ليلة العيد
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
ليلة العيد
العيد هو اسم لكل ما يُعتاد ويعود، وسُمي بهذا الاسم لأنه يعود كل سنة بِفَرَحٍ مُجَدَّد. ولفظة "عيد" لا تُطلق إلا مع الفرح السرور، ومنه قوله تعالى على لسان المسيح عيسى (ع): (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 114)، ومن الواضح أن السيد المسيح قصد بذلك اجتماع على السرور.
والأعياد شعارات توجد لدى كل الأمم، وذلك لأن إقامة الأعياد ترتبط بغريزة وجبلّة طُبع الناس عليها؛ فكل الناس يحبون أن تكون لهم مناسبات يحتفلون فيها ويتجمّعون ويُظهرون الفرح والسرور.
العيد في الإسلام؛ على رأي الشيخ الحنفي؛ يُعد وعاءاً للأعمال الطيبة ومكارم الأخلاق، إذ يصل الإنسان رحمه ويُذهب البغضاء. ويحتفل المسلمون كافة بأعيادهم بإقامة العديد من الفعاليات والمباهج الشعبية.
تتميز أعياد المسلمين بأنها قُربة وطاعة لله تعالى بعد إتمام عبادة. وفي الإسلام عيدان: عيد الفطر بإتمام عبادة الصيام في شهر رمضان، وعيد الأضحى وهو أحد أيام الحج في العاشر من شهر ذي الحجة.
فالصائم بعد الجهد في الطاعة والعبادة ينتظر جني ثمار ذلك، فاجتمع بهذا المعنى للعيد المفهوم العُرفي والأمر العبادي الذي لم يكن منفصلا عن مفهوم الناس لمعنى العيد، وهذا المعنى في السبق والاجتهاد لنيل ثماره وقطفها.
وتتسم الأعياد بإظهار الفرح والسرور على نعمة العيدين، حيث يتحقق في العيد البُعد الروحي والشمولية للدين الحنيف ما يجعل الناس جميعًا يشاركون في تحقيق هذه المعاني واستشعار آثارها المباركة. فالعيد في الإسلام واقع متجدد على مدى الحياة.
وفي العيد تتجلى الكثير من معاني الإسلام الاجتماعية والإنسانية، وتتقارب القلوب على الود، وتتقوى الروابط الفكرية والروحية والاجتماعية في المجتمع. وقد رخص النبي محمد (ﷺ) للمسلمين في هذا اليوم إظهار السرور وتأكيده، بالغناء والضرب بالدف واللعب واللهو المباح.
وداع رمضان والتهيئة للعيد:
من السياقات التي كانت موجودة في الزمن الماضي في العراق أن الناس كانت في الجمعة الأخيرة من رمضان تبدأ بمراسيم وداع رمضان، حيث يقوم مؤذن الجامع ومعه بعض الشباب بالدوران في حوض المنارة وهم يرددون: (الوداع . . الوداع يا رمضان.. الوداع . . الوداع يا شهر الطاعة والغفران).
وفي نهاية شهر رمضان كان بعض من ثقات المصلين يخرجون إلى أطراف المدن ويقومون بمراقبة ظهور قمر شوال، وحال الإعلان عن نهاية رمضان، ينطلق (مدفع الإفطار) (طوب العيد)، فتنطلق التكبيرات على المنائر ووداع رمضان آملين أن يعود عليهم في العام القادم.
ليلة العيد:
ليلة العيد هي ليلة الجائزة، وتُعد ليلة العيد واحدة من أجمل الليالي، حيث يترقب الجميع قدوم العيد، فتنهمك النساء بتهيئة البيوت وإعدادها لاستقبال ضيوف العيد، كما تنهمك في تهيئة الأطفال وملابسهم للمناسبة السعيدة، كما يستعد الأطفال لاستلام العيديات.
ويبدأ الرجال بالتسوق وشراء متطلبات العيد من چكليت وعصائر وچرزات؛ وكانت محلات هؤلاء الباعة تغص بالزبائن من شدة الازدحام. ويتوجه الشباب والأولاد إلى الحلاقين الذين تبقى محلاتهم مفتوحة إلى الفجر، كما يتوجه الرجال إلى الخياطين لاستلام بدلاتهم وبدلات أولادهم الجديدة منهم. كما يبدأ القصابون بذبح الماشية لتهيئتها للعيد. وتبدأ أسعار بعض المواد المطلوبة بالصعود؛ وقد سألت يوم أمس عن سعر الگيمر فكان 28000 دينار فقط للكيلو الواحد.
كليچة العيد:
الكليچة هي السلام الوطني للأعياد والمناسبات السعيدة في العراق، وهي ليست مقتصرة على المسلمين فقط بل هي عنوان الأعياد لكل ألوان الطيف العراقي الجميل.
والكليچة كعك يُصنع من الدقيق (الطحين) ويُعجن بالزبد أو الدهن أو الزيت ويُحشى بالتمر أو الجوز أو جوز الهند أو السمسم مع الهيل. وفي الاْردن وفلسطين هناك "المقروطة" وفي تونس والجزائر وليبيا تسمى "المقروط" وهي تشبه الكليچة العراقية.
تعدُّ الكليچة ملكة الحلويّات الشعبيّة في العراق، وقد استخدمها العراقيون منذ القِدم. وقد اُستخدمت الكليچة كمادة غذائية سهلة الحفظ، وهي تتحمل الخزن الطويل فضلا عن كونها غذاءا متكاملا، كما اُستخدمت في السفر الطويل (مثل مواسم الحج).
وكلمة "كليچة" أو " كوليچة" (فارسية) ذكرها القزويني (ت 682هـ) بصيغة الجمع (كليچات). كما ذكرها ابن بطوطة (ت 779 هـ) في رحلته أثناء زيارته للعراق خلال حكم أبو سعيد آخر حكام المغول. وقد ذكر في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) الآتي: "ولأهل العراق حلوى لطيفة يصنعونها من العجين و يحشونها جوزا وتمرا ويسمونها الكوليچة....".
في الزمن الجميل كانت أمهاتنا وجداتنا رحمهن الله يبدئن ملحمة صنع الكليچة منذ منتصف الليلة التي تسبق ليلة العيد، فيتم إعداد الطحين وعجنه بالدهن السمن وتخميره حتى وقت السحور. ثم يقوم كل أفراد العائلة بالمشارة في عمل الكليچة من تقطيع وحشو و گذل ونقش. وعند الصباح إما تقوم ربة البيت بعملية خبز الكليچة بالبيض في التنّور في ملحمة كبرى لغاية العصر، أو يتم إرسال صواني الكليچة إلى الأفران الحجرية التي كانت تزدحم كثيرا في مثل هذه الأيام.
وكانت النساء تتبارى كل واحدة منهن بالكليچة التي تصنعها من باب المحبة وتبيان شطارتها وعدالتها، فيقومون بإهداء الكليچة إلى الجيران؛ ويسمى هذا "سباق الكليچة"، كما يتم تقديم الكليچة لضيوف العيد.
لقد مرَّ العراق عبر تاريخه بمحن متتالية، وبحيث لا يكاد يخرج من محنة حتى يدخل الأخرى، ومع هذا بقيت الكليچة محافظة على موقعها ومكانتها في البيت العراقي، ولم تتخلى عنها العائلة العراقية في أحلك الظروف. وأذكر أيام الحصار الظالم على العراق والحروب لم يتخلى العراقيون عن الكليچة وكانوا يخبزونها على الصوبات النفطية أو باستخدام الصاج.
كما لم تتخلى العوائل العراقية في الخارج عن الكليچة، وقد ذكرتْ لي مرة إحدى الأخوات العراقيات في إنكلترا: "الكليچة هي زي العيد.. والعيد اللي بلا كليچة ما عليه زي عيد".
ليلة العيد في الفن:
لخصوصية ليلة العيد هناك عدد من الأعمال الفنية المميزة عن ليلة العيد. فهناك فيلم مصري عنوانه "ليلة العيد"؛ وهو من إنتاج عام 1949، بطولة شادية وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو، إخراج حلمي رفلة.
وفي الغناء غنت أم كلثوم واحدة من روائعها، وهي أغنية (يا ليلة العيد) والتي غنتها في فلم (دنانير) سنة 1939، وهي من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي. ثم غنت أم كلثوم هذه الأغنية في 17 سبتمبر 1944 أمام الملك فاروق الأول في حفلة النادي الأهلي، فأنعم عليها الملك بوسام الكمال ليصبح لقبها "صاحبة العصمة".
وعلى الرغم من مرور 85 عاما على أغنية (يا ليلة العيد)، وطرح أغاني أخرى تُعبِّر عن فرحة العيد، إلا أن (يا ليلة العيد) تُعد الأغنية الرسمية لعيدي الفطر والأضحى، ولا يمر عيد إلا ويعاد سماعها.
ولأغنية (يا ليلة العيد) قصة لطيفة تعود إلى العام 1937 عندما سمعت أم كلثوم أحد البائعين أمام مبنى الإذاعة وهو يروج لبضاعته قائلا: (يا ليلة العيد آنستينا)، لتنال هذه المقولة إعجاب (كوكب الشرق)، وتقرر الاستفادة منها في إحدى الأغنيات.
وعندما دخلت إلى مبنى الإذاعة وجدت في وجهها الشيخ زكريا أحمد والشاعر بيرم التونسي، فطلبت من بيرم التونسي أن يكتب جمل شِعرية عن المقولة (يا ليلة العيد آنستينا).
لقد أصابت بيرم التونسي وعكة صحية جعلته يغادر مبنى الإذاعة دون أن يكتب الأغنية، ولكن لوعة أم كلثوم بالمقولة جعلتها تسحب الأغنية من بيرم التونسي وتُكلف بها أحمد رامي ليبدأ بالكتابة ورياض السنباطي ليقوم بتلحينها.
يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا
هلالك هل لعينينا فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا على قدومك يا ليلة العيد
اللهم بارك لنا في أعيادنا واجعلها أعياد فرح ومسرات، وكل عيد وأنتم بخير.
https://www.youtube.com/watch?v=xLbhScaqyZ4