قصة قصيرة - جريمة في شارع ٥٢ / الجزء الاول
بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة - جريمة في شارع ٥٢ / الجزء الاول
جلس داود استاذ الرياضيات بشقته في الطابق الثاني من العمارة السكنية الصغيرة الكائنة بالقرب من ساحة ميسلون في بغداد وراح يترشف الشاي المتبقي من الابريق بعد ان غادر ضيفاه اياد ونزار الذين ملأتهما فرحة وامل كبيرين حين اقترح عليهما الحل الانسب لمشكلتهما العالقة منذ امد طويل فوعداه بتطبيق كل ما تقدم به من نصح ومشورة. كان ذلك اليوم طويلاً ومتعباً للغاية على الاستاذ داود لما مر به من احداث ومجريات كثيرة ومتسارعة اولها حادث السير الذي وقع امام عينيه فور خروجه من الجامع بعد صلاة الفجر، وكيف تصرف بتلقائية وسرعة بديهة مذهلة ليقوم بنقل المصاب الى المشفى بسيارته الفوكسواگن (الرگة). فيودعه بايدي الطاقم الطبي الامينة حين اكد له الدكتور ان الاصابة ليست خطيرة فهو يعاني من كسر ضلعين وارتجاج بالدماغ وبعض الجروح الطفيفة بساقه اليمنى وانه سوف يتعافى منها بوقت قصير بالنظر لصغر سنه. ذهب بعدها الى احدى گراجات الغسل والتشحيم ببغداد الجديدة فقاموا بتنظيف الدم الذي غمر المقعد الخلفي لسيارته من تأثير نزف المصاب عليه. وبعد عودته الى منزله وقف طويلاً تحت الدوش ليزيل عنه الدم الذي لوث ثيابه وغطى كامل جسده. وما ان جلس ليريح بدنه حتى سمع جرس الباب فوجد صديقيه اياد ونزار واقفين امامه يطلبان مساعدته. والآن وبعد ان خرجا من بيته صار يتلذذ بطعم الشاي الذي اختمر كثيراً واصبح داكناً كالقير. وقتها شعر ان جسده اصبح ثقيلاً ولم يعد قادراً على فتح جفنيه من شدة الوهن بذلك اليوم المليء بالاحداث فاصبح لزاماً عليه ان يرتاح قليلاً والا فانه سيصاب بالاغماء. فور دخوله سريره الوثير، اصابته حالة اشبه بمن يتلقى حقنة البنج العمومي لينام نوماً عميقاً. وفي المنام رأى نفسه يسير في حديقة غناء تطغي عليها الوان الازهار الوردية الجميلة. واينما حطت قدماه تشع منها اضواء مختلفة الوانها. كان عبقها يسحره بينما راح يمشي بممراتها الملتوية فتملأ مسامعه زقزقة العصافير وخرير الماء الذي يأتيه من بعيد. سار نحو مصدر الصوت وتتبّعَه طويلاً حتى وصل الى بركة ماء كبيرة يصب فيها شلال ساقط من جبل متوسط الارتفاع فيتلوّن الماء ليشكل قوس قزح ليزيد من جمال السحنة الخلابة. فجأة خرحت له سمكة قرش من قلب الماء فتشير له بزعنفتها كي يقترب. دنا منها فقالت له ان اخاه في خطر كبير وعليه ان يهب لمساعدته. لكنه يعلم يقيناً انه لا يملك إِخوةً فقد نشأ وحيداً لابويه. فكيف تطلب منه تلك السمكة ما طلبت؟ اراد ان يستفسر منها المزيد، لكنها استدارت وغطست بالماء لتختفي من جديد. ناداها من بصوت مرتفع عبثاً لكنها لم ترد عليه بل غطست واستوى الماء من خلفها. فجأة يستيقظ داود من نومه ويتعوذ بالله من الشيطان ثم يتوجه الى الحمام ليتوضأ استعداداً لصلاة العصر بعدها ينوي تلبية موعده مع تلميذه احمد الذي وعده بدرس خصوصي. وبينما هو يغير ملابسه وقبل ان ينتهي من ارتداء ملابسه سمع رنين الجرس. لذا رمى معطف الحمام الابيض فوق كتفه وذهب ليفتح الباب. واذا بشرطيين يقفان امامه. ابتسم بوجهيهما وقال،
داود : تفضلا اخواني، كيف استطيع خدمتكما؟
الشرطي: هل انت داود سلمان العاني؟
داود : اجل، انا هو. ما المشكلة؟ هل اتيتم بخصوص الشاب الذي اصيب بحادث الدهس؟
الشرطي: كلا، جئنا لنأخذك معنا.
داود : لماذا؟
الشرطي : سوف تعرف كل شيء بالمركز.
داود : الا سمحتم لي بارتداء ملابسي اولاً؟
الشرطي: حسناً ولكن اسرع رجاءاً.
دخل داود غرفة نومه وابقى على باب الشقة مفتوحاً من باب الاحترام لرجلي الشرطة وسارع بارتداء ملابسه ثم عاد اليهما وقال، "هيا تفضلا، انا جاهز". ركب معهما السيارة فاخذاه الى مركز شرطة الكرادة. هناك أدخل مكتب آمر المركز فطلبا منه الجلوس على الاريكة بينما ظلا يمسكان به من الجانبين. وبعد انتظار دام اكثر من نصف ساعة دخل ضابط برتبة عقيد وبصحبته شرطي متأبطاً كرّاسة كبيرة. استقر العقيد خلف منضدته والتقط علبة الدخان ليخرج منها لفافة يضعها بفمه ولا يشعل النار فيها. يستنشق منها نفساً عميقاً، يشير بكلتا يديه للشرطيين بالابتعاد عن داود فيخرجا من مكتبه ثم ينظر بوجه داود ويسأله،
العقيد : اسمك الكامل؟
داود : داود سلمان عبد المجيد العاني.
التفت الضابط الى الشرطي الذي يجلس إلى يمينه يدون المحضر وسأله،
العقيد : هل سجلت ذلك يا ابني؟
الشرطي : اجل سيدي.
العقيد : السن والمهنة والحالة الاجتماعية؟
داود : العمر 38 سنة، مدرس رياضيات باعدادية الشرقية في الكرادة، ارمل.
العقيد : هل لديك سيارة؟ وما هي مواصفاتها؟
داود : اجل لدي، انها من نوع الفوكسواگن بيتل عمرها يناهز العشر سنوات.
العقيد : ما لونها؟
داود : ابيض.
العقيد : ما هو رقم لوحتها؟
داود : 3002 ب بغداد خصوصي
العقيد : اين كنت فجر اليوم؟
داود : بالجامع.
العقيد : هل انت متأكد؟
داود : اجل متأكد فانا دائماً أصلي صلاة الفجر هناك الا اذا طرأ طارئ منعني من اداء الصلاة.
العقيد : اين كنت في تمام الساعة الواحدة ظهراً؟
داود : كنت... كنت... اجل كنت في بيتي عندما جاء بعض الاصدقاء لزيارتي.
العقيد : لماذا تكذب يا داود؟ انت لم تكن بالبيت. هل سيعزز اصدقائك هذا الكلام؟
داود : بالتأكيد. بامكانك ان تسألهما.
العقيد : لدينا بلاغ من گراج في بغداد الجديدة يشير الى انك ذهبت اليوم بوقت الظهيرة لازالة آثار جريمة قتل وتنظيف الدم من على الكرسي الخلفي. ما قولك بذلك؟
داود : اجل، هذا صحيح كنت بالگراج ثم بعد ذلك رجعت الى بيتي ليزورني اثنان من اصدقائي. اما الدم الذي على المقعد الخلفي من سيارتي فكان بسبب الحادث.
العقيد : اي حادث هذا؟ اخبرني عنه بالتفصيل.
داود : خرجت من الجامع الساعة السادسة والنصف على ما اعتقد وما ان لبست حذائي سمعت صوت مكابح مركبة وصوت اصطدام مدوي. ركضت مع الكثير من المصلين الى مكان الحادث فوجدنا شاباً لا يزيد عمره عن 18 او 19 سنة مستلقياً على الارض ودراجته النارية المحطمة ملقية بقربه. صدمته سيارة شحن كبيرة ادت الى فقدانه الوعي. كان المسكين ينزف بغزارة شكلت بركة من الدم الى جانبه. في البداية اعتقدنا انه مات على اثر الصدمة لكننا لما فحصنا نبضه علمنا انه ما زال على قيد الحياة. طلبنا من الموجودين ان يتصلوا بالاسعاف الا أن احداً لم يستجيب وتسمروا باماكنهم من هول المنظر. ركضت انا الى سيارتي لاحضرها بهدف نقله للمشفى. ساعدني بعض الاخوان في وضع المسكين على المقعد الخلفي من سيارتي واخذته الى مشفى ابن سينا. ولحسن الحظ فإن الاطباء هناك اكدوا لي انه في حالة مستقرة ولا خوف عليه لذا تركته هناك ورجعت ادراجي.
العقيد : وما اسم ذلك المصاب؟
داود : لا احد يعلم لانه لم يكن يحمل معه اي مستمسكات تثبت هويته. كان فاقداً للوعي عندما نقلته للمشفى لذلك لم يتم التعرف عليه.
العقيد : لكنك لم ترجع مباشرة الى بيتك، اليس كذلك؟
داود : لا طبعاً، ذهبت الى گراج في بغداد الجديدة كما اخبرتك كي يشرعوا بتنظيف المقعد الخلفي وازالة بقع الدم التي نزف عليها المصاب.
العقيد : والآن اخبرني، اين كنت قبل اربعة ايام في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر؟
داود : الثالثة، الثالثة، الثالثة، اجل كنت في بيتي فانا عادة اخذ قيلولتي عندما لا يكون لدي دروس خصوصية.
العقيد : لدي تقرير هنا يقول ان سيارتك شوهدت واقفة قبل اربعة ايام امام منزل رقم 17/3/240 بشارع 52 في الوقت الذي تقول فيه انك كنت نائماً ببيتك. فما قولك بذلك؟
داود : قد تكون سيارة شبيهة بسيارتي فهذا النوع مرغوب جداً ببغداد خصوصاً اللون الابيض.
العقيد : ولكن ليس كلها تحمل الرقم 3002 ب بغداد خصوصي.
داود : بلا شك.
العقيد : السيارة كانت سيارتك لانها تحمل نفس الرقم فكيف تفسر ذلك؟
داود : هذا لا يمكن ابداً. فانا اوقف سيارتي امام العمارة التي اسكن فيها وكل سكان العمارة لا يتجاوزون على مكاني لانهم يحترمونني لكوني قمت بتدريس اولادهم مجاناً على فترات متفاوتة، لذلك هم يتركون نفس البقعة فارغة كي لا اصاب بالانزعاج عندما ارجع الى بيتي. بامكانك ان تسألهم.
العقيد : سيُسألون فيما بعد لكنك تطعن في البلاغ الذي يقول ان سيارتك كانت واقفة قبل اربعة ايام امام منزل رقم 17/3/240 بشارع 52.
داود : اجل اطعن به وبشدة.
العقيد : دعني اسألك الآن سؤالاً آخر عليك ان تجيب عليه بكل تأني وحذر: هل تعرف سيدة تدعى فاطمة سعيد الهلالي؟
داود : لا، لا اذكر ان اسماً مثل هذا قد مر علي يا حضرة الضابط.
العقيد : هل انت متأكد؟ فكر ملياً ولا تستعجل بالاجابة.
داود : انتظر لحظة... اعتقد انني تذكرت الآن. لقد قمت بتدريس ابن اختها في العام الماضي. اجل انت على حق، انها تسكن في شارع متفرع من شارع 52 كما اسلفت لكنني غير متأكد من رقم الدار.
العقيد : ومتى رأيتها آخر مرة؟
داود : لا اعلم بالتحديد، ربما قبل سنة او اكثر بقليل.
العقيد : داود سلمان عبد المجيد العاني انت متهم بقتل السيدة فاطمة سعيد الهلالي وسرقة جميع مجوهراتها واموالها التي كانت في خزانة ملابسها والكثير من التحفيات الاخرى من داخل بيتها. لذا سوف نتحفظ عليك بالتوقيف خلال فترة التحقيق.
داود : لكنني بريئ من تلك التهمة سيدي. كيف تتهمونني بذنب لم اقترفه؟ ولماذا لا تعرّفوني بالشاهد الذي شهد زوراً وقال انه رآني امام منزل المجني عليها؟
العقيد : سوف تتعرف عليه بالوقت المناسب. والآن تعال يا مرتضى وخذ المتهم الى الزنزانة.
دخل العنصر مرتضى مكتب الضابط ووضع الاصفاد على معصمي داود ثم اقتاده الى خارج مكتب الضابط.
سارا سوية في ممر طويل وسط حشد كبير من الناس المتجمهرين من المشتكي والمشتكى عليه والمعتدي والمعتدى عليه حتى وصلا الى سلم اخذهم للطابق السفلي ثم ممر طويل آخر يمر بين زنازين ملئى بالمتهمين الذين وقف بعضهم يصرخ من خلف قضبانها والبعض يمد ايديه من خلالها يطلب النجدة والعون. كان داود ينظر اليهم اثناء سيره البطيئ مع سجانه. كان متأكداً من انه سيخرج في غضون ساعات كونه لم يرتكب تلك الجريمة البشعة التي نُسِبَتْ اليه. دس مرتضى مفتاحاً طويلاً في ثقب باب احدى الزنازين وفتحه ثم التفت الى داود وراح يفك قيوده ليودعه الزنزانة ويحكم الباب خلفه. دخل داود الزنزانة فوجد خيال ثلاثة رجال جالسين على الارض. لكن الانارة كانت ضعيفة ولم يتمكن من التعرف على وجوههم، خصوصاً وان النهار بدأ ينفذ والضوء الآتي من الفتحة العلوية للزنزانة بات بالكاد يلقي بنوره على المكان. القى داود التحية على الموجودين فردوا عليه جميعاً. اختار داود زاوية خالية وجد فيها مخدة صغيرة بالية ملقية على الارض. وقف الى جانبها وادى صلاة العصر ثم جلس على المخدة وارجع ظهره الى الخلف كي يسنده على الحائط لان ظهره بدأ يئن عليه من شدة الالم. نظر اليه الرجل الجالس الى جانبه وقال،
- كيف حالك يا استاذ داود؟
داود : اوتعرفني يا اخي؟
- اجل انا جرجيس بطرس مدرس الفيزياء باعدادية تموز مدرستك التي كنت تعمل بها سابقاً هل تتذكرني؟
داود : يا الهي، كيف عرفتني وانا لم اتعرف عليك يا استاذ جرجيس؟ سامحني يا اخي.
جرجيس : لا عليك فانت دخلت من مكان مضيء الى مكان معتم هنا بالزنزانة ولم تتوسع حدقة عينك على عتمة الزنزانة بعد.
داود : اجل انت محق. كذلك تستطيع ان تعزيه لحالتي النفسية فانا متهم بجريمة قتل لم يكن لي فيها ناقة ولا جمل.
جرجيس : لماذا اتوا بك الى هنا إذاً؟
داود : لا ادري. انا لا اريد ان اضيع وقتك بسرد قصتي المملة.
جرجيس : وما الذي ينتظرنا هنا باعتقادك؟ أهيَ محاضرة المراجعة للسادس علمي مثلاً؟
قهقه داود واستعدل من مجلسه فقد بدأ يشعر بالارتياح لان هناك من يشاطره مصيبته. نظر اليه بعد ان صارت ملامحه تتوضح شيئاً فشيئاً قال،
داود : هل اتهمتَ ضلماً مثلي؟
جرجيس : كلا، انت متهم بعمل لم تقترفه يداك. اما انا فقد ثبتت علي التهمة بالجرم المشهود.
داود : يا ساتر يا ربي، ماذا فعلت يا استاذ جرجيس؟
جرجيس : اتعرف الاستاذ عبد الودود؟
داود : اليس هو استاذ التربية الدينية باعدادية تموز؟ اجل اعرفه لكنني لم يسبق ان تحدثت معه لانه رجل انطوائي منغلق على نفسه بعض الشيء. ما الذي جرى؟
جرجيس : كان هذا الانسان يكرهني منذ اللحظة الاولى التي بدأ العمل فيها بالمدرسة. كان يترك مجلسه كلما دخلت انا غرفة الاساتذة وكأنني مصاب بداء الكلب. لكنني لم اكن اعير لتلك التصرفات اهمية كبيرة فنحن المسيحيون اقلية في هذا البلد وعلينا ان نحترم مكانتنا ونطأطئ رؤوسنا كي نسلم من الاذى. ولكونه استاذ تربية اسلامية فلربما كان متأثراً بمادته التي صارت تتحكم بتصرفاته بشكل كبير حتى تحولت معه الى هوس. لذلك كنت اتجنبه وابتعد عنه كلما التقينا في ممر او غرفة او حتى لدى مكتب المدير.
داود : هذا افضل تصرف تقوم به مع اناس متخلفين من هذا النوع فالمثل يقول "الباب اليجيك منه ريح، سدة واستريح".
جرجيس : اجل كلام سليم ولكن هذا الاستاذ تمادى في تلميحاته وكلامه الجارح حتى وصل به الحال انه صار يقذفني بالقاب مهينة كلما التقى بي. فتارة يقول، "ها قد جاء الكفار ليدنسوا مجلسنا" او يقول، "لماذا علينا ان نتحمل كل هؤلاء الملحدين بيننا" او فقط يتعوذ من الشيطان الرجيم ويدير وجهه بعيداً.
داود : هذا شيء مؤلم حقاً ولا يليق بانسان مؤمن متعلم. فديننا يتسم بالتسامح والتعايش وبث الالفة والمحبة مع الاديان والطوائف الاخرى. يبدو انه انسان متخلف وغير متحضر. ولكن كيف اتهمت إذاً؟
جرجيس : بعد مرور اكثر من سنة على عمله بالمدرسة وبعد رحيلك انت منها. جائت ابنتي الشابة سارة باحدى الايام لزيارتي، كان ذلك كما تعلم امراً اعتيادياً يمارسه اغلب الاساتذة. فهم يستقبلون الزوار من قبل اصدقائهم واقاربهم وافراد عوائلهم في اوقات الفراغ. وفور دخول سارة غرفة المدرسين حيت الجميع بادب وتقربت مني وقبلتني من وجنتي. الا ان عبد الودود قال كلمة قبيحة وجارحة بحق ابنتي كانت هي الابرة التي قصمت ظهر البعير. اتعرف ماذا قال؟
داود : ماذا قال؟
جرجيس : قال، لم يكتفي هذا الكافر بتلويث اجوائنا بحضوره النتن. اليوم صار يجلب عاهراته الى غرفة المدرسين ليواقعهن امامنا.
داود : يا الهي ما اوقحه. وكيف تصرفت؟
جرجيس : وكيف تخالني اتصرف؟ قمت من مكاني وصفعته صفعة قوية كادت تخلع رأسه من جسده. تخيلت اننا سنشتبك بمعركة بالايدي لكن الجبان لم يرفع يده عليّ ابداً. صرخت بوجهه وقلت له ان تلك الفتاة هي ابنتي ولا يحق له ان يتعرض لها بكلام جارح. ثم تركته ورجعت لاجلس مكاني.
داود : وماذا حصل بعد ذلك؟
جرجيس : انتصب من مقعده ببطئ شديد ليرفع الكرسي الذي كان جالساً عليه للاعلى ورماه على ابنتي فسقط على رأسها وصار الدم يسيل من انفها وجبينها. لم اتحمل رؤية ذلك المنظر فهجمت عليه ثانية وطرحته ارضاً ورحت الكمه مراراً وتكراراً حتى كاد يموت بين يدي. هرع المدرسين الينا ليفرقوا بيننا وصاروا يهدؤون من روعي حتى دخلت الشرطة واتوا بي الى هنا قبل ستة ايام.
داود : يا الهي، لا اعلم ماذا اقول! انه شيء لا يصدق. ولكن حسب علمي فالموضوع قد ينتهي باخذ شهادات الاساتذة الحاضرين بالغرفة فيتبين لهم انه هو المعتدي لانه قذفك بكلام جارح ورمى الكرسي على ابنتك.
جرجيس : لا اعلم يا داود، انا خائف جداً. بالامس طلبت ان اتحدث مع سيادة المحقق الملازم اول صفاء لكنه رفض مقابلتي.
داود : الله كريم يا اخي. لا تقلق فمشكلتي اكبر من مشكلتك بكثير.
جرجيس : حدثني عنها يا اخي.
بدأ داود يقص على زميله الاسبق قصته وكامل احداث ذلك اليوم المشؤوم حين نقل مصاب الى المشفى وانتهى بتوجيه تهمة القتل العمد اليه مع سرقة مال سيدة دَرّسَ ابن اختها بالماضي. وعندما فرغ من سرد القصة كان جرجيس يتألم كثيراً لما آلت اليه الامور لدى رفيقه الاسبق فعقّب قائلاً،
جرجيس : انا متأكد من ان الحق سيظهر عاجلاً ام آجلاً. لا تقلق كثيراً يا صديقي فانت انسان مؤمن بالرب وسوف لن يتخلى عنك ابداً.
<<<<<<<<<<
مرت يومان على مكوث داود بالتوقيف، جلس العقيد منتصر خلف منضدته يستل الانفاس من سيجارته دون ان يشعلها فسمع طرقاً على الباب، اذن للطارق فدخل عليه رجل وسيم طويل القامة ملتحي في اوائل عقده الخامس يرتدي بدلة مدنية حيا العقيد بالتحية الرسمية وقال،
الرجل : انا اسمي العقيد ماهر محمد الغول محقق من وزارة الداخلية.
العقيد منتصر : اهلاً وسهلاً بك عقيد ماهر تفضل.
المحقق ماهر : جئت اليوم لابدأ التحقيق بقضية جريمة القتل في شارع 52.
العقيد منتصر : اجل وصلني تبليغ من الداخلية عن قدومك تفضل بالجلوس.
جلس المحقق على الكرسي امام العقيد فلاحظ بيده سيجارة غير مشتعلة. اخرج ولاعة من جيبه ودنى بلهيبها منه لكن العقيد رجع برأسه للخلف دون ان يشعل السيجارة قال،
العقيد منتصر : انا احاول ان اترك التدخين منذ اسبوعين واستعمل سيجارة دون ان اشعلها كي تساعدني على الاقلاع.
المحقق ماهر : قرار سليم جداً. انا ايضاً تركت التدخين منذ سنتين لكنني احمل ولاعة كي اشعل بها لمن اجالسه وقت اللزوم.
العقيد منتصر : سامحني على فضولي حضرة المحقق فاسمك غريب نوعاً ما.
المحقق ماهر : اجل هذا صحيح لقبي (الغول) وهو لقب فلسطيني. انا ولدت هنا بالعراق من ابوين فلسطينيين ودرست بالعراق ثم انتهى بي الامر بكلية الشرطة لاصبح ضابط تحقيق. والآن انا احمل الجنسية العراقية.
العقيد منتصر : اتشرف بك اخي ماهر فالفلسطيني هو عراقي قلباً وقالباً بكل المقاييس.
المحقق ماهر : شكراً، ماذا لديكم من ادلة على قضية جريمة القتل؟
العقيد منتصر : المتهم يدعى داود سلمان عبد المجيد العاني، العمر 38 سنة، مدرس رياضيات باعدادية الشرقية، ارمل ويسكن وحيداً بشقة صغيرة ببناية في شارع 52. قمنا بمسح شقته وحصلنا على بعض الادلة. تفضل ملف القضية اقرأه بتروي بينما اطلب لك قدحاً من الشاي.
اخذ المحقق ماهر ملف القضية وراح يقرأه ويقلب صفحاته بتركيز حتى فرغ منه تماماً ثم نظر الى العقيد واخذ رشفة من قدح الشاي حين قال،
المحقق ماهر : ذكرت بالملف ان هناك شاهد عيان على الجريمة اليس كذلك؟
العقيد منتصر : الشيء الوحيد لدينا هو وجود سيارته امام بيت المجني عليها وقت وقوع الجريمة. رآها احد الجيران عند عودته الى منزله وسجل رقم السيارة لانه لم يسبق له ان شاهدها من قبل. وهذا كل ما لدينا من ادلة.
المحقق ماهر : إذاً الادلة ظرفية ولا يمكن الاعتماد عليها في المحكمة.
العقيد منتصر : هناك بعض الادلة الاخرى المسجلة بالتقرير. ولكن هذا هو عملك يا عقيد ماهر.
المحقق ماهر : سابدأ التحقيق الآن ولكن يجب ان اقابل المتهم على انفراد.
العقيد منتصر : بالتأكيد، ساستدعيه فوراً بغرفة الاستجواب واترك لك الفرصة كي تستجوبه كما تشاء.
بعد قليل دخل احد العناصر مكتب العقيد وقال،
العنصر : المتهم داود موجود في غرفة الاستجواب سيدي.
وقف المحقق ماهر وتبع العنصر ليخرجا من مكتب العقيد ودخلا غرفة الاستجواب. وجد هناك المتهم جالساً على كرسي حديدي خلف منضدة حديدية مكبلاً بالاصفاد. جلس المحقق امامه وبدأ حديثه قائلاً،
المحقق ماهر : اسمك الكامل ومهنتك لو سمحت؟
داود : داود سلمان عبد المجيد العاني. مدرس رياضيات باعدادية الشرقية.
المحقق ماهر : متى توفت زوجتك؟
داود : قبل اقل من سنة.
المحقق ماهر : سبب الوفاة؟
داود : سرطان الثدي. قام احد الاطباء بمدينة الطب باستئصال ثدييها فاختفى المرض لسنتين وتعافت تماماً ثم عاد اليها من جديد وقضى عليها.
المحقق ماهر : يقول التقرير ان سيارتك كانت واقفة امام بيت المجني عليها وقت وقوع الجريمة اي قبل ستة ايام فما هي اقوالك؟
داود : انا اخبرت العقيد منتصر انني سبق وان درّست ابن اخت السيدة فاطمة قبل سنة ونصف تقريباً لكنني لم اذهب لذلك البيت بالآونة الاخيرة ابداً، فكيف يشاهدون سيارتي امام بيتها قبل ستة ايام؟
المحقق ماهر : سنتأكد من كل هذه المعطيات وساتحدث مع الشهود فيما بعد ولكن اخبرني، هل حصل بينك وبين المجني عليها اي علاقة عاطفية او جنسية او ما شابه؟
داود : اعوذ بالله ماذا تقول؟ سيدي انا اقدر حرمة البيوت التي ادخلها لغرض العمل وكسب الرزق الحلال. لذلك انا لا اتجاوز حدودي باي شكل من الاشكال.
المحقق ماهر : قلت انك مدرس في اعدادية الشرقية، فلماذا تعطي دروساً خصوصية؟
داود : اخبرتك سيدي ان زوجتي كانت مصابة بالسرطان وذلك يتطلب مصاريف اضافية لعلاجها لذا قمت باعطاء دروس خصوصية لبعض الطلاب كي احاول سد بعض الثغرات التي اثقلت كاهلي.
المحقق ماهر : والآن اخبرني هل تملك سلاحاً؟
داود : كلا، انا ضد العنف عموماً ولا احب الاسلحة.
اخرج المحقق كيساً بلاستيكياً شفافاً يحتوي على مسدس ووضعه امام المتهم قال،
المحقق ماهر : هل تعرف هذا المسدس؟ هل هو لك؟
داود : كلا لم اشاهده بحياتي. هو ليس لي.
المحقق ماهر : لقد عثر عليه بداخل شقتك وعلى سريرك تحت المخدة.
داود : هذا امر مستحيل. فانا لا اضع اي اسلحة تحت مخدتي مخافة ان تثور عليّ سهواً فتصيبني بالاذى.
المحقق ماهر : لقد فُحِصَ هذا المسدس لبصمات الاصابع فلم يُعْثَر على اي بصمات عليه لكننا تأكدنا من انه كان اداة الجريمة لان الرصاصة التي أخرجت من رأس المجني عليها كانت من عيار 38 ملم وقد انطلقت من هذا المسدس. فما هي اقوالك؟
داود : قلت لك سابقاً انني لا احب الاسلحة ولا استعملها وهذا المسدس ليس لي.
المحقق ماهر : هل لديك اعداء يا داود؟
داود : كلا، جميع الذين اتعامل معهم اناس طيبون يحبونني كثيراً. للاجابة على سؤالك، لا ليس لدي اعداء.
المحقق ماهر : إذاً كيف دخل المسدس شقتك ومكث تحت مخدتك؟ اهي معجزة جديدة؟
داود : لا اعلم. ولكن قل لي سيدي: اليس من المعتاد على المجرم ان يتخلص من سلاح الجريمة بعد الانتهاء من اقترافها؟ اليس من الغباء ان اقوم بقتل سيدة درست ابن اختها قبل سنة ونصف ثم اقوم بمسح بصماتي من على السلاح لاضعه تحت مخدتي؟ الا يراودك شك بذلك؟ والآن دعني اسألك سؤالاً آخر سيدي، ماذا لو دخل علي حرامي اثناء نومي بالليل؟ هل ساطلب منه الانتظار قليلاً حتى ارتدي قفازي لتفادى طبع بصمات جديدة على السلاح كي استعمله فادافع به عن نفسي؟ ايعقل ذلك؟
المحقق ماهر : لا، لا يعقل.
داود : إذاً فإن ذلك سيكون هدفك لاثبات من يريد ان يلصق التهمة بي.
المحقق ماهر : هل انت واثق من برائتك يا داود؟
داود : يقول الله في كتابه العزيز: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. اجل انا واثق من برائتي والحمد لله.
المحقق ماهر : ربما سانقلك فيما بعد الى مركز آخر قريب من مكتبي لكن الآن سارجعك الى زنزانتك الحالية وساتابع التحقيق.
دخل العنصر واخذ داود ليرجعه الى زنزانته فاستقبله الاستاذ جرجيس هناك وسأله،
جرجيس : كيف سارت الامور؟
داود : لقد حقق معي ضابط بالشرطة واخبرني انهم عثروا على مسدس في شقتي.
جرجيس : وهل لديك مسدس؟
داود : كلا ابداً.
جرجيس : من اين جاء هذا المسدس إذاً؟
رفع داود كفيه للاعلى واخرج شفته السفلى دلالة على جهله.
<<<<<<<<<<
بعد ذلك التحقيق ركب المحقق ماهر سيارته عائداً الى منزله، وفي الطريق كان يفكر بالقضية التي اوكلت اليه وكيف وُضِعَ السلاح تحت مخدة المتهم وأستعملت سيارته في تنفيذ جريمة القتل. كانت تلك الافكار مثيرة حقاً ومعقدة للغاية. قرر مع نفسه ان يذهب في الغد الى شقة داود اولاً و موقع الجريمة فيما بعد.
في صباح اليوم التالي ادخل المفتاح بباب شقة المتهم داود وفتحه، سار في ممر قصير علقت على جانبيه صحون فخارية نقشت عليها آيات قرآنية. الاولى كتب عليها (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) والثانية (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقف امام الثانية وراح يقرأها ويتأملها بتعمق كبير ثم يردد مع نفسه (وعلى ابصارهم غشاوة)، إذاً هناك حالات معينة يضع الله على ابصار العبد غشاوة. فكيف يفتح الانسان عينيه ليرى بوضوح اكبر؟ سؤال وجيه هممم...
دخل الصالة وراح يتفحص الاثاث والزهور الصناعية المنثورة بكل ركن من اركان الشقة رأى الملصقات على الجدران فوجد الشقة كما لو كانت ضريحاً او مزاراً مقدساً فيه صور امرأة واحدة فقط. لقد كانت في غاية الجمال والاناقة علقت صورها بكل زاوية من زوايا الشقة وعلى كل حائط من الحيطان. اراد ان يعرف شخصيتها الا انه رجح ان تكون زوجته الراحلة. تأكد بعدها عندما رأى احدى صورها وقد لصق على زاويته شريطاً اسود. هذا الرجل مخلص لذكرى زوجته، انه انسان مؤمن متدين فكيف يُتّهَم بسرقة سيدة قام بتدريس قريبها؟ ما الذي يدفعه لقتلها وما الذي ساجده هنا بهذه الشقة التي لم يتمكن فريق البحث الجنائي من العثور عليه يا ترى؟ بقي يتجول بداخل الشقة ويتنقل من غرفة لاخرى فلم يعثر على اي شيء يعطي له دليلاً جديداً يتمسك به. بقي يفتش بالداخل لاكثر من ساعة حتى يئس وتوجه الى الباب الرئيسي ليخرج منه ويحكم اغلاقه. بدأ يدق على ابواب الجيران في العمارة الواحد تلو الآخر ويتحدث اليهم فعلم منهم ان المتهم كان انساناً مستحب لدى الجميع كما أخبره داود اثناء التحقيق. رجع الى سيارته وقادها الى منزل القتيلة. فتح الباب وتجول بالداخل. كان يعلم تماماً ان ابن اختها فراس ما عاد موجوداً في الدار لانه يدرس بجامعة الموصل وقد رحل بعد اقامة مراسيم الفاتحة. تجول في الدار كثيراً وتفحص غرفة النوم التي وقعت فيها الجريمة بشكل مكثف فلاحظ ثقباً بالحائط على ارتفاع متر ونصف تقريباً بالقرب من سقف الغرفة. صعد على احدى الكراسي ودس مفتاح سيارته بالثقب وصار يحركه يمين شمال حتى اخرج رصاصة منه. ابتسم وقال، "كيف تفوتكم هذه الجوهرة الثمينة يا فريق البحث الجنائي؟". فتح الدولاب الذي سرقت منه المجوهرات والاموال فلم يعثر على اي دليل هناك.
خرج ثانية وركب سيارته ليذهب بها الى المدرسة التي كان يعمل بها المتهم. اوقف سيارته بالقرب منها وراح يطرق على البوابة الحديدية طويلاً حتى فتح له الفرّاش فدخل ليتحدث مع المدير. رحب به المدير بمكتبه بحرارة واحضر له قدحاً من الشاي وراح يسأله عن الاستاذ داود لكن كل ما تلقاه من المدير هو المديح والثناء على رجل طيب مستقيم افنى حياته في تعليم طلابه وقدم المساعدة لزملائه الاساتذة في اوقات الشدة. بعدها ترك المدير ودخل على المعاون بمكتبه فوجده جالساً خلف منضدته يصلّح كراسات الطلاب. حياه وجلس يسأله عن الاستاذ داود فلم يختلف رأيه عن رأي سابقه لان جميع من في المدرسة كان يحب ذلك المربي الجليل. خرج وهو يضرب اخماساً باسداس، كيف ساحل تلك المعضلة؟ كيف ساعرف الاجوبة على تسائلاتي؟ هل فشلت في مهمتي يا ترى؟ على العموم، ما زال التحقيق بأوله، يجب عليّ ان اتحلى بالصبر لاعرف مصدر الرصاصة اولاً. رجع الى بيته وفتح الباب فسمع جرس الهاتف يرن بالحاح. ركض نحوه ورفع السماعة قائلاً،
المحقق ماهر : الو، من الطالب؟
منذر : انا منذر يا مهّورة، هل نسيت صوت اخوك؟
المحقق ماهر : حبيبي منذر، وكيف انساك يا عزيزي. انا مشتاق اليك وفي قلبي لوعة.
منذر : انت كذاب ومحتال يا ماهر. لو كنت مشتاق لقمت بزيارتي، فالبصرة لا تبعد سوى 5 ساعات فقط. وهي لا تكلفك كثيراً.
المحقق ماهر : اقسم لك حبيبي اني انوي ان ازورك لكني غارق بعملي ولدي قضية صارت تؤرقني. فانا اجد نفسي ارطم رأسي بحائط كونكريتي كلما حاولت ان اعثر على ثغرات أو ادلة.
منذر : اخبرني عنها علني استطيع مساعدتك. صحيح انني لست محققاً مثلك، لكني ضابط شرطة وتمر علينا الكثير من القضايا المعقدة.
المحقق ماهر : ليست كهذه القضية الفريدة ابداً يا منذر. فالمتهم في جريمة القتل هنا انسان في غاية النبل والاخلاق الحميدة يحبه الغريب والقريب وليس لديه اي اعداء او سوابق. يساعد الجميع ويوده كل معارفه. واليوم هو متهم بقتل امرأة كان قد درس قريبها قبل سنة ونيف.
منذر : وما هو مصدر الاتهام؟
المحقق ماهر : لدينا شاهد رأى سيارة المتهم امام بيت المجني عليها يوم وقوع الجريمة. ولدينا كذلك مسدس نظيف خالي من البصمات عثرنا عليه تحت مخدة المتهم.
منذر : هل تأكدتم من رقم السيارة ولونها ونوعها؟
المحقق ماهر : اجل. انه مطابق 100%
منذر : وماذا عن رقم الشاصي؟
المحقق ماهر : لا طبعاً. كيف يتسنى للشاهد ان يإخذ رقم الشاصي؟ ما بالك يا رجل، هل فقدت عقلك؟
منذر : لا لم افقد عقلي بعد ولكن بمثل هذه الحالات عندما يكون المتهم بعيداً عن الشبهات نبدأ بنبش البير بابرة كما يقول المثل.
المحقق ماهر : وكيف افعل ذلك؟
منذر : هذه مهمتك يا بطل، انت المحقق ولست انا. فانا مجرد ضابط بسيط متواضع.
المحقق ماهر : حسناً ساحاول ان ابحث بالامر وامري الى الله.
منذر : طيب اتمنى لك النجاح بمهمتك. لا تنسى اخوك في البصرة.
المحقق ماهر : وهل يعقل ذلك؟ اعدك انني ساقوم بزيارتك باقرب فرصة ممكنة. وداعاً حبيبي.
منذر : انتظر لحظة يا ماهر...
لكن ماهر اغلق الخط دون ان يستمع للجملة الاخيرة التي قالها اخاه الاكبر منذر. وضع ماهر السماعة وبعد قليل سمع الهاتف يرن من جديد فرفع السماعة ليسمع اخوه يقول،
منذر : آسف يا ماهر، لقد خطرت في بالي فكرة قد تستفيد منها في بحثك بالقضية.
المحقق ماهر : ماهي فكرتك؟ انجدني بها الله يخليك.
منذر : قبل 4 سنوات وقعت جرائم كثيرة هنا بالبصرة شبيهة بقضيتك. نفذتها عصابة اسميناها عصابة الحرباء. فقد كانوا يقلدون ارقام ومظاهر السيارات ويقومون بجرائم كثيرة دوختنا كثيراً وكادت وظائف كثيرة تطير بسببها. حتى بالآخر قامت العصابة بعملية سطو كبيرة لبضائع ثمينة من ميناء البصرة، استعملوا فيها سيارة تويوتا كورونا حمراء. كانت تحمل نفس رقم ومواصفات سيارة اخرى تملكها سيدة متزوجة من رجل اعمال.
المحقق ماهر : وكيف حليت القضية؟
منذر : انا لم احلها بل حلها احد المحققين لدينا في المعقل إذ توصل الى ان تلك العصابة لديها مكبس غير قانوني يقوم بطباعة ارقام السيارات. قلدوا رقم سيارة شبيهة برقم سيارة السيدة وثبتوه على تويوتا كورونا حمراء مسروقة ثم قاموا بعملية السطو كي يبعدوا الشبهات عن انفسهم.
المحقق ماهر : وهل القيتم القبض على تلك العصابة؟
منذر : اجل امسكنا بهم جميعاً وزجيناهم السجن. لكن احدهم هرب من السجن قبل شهرين تقريباً. وانا اشك انه قد انتقل الى بغداد وصار ينفذ عملياته هناك بنفس الطريقة الجهنمية.
المحقق ماهر : وماذا عن مكبس الارقام؟
منذر : كان لديهم اثنان. عثرنا على واحد منها فقط ولم نعثر على الثاني.
المحقق ماهر : من اين حصلوا على هذه المكابس يا ترى؟
منذر : لقد جيئ بها من الكويت بعد غزو الكويت واخفيت بداخل البيوت.
المحقق ماهر : ما هو حجم هذه المكابس؟ اقصد، هل يمكن وضعها بسيارة صالون مثلاً؟
منذر : كلا، لا اعتقد ذلك، فحجمها كبير وتحتاج الى شاحنة.
المحقق ماهر : الديك صورة للمكبس؟
منذر : اجل سابعث لك صورة ملونة ببريد الشرطة الداخلي المستعجل. وصورة للمجرم الهارب المدعو خليل ابراهيم حبيب.
المحقق ماهر : شكراً لك اخي العزيز.
منذر : اريد بالمقابل ان تزورني بعد ان تنتهي من القضية.
المحقق ماهر : هذا وعد مني. قبلاتي للمولود الجديد زكريا.
اغلق الهاتف مع اخيه وابتسم ابتسامة عريضة لانه بدأ يتوصل لادلة قد تكون فاصلة في حل قضيته.
ترى هل سيعثر المحقق ماهر على المجرم الحقيقي؟ هذا ما ستعرفه بالجزء الثاني من هذه القصة.