بعد استمرار ( ٨ ) أعوام و قبلَ ( ٣٥ ) عاماً ... َكانَ خِتامُها مِسكاً
الدكتور رعد البيدر
بعد استمرار ( ٨ ) أعوام وقبلَ ( ٣٥ ) عاماً ... َكانَ خِتامُها مِسكاً
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
-الأنفال - 61
أن اشتداد حرب الناقلات في الخليج العربي قد الحَقَ أضراراً بالدول المُنتجة والمُستهلكة للنفط ؛ مما حَفَّزَ الدول الغربية إلى التنسيق فيما بينها لتوحيد إجراءاتها بِفَرمَلَة و كَبح تسارُع أو استمرار نمطية الحرب العراقية - الايرانية - التي باتَت تسمى بالحرب المَنسيةً عن قصدٍ ، أو عن تجاهل و عدم اكتراث ، وبنتيجة استمرارها أمسَت شظاياها السياسة والقنابل والصواريخ عابرة للبلدان، القارات، البحار، المحيطات ؛ فأصابت البعض، و أخطأت بعض.
تعاقدَت الكويت مع الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي على رفع أعلام الدولتين على ناقلاتها النفطية خلال تنقلها في الخليج العربي لتامين إبحارها دون أعترضها طيران أو بحرية أحد طرفي النزاع ، فترتبَ عليه تَدويل الحرب العراقية - الإيرانية ؛ نتيجة تَضرُر مَصالح الإنتاج والتسويق النفطي للدول المُنتجة والمستهلكة... وعلى أثر إصابـة الفرقاطـة الأمريكية "ستارك" بصاروخ من طائرة عراقية ، وما أعقبها من احتمال تدخل دولي أوسع مما كان قائماً أصلاً – اتفقت الدول الصناعية على عقد قمة في مدينة " البندقية " يوم 8 حزيران / يونيو1987 .
كان المحور الرئيسي في جدول أعمال قمة الدول الصناعية – هو تدارُس مخاطر استمرار حرب الناقلات، والاتفاق على سُبل معالجات تتخطى تأثيرات وعواقب انخفاض معدلات الإمداد النفطي للدول الصناعية. تمخضَ عن القمة بياناً ختامياً أشار إلى ضرورة اعتماد خطوات تفاوض جدية وسريعة المردود؛ لوضع حد يوقف تفاقم الحرب العراقية - الإيرانية، ويضعُ حداً لها – بما يؤمِّن حرية الملاحة الدولية في الخليج العربي دون مخاطر بشرية أو مادية حربية.
رَحَّبَ طرفا النزاع ( العراقي و الإيراني ) ببيان قمة الدول الصناعية ، وطالَّب الرئيس الإيراني أن يُطبَّق مبدأ حرية إبحار جميع ناقلات النفط بما فيها ناقلات النفط الإيرانية ، ووجه مُطالَّبَة أُخرى بأن يلتزم مجلس الأمن بالحيادية التامة في الإجراءات الساعية والكفيلة بإنهاء حرب البلدين.
كثَّفَ الأمين العام للأمم المتحدة مساعيه مع الدول دائمة العضوية لإعداد مشروع قرار يُنهي حالة الحرب بين البلدين؛ فصدَّرَ القرار(598) في 20 تموز/ يوليو 1987، وتضَمَّنَ (10) بنود بصيغة مطالب - لم نُدَوِنُها في المقالة ؛ لكننا ارفقنا الرابط أدناه - مُقتبس من موقع الأمم المتحدة – قرارات مجلس الأمن ... لِمَن يرغب بالاطلاع على مَضمون القرار كاملاً :
https://documents-dds-ny.un.org/doc/RESOLUTION/GEN/NR0/524/44/IMG/NR052444.pdf?OpenElement
رَحَّبَ العراق رسمياً بالقرار وأعلن عن موافقته يوم 22 تموز/ يوليو1987، وأبدى وزير الخارجية العراقي استعداد بلاده للتعاون مع الأمم المتحدة، وربط موافقة العراق النهائية بإعلان موافقة رسمية إيرانية واضحة المضمون والتفسير. إلا أن إيران لم تُعلن عن موقف صريح من خلال مندوبها في الأمم المتحدة - الذي أعلن أن بلاده غير معارضة للقرار، وفي ذات الوقت غير موافقة عليه ، لكونه قراراً مُنحازاً للعراق - وفق الرؤية الإيرانية. وقد أدانت إيران رفع أعلام سوڤيتية وأمريكية على ناقلات النفط الكويتية ومرافقتها من قبل السفن الحربية، على اعتبار أن هذا الأجراء يتنافى مع ما يتضمنه البند الخامس من القرار، واعتبرت القرار ليس إلا مناورة دبلوماسية أمريكية غير قادرة على حل الأزمة.
بالعودة إلى البند الخامس من القرار (598) الذي ينص على أن مجلس الأمن : ( يدعو جميع الدول الأخرى إلى ممارسة أقصى قدر من ضبط النفس والامتناع عن القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من تصعيد وتوسيع الصراع، ومن ثم تسهيل تنفيذ القرار الحالي ). لا نجدُ في البند الخامس - إلا تشبيهاً مجازياً بكونه مطفأة حريق – اكثر من كونه ( عود ثقاب ) كما حاول أن يصوره مندوب إيران في الأمم المتحدة ، طالما ستتحرك ناقلات النفط الإيرانية بمأمن عن الصاروخ العراقي . ثم ما لبث أن أعلن الرئيس الإيراني ووزير خارجيته رفض إيران للقرار.
يرى البعض أن ما يُميز القرار (598) هو صدوره بالإجماع ؛ بذلك فإنه يختلف عن سابقاته من القرارات الأممية، وقد تلاقت فيه مصلحة الدولتين العُظميين، وأستند على المادتين (39،40) من ميثاق الأمم المتحدة ، واعتبر طيف آخر من المراقبين بأن القرار موجه إلى إيران أكثر من كونه موجهاً للعراق؛ لكون العراق قد سّبَقَ وأن قدَّم مُبادرات تُماثِل الصيغ التي أتفقَ عليها المجتمع الدولي بهذا القرار.
وبعد مرور ما زادَ عن عام كامل على صدور القرار (598) شهدت خلاله جبهات القتال على طول امتداداتها انتصارات عراقية، وهزائم إيرانية...أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في نهاية تموز/ يوليو 1988 عن استلام رسالة من الرئيس الإيراني تتضَمَنُ موافقة إيران رسمياً على قرار مجلس الأمن (598) غير المشروطة بإدانة العراق ، وهو شرط كانت تُصر عليه إيران فيما سبق. وبهذا الخصوص أشارت آراء الكثير من المراقبين إلى أن إيران كانت مُضطَرَة لقبول القرار بعد أن رفضَتهُ لفترة زادت عن السنة؛ ويكمُن سبب قبولها في اختلال ميزان القوى لصالح العراق في جميع قواطع العمليات.
يكادُ لا يخلو أي مصدر تناول قبول إيران بقرار وقف أطلاق النار ( 598 ) دون الإشارة إلى العبارة التي ذكرها آية الله " الخميني " أن موافقته على القرار " أشد فَتكاً من السُم" - وفقاً لبيان القبول الذي أذاعته أغلب الإذاعات العالمية ، وكتبت عنه الصحف المحلية و الدولية و تضمنته دراسات و تقارير الاهتمام بالحرب كمسببات ، وسير معارك ، و نتائج أولية ونهائية .
على الرغم من موافقة إيران على قبول القرار ( 598 ) فقد سبقها تعهد آية الله " الخميني " بمواصلة الحرب ضد العراق حتى آخر يوم في حياته ؛ ولكنه استجاب لتوصية زعماء إيران السياسيين - حسبما أوضح البيان الإيراني دون الإشارة إلى تفاصيل الأسباب التي دعتهم للتوصية بإنهاء الحرب. وقال " الخميني " مخاطباً الإيرانيين: أن الموافقة على وقف قرار وقف أطلاق النار لا تعني حَل وانتهاء مشاكلنا مع العراق ؛ وألقى باللائمة على النفوذ الأمريكي في المنطقة مُعتبراً إياه المُسبب الرئيسي بالمشاكل التي تعاني منها إيران، وتوَّعَدَ باستمرار محاربة النفوذ العراقي .
وبعد إعلان موافقة إيران على قرار مجلس الأمن (598) أعلن العراق مُبادرة السلام في نص خطاب ألقاه الرئيس العراقي " صدام حسين " أشار فيه إلى خلاصة تصورات العراق بكيفية إشعال فتيل الحرب من قبل إيران، وإرغام العراق على خوض غمارها من جانب الاضطرار وليس الاختيار، وتحَمُّل استمرارها ( سنوات؛ بسبب تجاهل إيران دعوات العراق للسلام - التي اعتبرتها إيران منهج ضعف عراقي، ومن ضمنها موافقة العراق على القرار (598) ورفضه من قبل إيران - في تفسير أشار له بضعف الإحساس بالمسؤولية أو انعدامها. وأشار إلى أن مجلس الشورى الإيراني قد شرَّعَ قبل ثلاثة عشر يوماً من موافقة الخميني قانوناً جعل فيه خيار الحرب مع العراق استراتيجية دائمة، وضَمَّنهُ الإشارة إلى أن وجهات نظر الساسة الإيرانيين بالموافقة على القرار (598) جاءت وفق ادعائهم من جانب الاضطرار المرحلي، ومن غير المرغوب لمصلحة إيران توضيح ظروفها وأسبابها آنذاك . وبناءً على رغبة عراقية في إنهاء كل ما يتعلق بمسببات الحرب و نتائجها، واستعادة علاقات طبيعة بين البلدين المتجاورين رفضَ العراق عقد هدنة مؤقتة، وطالبَ بالجلوس إلى طاولة المفاوضات بجدية تُنهي خلافات البلدين و بضمانات عدم إثارتها مستقبلاً . ؛ كمبادرة سلام تتجاوز خلافات الماضي والحاضر بين البلدين .
أصدر الرئيس الإيراني "هاشمي رفسنجاني" توجيهاته إلى القوات المسلحة الإيرانية بإيقاف أي نشاط عسكري تجاه العراق اعتباراً من 9 آب / أغسطس 1988. و في نفس اليوم أصدر العراق "بيان البيانات" ذا الرقم (3388) تضمَّن تعبيراً عن الرغبة العراقية بالتحول من حالة الحرب إلى حالة السلام. وساد الهدوء التام جبهة القتال، وتوقفت الفعاليات القتالية للطرفين اعتباراً من 10 آب / أغسطس 1988 لحين حلول الموعد الرسمي لوقف أطلاق النار في 20 آب/ أغسطس .
رغم كسب العراق لنتائج المعارك منذ تحرير الفاو وما أعقبها من معارك لاحقة ؛ إلا أنه لم يُحقق أهداف الحرب ؛ كونه لم يطالب باعتراف إيران بحقوقه الشرعية في شط العرب، أو بإعادة الجُزُر العربية الثلاث المحتلة ( طنب الكبرى ، طنب الصغرى ، أبو موسى ) إلى دولة الإمارات ، و لم يتمكن من تحرير الأحواز؛ لكنه وأدَ التطلع الإيراني غرباً المُستند إلى مبدأ تصدير الثورة الإيرانية . وتنازلت إيران عن المُطالبة بتنَّحي الرئيس "صدام حسين" أو محاكمته. بينما تمَّسكت بضرورة التحقيق في مسؤولية بدء القتال، والمطالبة بتعويضات تدمير مدنها ومنشآتها الاقتصادية، والأضرار الأخرى الناجمة عن الحرب.
أن تحليل موقف البلدين في مرحلة نهاية الحرب يوَّضِحُ مدى التَحَوّل في إدارة الصراع؛ فالعراق صار مُقتنعاً بعدم قدرَتهِ على هزيمة إيران هزيمة تامة. وبُنيَت موافقة إيران بقبول التوقف عن الحرب لتحفظ لها إمكانات التبرير لشعبها بعد سلسلة الهزائم العسكرية المتوالية على امتداد الجبهة من الجنوب إلى الشمال وفقاً لأولى المعارك الرئيسية التي بدأت بتحرير الفاو في 17 نيسان / أبريل 1988 التي أسمها العراق " رمضان مبارك " لتوافق العملية مع أول أيام شهر رمضان ، وفي جانب يرتبط بالتحفيز ورفع المعنويات اعتبرها ( بوابة النصر العظيم ). أما نتائج المعارك المتوالية فقد جعلت إيران تستبدل التقابل من ميادين القتال بطاولة المفاوضات. بذلك توقف الجندي في كلا الجانبين عن دوره القتالي - الذي استطال ثماني سنيين بنزف الدم ، وصار يستنشق هواءً خالياً من تراب المعارك و ريحة بارود الأعتدة - في حرب لم تشهد المنطقة لها مثيلاً من قبل. مما يعني تدشين مرحلة جديدة من العلاقات تضاعف فيها دور الدبلوماسي- الذي أستمر دون انقطاع قبل الحرب، وخلالها ... وما بعدها .
اتضح من حقائق و وقائع ما بعد توقف الحرب - أن بيئة العلاقات الثنائية للبلدين أفرزت الكثير من المُعَّرقلات، وعدم التوافق على ما يجب إنهاءه، فكان تشخيص التباعد أوضح من التقارب بين الطرفين حتى أمست عبارة " لا حرب و لا سلم " أكثر انطباقاً في علاقات البلدين من كونها علاقات سلمية .