهيك عن عدم تمكّن القوات البرية عراقية إيجاد فرصة لِصِدام مباشر حيال الأعداء.
4. توفّر معدّات الإستمكان ذات الكفاءة والدقة العالية لدى الغزاة في تحديد الأهداف، وخصوصاً مدافع الميدان والهاونات.
5. التشويش اللاسلكي والألكتروني الدقيق ذات التأثير الهائل والإعماء الشامل، مقابل لا شيء لدى العراق، وإضطراره إلى إيقافها خشية أن تُضرب في مواقعها.
6. الإستطلاع الفضائي المتوفر للغزاة وتثبيت ثلاثة أقمار أمريكية فوق العراق، وتحقيق معلومات دقيقة على مدار الساعة، تقابلها إستخبارات عراقية أمست شبه عمياء عمّا يجري في أرض الوطن.
خطط الطرفين
في مقولة "صن تسو" أحد قادة إمبراطورية الصين (2500 قبل الميلاد):- ((الهجوم يحقق النصر... والدفاع لا بدّ أن يُخْتَرَق ويُهزم))... ويؤيده في ذلك معظم ستراتيجيّي العالم االمعاصرين.
وهنا نتلمّس خطط قيادة الغزاة بـ"التعرّض" والأخذ بـ"المبادأة" ستراتيجياً وعملياتياً وتعبوياً، عكس العراق الذي إعتمد على "الدفاع المُسْتَكِنّ"، دون أية هجمات مقابلة مخطّط لها لإيقاف تقدّم العدو أو تأخيره وعرقلته بـ"الدفاع التعرّضي"، أو إرغامه على التوجّه إلى أماكن قتل بأسلوب "الدفاع السيّار".
وما يؤسف له أن الخطّة العراقية إعتمدت على تصوّر غير واقعي لعدم تقديرها أسس العقيدة العسكرية الأمريكية، بأن قواتهم سوف تخوض قتال شوارع وسط المدن، وسيكون هذا لصالح العراق في إطالة أمد الحرب، والتدخل الدولي المؤمّل لإيقافها، فيظل نظام الحكم قائماً، كما حصل عام 1991.
ولكن التحالف خطّط وعزم على عكس ذلك، ولم يقحم قواته في أية مدينة، إلاّ لتحقيق غاية تتطلب المجازفة، كالسيطرة على الجسور أو مواقع ذات أهمية بالغة كالمطارات والقواعد الجوية.
تحـشّيد القوات
يُعرَّف التحشّد، وهو أحد مبادئ الحرب، كونه:- "إستحضار قوات متفوّقة على ما لدى الخصم في الزمان والمكان المناسبين".
النسبة العدديّة والكمّية مالت لصالح العراق، ولكن التحالف كان سيّد الأجواء، ومتفوقاً نوعيّاً على الأرض في جميع مواقع المواجهة، وبالأخص قبالة مدن العراق الجنوبية والفرات الأوسط، وتحريكه للقسم الأكبر من قواته نحو الهدف الستراتيجي الأعظم، المتمثل ببغداد، وكان ذلك كافياً لجعل المجمل العام للتفوق العددي العراقي ضئيل التأثير.
ولمحدودية المعلومات المخابراتية والإستخباراتية لدى العراق، فإن قيادته العليا أمسى في موقف ستراتيجي مُحرِج، إضطرّتها لتفريق قواتها البرية في عموم بقاع الوطن، فنتج عنه ضياع مبدأ التحشّد، مودِياً الى محدودية الحشد المفترض في المكان المستهدف، بإستثناء بغداد وضواحيها.
أما مناطق العراق الغربية القصوى المتاخمة للحدود مع كل من "سوريا والأردن"، فقد اُخْلِيَتْ من أية وحدات قتالية إقتصاداً في الجُهد العسكري، وخصوصاً على محور "الأردن- الأنبار"، وذلك للإفادة منه في قواطع أخطر، مما أفسح المجال لفرقة عراقية من المعارضين الذين دُرِّبوا في "هنغاريا" من التوغّل في أعماقها من دون مقاومة، وإستحوذت على قاعدتين جويتين في غربيّ البلاد، لتنطلق منهما طائرات التحالف نحو بغداد بيسر وسهولة وحمولة قصوى من القنابر، دون الحاجة الى طيران يستغرق وقتاً طويلاً.
وإلى لقاء قريب مع الجزء الثاني من هذه المقالة على صفحات هذا الموقع الأغر في قادم الأيام بعون الله سبحانه.