أزمات بغداد وأربيل المتكررة: غياب الضامن ونقض التفاهمات
العربي الجديد:أزمة سياسية جديدة لا يبدو أنها ستكون أخف حدة من الأزمات السابقة التي عرفتها العلاقة غير المستقرة بين بغداد، التي تُمثّل الحكومة الاتحادية العراقية وفقاً للدستور الجديد الذي أقر عام 2005، وحكومة إقليم كردستان في أربيل، التي حصلت بموجب الدستور ذاته على صلاحيات إدارية واسعة، ضمن غطاء إقليم كردستان، والذي يضم المحافظات ذات الغالبية الكردية (أربيل ودهوك والسليمانية)، أقصى شمالي العراق.
وفي حين تتمحور الأزمة الراهنة بين الطرفين حول كركوك وحصة إقليم كردستان من الموازنة المالية السنوية للعراق، فإن ملفات أخرى لا تزال عالقة بينهما، أبرزها قانون النفط والغاز، الذي يُنظّم آلية استخراج وتصدير النفط والغاز العراقي، إلى جانب ملفات سيادة بغداد على المنافذ الحدودية البرية مع إيران وتركيا، ومطاري أربيل والسليمانية الدوليين، وكذلك توحيد السلطة القضائية، والصلاحيات الأمنية والإدارية لبغداد داخل الإقليم.
تجدد الأزمة بين بغداد وأربيل
تجدُّد الأزمة بين أربيل وبغداد، جاء بعد هدوء دام 10 أشهر فقط من تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، والتي منحتها الأحزاب الكردية ثقتها ضمن قائمة شروط وافق عليها التحالف الحاكم (الإطار التنسيقي) إلى جانب شروط مماثلة فرضتها الأحزاب العربية السنّية أيضاً، لكن أياً من الطرفين لم يتحقق له شيء مما تم الاتفاق عليه لغاية الآن.
ومنذ مطلع سبتمبر/أيلول الحالي، تصاعدت حدة التصريحات والردود المتشنجة بين بغداد وأربيل، لدرجة اعتماد وسائل إعلام محلية كردية مقربة من حكومة الإقليم عبارة "كركوك المحتلة"، في تعليقها على الأحداث التي شهدتها المدينة وراح ضحيتها 4 قتلى ونحو 15 جريحاً السبت 2 سبتمبر الحالي. وسقط القتلى إثر احتجاجات نظّمها أنصار أحزاب عربية وتركمانية، رفضاً لعودة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقره القديم في كركوك والذي انسحب منه عام 2017 إثر سيطرة الجيش العراقي على المدينة عقب حملة عسكرية لبغداد رداً على تنظيم أربيل استفتاء للانفصال عن العراق.
ومع نجاح حكومة السوداني في السيطرة على الأوضاع أمنياً في كركوك ومنع تطورها بدفعها قوات إضافية من الجيش وفرض حظر تجوال دام يومين متتاليين، إلى جانب اعتقال العشرات من المتهمين بالتورط بإطلاق النار أو إذكاء فتنة قومية بين المكونات الثلاثة (العرب والأكراد والتركمان)، إلا أن ذلك لم ينهِ الأزمة المتفاعلة لغاية الآن. ويطالب الحزب الديمقراطي الكردستاني، بالعودة إلى مقره القديم والذي يتخذه الجيش مقراً له حالياً، لكن المحكمة الاتحادية العليا في بغداد، أصدرت قراراً ملزماً بوقف إجراءات التسليم.
كما يطالب الأكراد بما يصفونه التوازن بين مكوّنات المحافظة في إدارتها، ويعتبرون وجود المحافظ راكان الجبوري (عربي) غير شرعي، باعتبار أن آخر انتخابات محلية أجريت في المحافظة عام 2005، كانت الأغلبية فيها للأحزاب الكردية، وهو ما يطعن به العرب والتركمان ويتهمون خصومهم بالتلاعب والتزوير في تلك الانتخابات.
وإلى جانب أزمة كركوك التي ما زالت تنذر بتطورات أمنية محتملة، خصوصاً مع مؤشرات استعمال الأكراد ورقة التظاهر للضغط على بغداد، تفجّرت أزمة المخصصات المالية لإقليم كردستان. وتقضي اتفاقية الموازنة التي تم التصويت عليها في يونيو/حزيران الماضي، بأن للإقليم شهرياً تريليونا و375 مليار دينار (نحو مليار دولار) لكن بغداد لم تدفع في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب غير 500 مليار دينار فقط، لسداد مرتبات موظفي الإقليم، وهو ما نددت به أربيل، الأسبوع الماضي، واتهمت بغداد بأنها تمارس "سياسة تجويع" مع إقليم كردستان.
اتهامات متبادلة
مسؤول عراقي بارز في بغداد، تحدث عبر الهاتف لـ"العربي الجديد"، عن أن بغداد لم تتسلم دولاراً واحداً من نفط إقليم كردستان بسبب توقف تصديره عبر تركيا إلى ميناء جيهان التركي، لافتاً إلى أن "الدفعات التي سلّمتها بغداد، كانت من منطلق عدم الإضرار بمرتبات وأرزاق الناس، وكانت على سبيل القرض الذي سيستقطع لاحقاً بعد استئناف تصدير النفط والتوصل إلى تفاهم مع تركيا".
وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن السوداني يتعرّض لضغوط كبيرة من أطراف داخل تحالفه (الإطار التنسيقي) لاتخاذ موقف متشدد من أربيل في ما يتعلق بموضوع حصة الإقليم من الموازنة السنوية المالية، والضغط للكشف عن الحجم الحقيقي للموظفين في الإقليم. وأضاف أن هناك اعتقاداً سائداً في بغداد، أن العدد الذي قدّمته أربيل لعدد موظفي الإقليم ما زال غير واقعي (مليون و250 ألف موظف) وترى بغداد أنه أقل بكثير من هذا العدد.
وكشف المسؤول عن إخفاق ائتلاف "إدارة الدولة"، الذي يضم الأحزاب العربية الشيعية والسنّية والكردية المشاركة بتشكيل حكومة السوداني، في التوصل إلى صيغة أو توافق بشأن الأزمة الجديدة خلال الاجتماع الذي عُقد ليلة السبت الماضي في مكتب السوداني، وحضره رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، سواء في أزمة كركوك أو ملف الموازنة المالية.
والخميس الماضي، اتهم رئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني، حكومة السوداني بـ"انتهاك التفاهمات السابقة". وقال في تغريدة له، إن "امتناع الحكومة الاتحادية في بغداد عن إرسال مستحقاتنا المالية المثبتة في الموازنة المالية الاتحادية، انتهاك للاتفاقات الدستورية، ويُلحق الضرر بمواطنينا ويقوض الثقة".
أما الحزب الديمقراطي الكردستاني، الحاكم في الإقليم، فاعتبر أن بغداد "تماطل بتنفيذ الاتفاقات مع الأكراد". وأضاف في بيان له يوم الجمعة الماضي أنه "بعد تشكيل ائتلاف إدارة الدولة على أساس مجموعة نقاط سياسية واقتصادية، والاتفاق على البرنامج الحكومي والتصويت عليه داخل البرلمان، مرت 9 أشهر على الاتفاق وتشكيل الكابينة الحكومية، ولم يتم تنفيذ النقاط المتعلقة بإقليم كردستان، وتتم عرقلة تنفيذ تلك النقاط"، مبيناً أنه "تم تنفيذ بعض النقاط بشكل مخالف للاتفاق، فيما لم تنفذ بعض النقاط الأخرى".
وأشار الحزب إلى أنه "حين قامت الحكومة الاتحادية بإعداد مشروع قانون الموازنة بالاتفاق مع حكومة الإقليم، تم تحديد حصة الإقليم بالموازنة، لكن جرى تغيير نص المشروع كاملاً خلال جلسة التصويت في البرلمان، وقد مورس ظلم كبير بحق الإقليم، وعلى الرغم من ذلك لم يتم تنفيذ البنود المتعلقة بالإقليم حتى الآن"، مطالباً بـ"ارتكاز إدارة حكم العراق على مبادئ الشراكة والتوافق والتوازن".
مقابل ذلك، رد المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي، في اليوم ذاته على تلك التصريحات، مؤكداً أن بغداد نفذت التزاماتها المالية كاملة تجاه الإقليم. وقال العوادي في بيان، إن "الحكومة نفذت التزاماتها المالية كاملةً تجاه الإقليم، وبذلت جهوداً كبيرة لتقديم الحلول"، مبيناً أنه "لغاية نهاية شهر يونيو الماضي بلغت الأموال في ذمة الإقليم أكثر من ثلاثة أضعاف حصته، حسب الإنفاق الفعلي للدولة، في حين لم تسلم حكومة الإقليم الإيرادات النفطية وغير النفطية كما أوجب تسليمها قانون الموازنة الاتحادية".
وأضاف أنه "على الرغم من عدم التزام حكومة الإقليم، أخذت الحكومة الاتحادية قراراً بعدم تحميل المواطنين العراقيين في الإقليم جريرة عدم الالتزام، وعملنا بما يسمح به القانون باتخاذ قرار في مجلس الوزراء بإقراض الإقليم إلى حين حسم مشاكله المالية أصولياً". وشدد على أن "الحكومة الاتحادية حريصة على حقوق المواطنين في الإقليم كحرصها على حقوق المواطنين في سائر المحافظات، وأنّ الالتزام بالقوانين الفيدرالية والاتفاقات المبرمة في ظل الدستور، أقصر طريق لاستكمال التحويلات المالية وتعزيز الثقة".
نقض الاتفاقات بين الحكومة العراقية وكردستان
وحول ذلك، قال النائب عن "الإطار التنسيقي" محمد الزيادي، لـ"العربي الجديد"، إن "تجدد الأزمة بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان، هو بسبب عدم التزام الإقليم بالاتفاقات المالية والنفطية والدستور، فالإقليم يريد الأموال من بغداد بدون تسليم ما في ذمته من أموال من بيع النفط والمنافذ الحدودية وغيرها".
وبيّن الزيادي أن "إقليم كردستان اعتاد فقط أن يأخذ من بغداد بدون أي يعطي ما عليه من متوجبات، ولهذا تم إرسال مبالغ له بعد قطع أموال الإيرادات التي كان يجب أن يسددها إلى حكومة المركز، فلا يمكن إرسال الأموال كاملة للإقليم وهو لا يعطي ما في ذمته من أموال".
وأضاف النائب عن التحالف الحاكم، أن "السوداني جاد بحل الأزمات مع إقليم كردستان، وعمل على ذلك طيلة الفترة الماضية وعقد اجتماعات سياسية وفنية وقانونية عديدة، كما أننا في الإطار التنسيقي نعمل على الإسراع بتشريع قانون النفط والغاز، الذي سينظم العلاقة النفطية والمالية ما بين بغداد وأربيل"، نافياً أن يكون هناك تعمد لافتعال الأزمات من أي طرف.
لكن النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، جياي تيمور، قال لـ"العربي الجديد"، إن "سبب الخلافات المستمرة سنوياً ما بين بغداد وأربيل، هو عدم التزام القوى السياسية الشيعية بالاتفاقات السياسية مع الأكراد، فالإطار التنسيقي لم يلتزم بما اتفق عليه قبل تشكيل حكومة السوداني، بل عمل على خلاف الاتفاق".
وأضاف تيمور أن "بعض الأطراف السياسية الشيعية، تعمل وتضغط على السوداني من أجل منع تنفيذ ورقة الاتفاق السياسي، والأمر لا يشملنا فقط، بل يشمل طلبات القوى السنّية، ولهذا نرى أن هناك تسويفاً بتنفيذ ورقة الاتفاق على الرغم من مرور أشهر طويلة على عمر حكومة السوداني".
وأكد النائب عن "الديمقراطي الكردستاني" أن "حكومة إقليم كردستان مستمرة في التواصل مع بغداد من أجل تنفيذ ورقة الاتفاق السياسي، وهناك وفد رفيع من حكومة الإقليم سيجري زيارة مهمة إلى بغداد، من أجل الحوار لإيجاد حلول سريعة للملفات العالقة المالية، خصوصاً أن هذا الأمر أثّر بشكل كبير على حياة المواطنين في الإقليم من خلال عدم إرسال الرواتب لهم".
تفاهمات شبيهة بالهدنة السياسية
وعزا الخبير القانوني العراقي نصير السهلاني، سبب تكرار الأزمات إلى وجود دستور غير واضح في مسألة تنظيم العلاقة بين بغداد وأربيل، وهل هي علاقة تابع ومتبوع، أم علاقة مناظرة؟ وقال السهلاني، لـ"العربي الجديد"، إن "الأمر تحوّل في السنوات العشر الأخيرة إلى أشبه ما يكون بهدنة بين الطرفين سرعان ما يتم نقضها من أحدهما، وتكون عبارة عن تفاهمات واتفاقيات شفوية وأخرى مكتوبة، ثم تنتهي بعد تشكيل الحكومة، وتبدأ سياسة ليّ الأذرع التي عادة ما تتدخّل فيها الأمم المتحدة وأطراف غربية إلى جانب إيران".
ولفت إلى أن الدستور لم يوضح بالتحديد اختصاصات حكومة إقليم كردستان مقابل اختصاصات الحكومة العراقية في بغداد، في المواد 110 و116 و117 و120 و121 التي تتحدث عن النظام الفيدرالي في العراق، وصلاحيات الإقليم. وأوضح أنه "لغاية الآن هناك جدل حول على البديهيات، مثل هل يحق للقوات العراقية دخول الإقليم بوصفها القوة الاتحادية العليا في البلاد، أو ما إذا كان لها صلاحية على قوات البشمركة، وهل الحدود الدولية للإقليم مع إيران وتركيا يجب أن تكون تحت سلطة بغداد أو أربيل، وآلية فتح قنصليات في الإقليم وصلاحيتها، وصولاً إلى مناهج التعليم والقضاء والصحة". وأشار إلى أن "البنود الدستورية الفضفاضة تجعل من هذه الأزمات تتجدد، خصوصاً مع تبدلات الخريطة السياسية والتجاذبات الموجودة فيها".
أما الباحث في الشأن السياسي العراقي ماهر جودة فتحدث عن "انعدام ثقة ما بين القوى السياسية العراقية ككل"، مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "هذا السبب هو أساس كل الأزمات السياسية، كما أن الاتفاقات السياسية دائماً ما تكون من أجل المصالح الحزبية والشخصية، وبعد انتهاء تلك المصالح تعود الأزمات من جديد".
ولفت جودة إلى أن "الخلاف بين بغداد وأربيل يتكرر وسيتكرر دوماً لعدم وجود جدية لحل هذا الخلاف بشكل حقيقي ووفق الدستور، كما أن هناك أطرافاً سياسية تعمل على إثارة تلك الخلافات من أجل استغلالها سياسياً وحتى انتخابياً". وأضاف: "لا توجد أي جهة ثالثة ضامنة لتطبيق الاتفاقات السياسية بين الجانبين ومختلف أطراف العملية السياسية، ولهذا نرى عدم التزام بهذه الاتفاقات، خصوصاً أن هذه الاتفاقات وحتى التحالفات تتشكل من أجل تقاسم السلطة والمغانم، وبعد الانتهاء من ذلك تعود الخلافات مجدداً للساحة، وهذا ما يحصل حالياً من خلاف متجدد ما بين بغداد والإقليم".