مهرجان الربيع يعود إلى أحضان أم الربيعين
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
مهرجان الربيع يعود إلى أحضان أم الربيعين
تنطلق صباح يوم غد الأحد 30 من نيسان الجاري النسخة الجديدة من مهرجان الربيع في الموصل بعد توقف دام عقدين من الزمن، حيث ستنطلق المواكب والكراديس التي تمثل حضارة نينوى عبر تاريخها البعيد والتي شُيدت على أرضها، لتُظهر للعالم أجمع أن العراق بلد لا يمكنه أن يموت أبدا.
يرتبط فصل الربيع في العراق بالعديد من الفعاليات والنشاطات المُبهجة، وتنتشر المهرجانات بمحافظات مختلفة كنوعٍ من أنواع التعبير عن الفرحة بقدوم هذا الفصل الجميل. ويُعتبر مهرجان الربيع في الموصل واحداً من أهم هذه المهرجانات، إذ يرجع تاريخ افتتاحه الى ستينات القرن الماضي.
هناك العديد من الفعاليات والمهرجانات الأخرى التي ارتبطت بفصل الربيع في العراق مثل: عيد نوروز في كوردستان، ومهرجان الزهور في بغداد، ومهرجان الربيع الدولي في السليمانية، إلا أن مهرجان الربيع في الموصل له خصوصية خاصة لأسباب مختلفة سنوضحها لاحقا.
للربيع في الموصل الحدباء خصوصيته، حتى أن أحد أسمائها الرئيسة هو (أم الربيعين)، قال الشاعر:
(أُمَّ الربيعيـنِ)، يا قِيثارَةَ الزمنِ ... يا واحةَ اللؤلؤِ المنثـور، في وطني
يا نينوى الموصل الحدباء، يا ألَقِي ... ونبضَ صوتيَ في سَهْلٍ وفي حَزَنِ
ما زلتِ ثَغرَ بلادي، ما زَكا زَهَرٌ ... غَضٌّ، ومـا صدَحَتْ وِرْقٌ على فَنَنِ
ولفصل الربيع حضوره الواضح في بيئة (أم الربيعين) وينطبق عليه قول البحتري:
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكًا ... مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما
نينوى والربيع:
مدينة نينوى مدينة تأريخيه شهيرة، كانت عاصمة للدولة الآشورية، وتعد من أقدم وأعظم المدن في العصر القديم.
تقع مدينة نينوى على ضفة دجلة اليسرى في الساحل الأيسر من مدينة الموصل، تحت تل (قوينجو) وتل (النبي يونس) عليه السلام، وقد تأكد ذلك في العام 1847 عند العثور على جدران قصر الملك سنحاريب هناك.
لقد كانت هذه المدينة موجودة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ولكنها لم تصل إلى اوج عظمتها إلا بعد قيام سنحاريب (750-681 ق.م) ببناء قصر فيها وتشويرها وتزويدها بالأقنية.
لقد حكمت الإمبراطورية الآشورية ما يعرف في ديانة بلاد ما بين النهرين القديمة باسم (أركان العالم الأربعة)، وتضم: من أقصى الشمال جبال القوقاز داخل أراضي ما يسمى اليوم أرمينيا وأذربيجان، حتى الشرق مثل جبال زاغروس داخل أراضي إيران الحالية، إلى أقصى الجنوب المتمثل بالصحراء العربية في المملكة العربية السعودية الحالية، وإلى أقصى الغرب من جزيرة قبرص في البحر الأبيض المتوسط، وحتى إلى الغرب في مصر وشرق ليبيا.
من كنوز مدينة نينوى الملكية المسمارية مكتبة (آشوربانيبال) التي تأسست في القرن السابع قبل الميلاد، وتُعد أقدم مكتبة في تاريخ البشرية. وتضم هذه المكتبة آلاف الألواح الطينية وبقايا نصوص نسبة كبيرة منها باللغة الأكادية وتعود للقرن السابع قبل الميلاد.
لقد كان آشوربانيبال أعلى ملوك العراق ثقافةً وعلماً، حيثُ يُنسب إليه الفضل الأكبر بمعرفة التفاصيل التاريخية للعراق القديم بسبب مكتبته العظيمة التي جمع فيها تاريخ وعلوم واكتشافات واختراعات كل الحقب التي مرت بأرض العراق منذ السومريين الأوائل وحتى فترة نهاية حكمهِ بعد أن جمع كل الكتب المكتوبة على الألواح الطينية في مكتبة ضخمة بقصره في عاصمته (نينوى).
إن مكتبة (آشوربانيبال) هي إرث حضاري وتاريخي وعلمي لهذه المدينة (نينوى). وهناك اقتباس لمعلومات تاريخية قيّمه من قبل مجلات علمية طبية غربية عن ذكر حالات نادرة مذكورة في المكتبة الاشورية؛ مثل حالات انسداد فتحة الشرج الولادية وتشوه جدار الصدر وبروز عضلة القلب خارج التجويف الصدري، وغيرها من الحالات المَرضية النادرة مذكورة في مجلات طبية متخصصة ومأخوذة من ما نُقل وترجم من الألواح المسمارية في المكتبة الآشورية في نينوى.
ومن النصوص التي وجدت في مكتبة (آشوربانيبال) قوله "استقيت المعارف الخاصة بالكتبة وحذقت آيات السماء والأرض... ودرست ظواهر السماء، وتمكنت من حل قضايا صعبة في القسمة والضرب وأتقنت فن الكتابة السومرية والكتابة الأكدية الصعبة جدا، وكنت أحب أن اقرأ الأحجار والأنصاب المكتوبة من أزمان ما قبل الطوفان...".
وإدراكا لأهمية مكتبة (آشوربانيبال) في الحضارة البشرية، فقد تم في السنين الأخيرة تشييد مكتبة فخمة في الناحية الشرقية من جامعة الموصل، وعلى بُعد مسافة قليلة من مكتبة (آشوربانيبال) الأصلية.
وهذه المكتبة صممها فريق من المهندسين المعماريين العراقيين، وقد فازت ضمن تصاميم مُقدمة، هي رمز لمدينة الموصل مستوحاة من روح العمارة الآشورية.
لقد تسلمت هذه المكتبة إهداءات من مكتبات من خارج العراق. ومما يؤسف له أن هذه المكتبة قد اُهملت وتُركت على الرغم من أن بنائها قد وصل إلى مراحله النهائية.
مهرجان الربيع:
لفصل الربيع حضوره القوي في بيئة الموصل منذ القدم، حيث تفرش الأرض بساطا أخضرا في كل مكان، تتخلله الأزاهير الربيعية البريّه الجميلة بألوانها الزاهية، كأزاهير البيبون والشقّيق (شقائق النعمان) و (الطق طقيق) والكركيما وعلك الغزال والحاج كبي والجمبد البلدي الشهير برائحته العطرة الزكية حيث كان يستخدمه الموصليون لتعطير الثياب بعد غسلها.
وترجـع احتفالات الربـيع في نينوى إلى العـهد الآشوريين الذين كانوا يقـيمون احتـفالاً بفـصل الربيع في بداية السنة الاشـورية (عيد أكيتو) في العاصمة نينوى، حيث تقام الاحـتفالات فخمة في نـيسان وتـستمر لمـدة 12 يوماً.
و(عيد أكيتو) هو عيد الربيع، وكان شعاره (زهرة البيبون) الصفراء والبيضاء الجميلة والتي تظهر في بيئة الموصل خلال الربيع في آذار ونيسان ومايس من كل سنة.
لقد استمر احتفاء أهل الموصل بالربيع في القرون اللاحقة، ويذكر كبار السن أنه كانت تقام احتفالات شعبية في الربيع في حديقة الشهداء في أيمن الموصل وفي حديقة الشعب في أيسر الموصل في النصف الأول من القرن العشرين.
كما حافظت عوائل الموصل على الاحتفاء بالربيع بالخروج بسفرات عائلية إلى المناطق المحيطة بالموصل مثل (أرض الباقلي) ومنطقة الطيران والبو سيف في أيمن الموصل، و (عين الدملماجة) والجيلة والنوران والشلالات في أيسر الموصل.
وفي العام 1969م في عـهد المتصـرف ( المـحافظ ) علاء الدين البـكري ولدت فكرة إقامة (مهرجان ربيع) في الموصل، حيث قام بنشر مـقالة في أحـدى الجرائد، طُرحـت فيها فـكرة أعـادة أحياء المـهرجان الذي كان يقام في زمن الأشوريين لاسـتقبال الربيـع.
لقد صـمم شـعار المهرجان شيخ الخطاطين يوسف ذنون، حيث يمثل الشـعار (زهرة البيبون) الشـهيرة التي تـنتــشر في الموصل والتي كان لها قدسية عند الآشوريين واُستخدمت في النقوش لتـزين الابنية والجوامع. وفي وسـط الشعار زهرة تبـرز وسطها منارة الحدباء لـتمثل العمـارة الموصلية ومـكتوب تحتها (مهـرجان الربـيع بالـموصل).
لقد قامت بلدية الموصل بمـساعدة أهـالي المدينة والمدارس والـنقابات بإطلاق النـسخة الأولى للمـهرجان، وأنـيط بالفـرقة الرابعة حماية المـهرجان، وكانت تلك البداية لمـهرجان الربيع.
لقد نجح المهرجان نجاحا باهرا، وكان لتفاعل المؤسسات الرسمية، وبخاصة وزارتي التربية والتعليم العالي، دورا فاعلا فيه. حيث كان المهرجان يُفتتح بمسيرة راجلة من المواكب الجميلة والذي تتخلله الفعاليات الشعبية التي تجوب المدينة، وتضم فعاليات المدارس والمؤسسات الرسمية داخل المدينة فضلا عن أطرافها.
وكانت تقام معارض للزهور وللكتب والأعمال اليدوية. وفي الليل تقام حفلات فنية فخمة شارك فيها كبار الفنانين العراقيين والعرب مثل عبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية وصباح فخري وصباح ومها صبري وهدى سلطان وسميرة توفيق وشريفة فاضل وهدى سلطان ومحمود شكوكو وفرقة رضا المصرية وغيرهم من النجوم. وكانت تقام الحـفلات في الموصل على مسارح قاعة الربيع وقاعة ابن الأثير وبعض السينمات، كما كانت تقام حفلات في منطقة الحضر الأثرية.
لقد كانت الموصل تشهد حركة تنشيطية في مهرجان الربيع في مجالات مختلفة، وكانت تجري مقابلات في تلفزيون الموصل لشخصيات زائرة، أذكر منهم محمد القبانجي وكامل الدباغ فضلا عن الفنانين المشاركين. وكان يدير المقابلات الفنان عصام عبد الرحمن والذي ذكر لي قبيل وفاته أنهم كانوا يمسحون شريط المقابلة لكي يسجلوا عليه مقابلات أخرى لعدم توفر التخصيصات المالية لشراء أشرطة!!
لقد كانت الـتحـضيرات للمهرجان تبدأ من شـهر آذار، حيث تـقوم لجـنة العليا المـشرفة على المهرجان ندوة نقاشيه تجمع فيها الادباء والرسامين والفنانين والنحاتين وتبحث فيها الخطوات الاولى لإقامة المهرجان. وكانت فـعاليات المهرجان تبدأ في العاشـر من نيـسان، وكان المهرجان يـتضمن فعـاليات عديدة؛ مـنها:
- مـواكب الربيع، وتتضمن سـيارة وعـربات مزينة ومكللة بالزهور تطـوف شـوارع الموصل، وتحكي تاريخ وتراث العراق والموصل وبعض الشخصيات التاريخية والتقاليد التراثية مثل ليلة الحنا والزواج. وكانت المواكب تسير في شـوارع الموصل القديمة، ثم نقلت الى شـارع المنصة.
- مـسرحيات وأوبريـتات يؤديها فنانون محليون مع طـلاب المـدارس تتناول تراث وتقاليد المـوصل بأسـلوب غـنائي جـميل، مثل رمضان والعيد والسليقة.
- الدبكات الشعبية والعروض الفلكلورية لمخـتلف ألوان الطيف الاجتماعي.
- معـارض الكـتب والزهـور التي كانت تقام في حديقة الشهداء وجامعة الموصل.
- حفلة التربية، حيث كان لتربية نينوى حضورا فاعلا في مهرجان الربيع منذ تأسيسه. واستطاع النشاط المدرسي من استقطاب الأنظار من خلال العروض الفولكلورية الغنائية الجميلة والتي كان يقدمها طلبة وطالبات المدارس.
- حفلة غنائية في مدينة الحضر الأثرية.
https://www.youtube.com/watch?v=F_2Ga-BZrQM&t=52s