هل الحاكم العربي مريض عقليا؟
هيفاء زنكنة
هل الحاكم العربي مريض عقليا؟
هل يصلح الاقتتال الدموي في السودان، اليوم، كنموذج، لفهم التحولات العقلية والنفسية التي يمر بها الساسة والحكام بعد استلامهم السلطة واستعدادهم للتضحية بحياة الناس ثمنا لتشبثهم بها؟
ما هو سبب التحولات التي نشهدها في معظم حكامنا، حتى المُنتخبين منهم، من دعاة تغيير وإصلاح إلى عكس ذلك بشكل جذري، حالما يستحوذون على السلطة، بحيث لا يعود بالإمكان التعرف عليهم، ويبدون كأنهم يقطنون عوالم أخرى بعيدة عن الواقع وعن الشعب الذي يدُعون تمثيله؟ هل صحيح إن تغير طبيعة الحاكم مردها كثرة الضغوط المعادية من الداخل والخارج؟
تشير عديد البحوث العلمية، خاصة في العقدين الأخيرين، إلى أن هناك عاملا أساسيا للتغير غالبا ما لا نتطرق عليه أثناء التحليل السياسي وهو التغير الفعلي، عقليا، لممارسة السلطة والتي يمكن أن تشوه التفكير وتخلق تغييرات شخصية في القادة تؤثر على صنع القرار. فهل الاستحواذ على السلطة إدمان كما هو الإدمان على المخدرات؟ وأن رفض القائدين السودانيين الإصغاء لدعوات وقف الاقتتال وصيانة حياة المواطنين، يعني رفض التخلي عن المُخدر؟
لا يقتصر الحال على السودان فقط. هناك أمثلة كثيرة، في بلداننا العربية، وعدد من الغربية، لحكام تبدو عليهم أعراض تدهور سلوكي تثير الحيرة حالما يستحوذون على السلطة. فمن كان إنسانا حريصا، في خطابه، على رفاهية شعبه والدعوة الى تطبيق القوانين، وتنظيف البلد من مضطهدي الشعب وسارقي أمواله، سرعان ما يتحول إلى دكتاتور صغير لا يستمع لغير نفسه ولمن يردد له ما يريد سماعه. وغالبا ما يُنظر إلى التغير من منظور البحوث الاجتماعية والتنافس السياسي والدفاع عن الهوية القومية والدينية بدون الرجوع إلى البحث العلمي. فما الذي تخبرنا إياه الدراسات العلمية عن سبب التغير، بين ما قبل استلام السلطة وما بعدها؟
تبين لنا مراجعة البحوث العلمية في مجالي دراسة الجهاز العصبي والنفسي، أن هناك تفسيرين. فمن ناحية التغيرات في الجهاز العصبي، يعزو نايف الروضان، العالم المتخصص بالجهاز العصبي والأستاذ بجامعة أوكسفورد، السبب إلى ما تحدثه السلطة من تغير كيميائي عصبي في الدماغ يزيد من إفراز مادة الدوبامين التي تؤثر على مناطق معينة في الدماغ فتتحكم بمشاعر السرور والتحفيز والمكافأة، وترتبط المستويات العالية من الدوبامين بالشعور بالقدرة الشخصية، والمخاطرة، والانشغال بالكون أو الدين، والانفصال العاطفي الذي يمكن أن يؤدي إلى القسوة، والهوس بتحقيق الأهداف والفتوحات. السلطة، إذن، تنشط أنظمة المكافأة العصبية في الدماغ، وبالتالي تسبب الإدمان. فمن المحتمل أن يفتقر الأشخاص الذين يشغلون مناصب ذات سلطة، غير مقيدة، إلى الوعي الذاتي المطلوب للتصرف بضبط النفس أو السعي للحصول على شكل توافقي حول اتخاذ القرار. لذلك من المرجح أن يظهر الديكتاتور في المواقف التي لا توجد فيها الضوابط والتوازنات. فتُصبح الوحشية وعدم الاحترام لمواطني الدول التي يحكمها زعماء يتمتعون بسلطة مطلقة هي القاعدة.
ويستطرد الروضان بتقديم نموذجين غربيين وإن كانا ينطبقان، أيضا، على حكامنا وساستنا في البلاد العربية. قائلا يمكن للسلطة المطلقة أيضًا أن تقود إلى الاعتقاد بأن القوة الروحية توجههم حتى داخل الديمقراطيات الراسخة. كما تحدث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الناس قائلا إن الله تعالى أراده أن يشن حربًا على العراق لمحاربة الشر، وهو ذات الخطاب الذي تبناه حليفه في حرب العراق، رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. ويخلص الروضان إلى أن اليقين الذي يمتلكه مثل هؤلاء القادة هو من أعراض إفراز مستويات عالية للغاية من الدوبامين إلى حد الإصابة بجنون العظمة، نتيجة لخداع الذات في مواجهة النصائح المتضاربة من المُقرّبين.
أما التفسير الثاني، فقد تناوله فاروق أدامو كبروجي، البروفسور النيجيري الأمريكي، في بحثه المعنون « لماذا تُدمر السلطة السياسية الدماغ « الذي يركز فيه، كمثال، على تحول الرئيس النيجيري بوهاري من إنسان يتحدث باسم الفقراء والمهمشين داعيا إلى القضاء على الفساد إلى دكتاتور يمارس ما كان يحث الشعب على الثورة ضده. كما يتناول، من باب المقارنة، تغير سلوك المسؤولين المتعجرفين حالما يتم إبعادهم عن مراكز السلطة لسبب ما. فيعودون فجأة إلى طبيعتهم الأولى. يشاركون الشعب آلامه ويدينون إساءة استخدام السلطة. وهو ما نراه بوضوح مذهل في عراق اليوم، بين ساسة الأحزاب المتنافسة على السلطة والمسؤولين الحكوميين، الذين يصبحون حالما يتم طردهم من مناصبهم، أنقياء يدينون الفساد ويُبشرون بالتقوى.
يتبنى كبروجي دراسة داتشر كيلتنر، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، التي أجراها على أدمغة أشخاص في السلطة، فوجد أن الأشخاص الواقعين تحت تأثير السلطة يشبهون من الناحية العصبية الأشخاص الذين يعانون من إصابات أو رضات دماغية. حيث أن المصابين بالرضة الدماغية هم «أكثر اندفاعًا وأقل وعيًا بالمخاطر، والأهم من ذلك أنهم أقل مهارة في رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخرين، أي أن السلطة تسبب فقدان القدرة على التعاطف مع الآخرين».
وكان لورد ديفيد أوين، الطبيب المتخصص بالجهاز العصبي والسياسي البريطاني المخضرم، قد كرس كتابه «في المرض وفي السلطة» لبحث أمراض رؤساء الحكومات والشركات والقادة العسكريين من 1901 إلى 2007. آخذا بنظر الاعتبار كيفية تأثير المرض والعلاج – الجسدي والعقلي – على صنع القرار من قبل رؤساء الحكومات، مما يؤدي إلى الحماقة أو الغباء أو التسرع. إهتم أوين بشكل خاص بالقادة الذين لم يكونوا مرضى بالمعنى التقليدي، والذين كانت قدراتهم المعرفية تعمل بشكل جيد، ولكنهم طوروا «متلازمة الغطرسة» التي أثرت بقوة على أدائهم وأفعالهم. حيث يعانون من فقدان القدرة على التعاطف ويصبحون مفرطين في الثقة بالنفس ويحتقرون النصائح التي تتعارض مع ما يؤمنون به، أو في بعض الأحيان لأي نصيحة على الإطلاق.
ويأخذنا نايف الروضان إلى نمط مرضي يعاني منه معظم الحكام العرب الملتصقين بالكراسي، ويؤكده الاقتتال الحالي بالسودان، ويعيشه المواطن، وهو «أن الانسحاب المفاجئ للسلطة، مثل الانسحاب المفاجئ من المخدرات، ينتج عنه رغبة ملحة لا يمكن السيطرة عليها، فإن أولئك الذين يمتلكون السلطة، وخاصة السلطة المطلقة، من غير المرجح أن يتخلوا عنها عن طيب خاطر، بسلاسة ودون خسارة بشرية ومادية».