هل سيبقى الموت المجاني من نصيب اهلنا في الموصل؟ فاجعة كبرى ونتائج تحقيق مخيبة للامال.. كيف جعل الفساد العراق النموذج الاغرب اقتصاديا؟
د. سعد ناجي جواد*
هل سيبقى الموت المجاني من نصيب اهلنا في الموصل؟ فاجعة كبرى ونتائج تحقيق مخيبة للامال.. كيف جعل الفساد العراق النموذج الاغرب اقتصاديا؟
رغم فداحة فاجعة عرس الحمدانية في الموصل لم اكن ارغب في الكتابة عنها، ليس من قلة اكتراث لا سامح الله، ولكن من كثرة الفواجع التي ابتلينا بها واعداد الضحايا التي ينزفها العراق منذ الاحتلال ولحد هذا اليوم اصبحت، وعدد غير قليل من الكتاب والمتابعين نخجل من تكرار كلمات التعازي ومن ذرف الدموع على ضحايانا من الابرياء الذين يذهبون نتيجة الاهمال والجشع والفساد وعدم احترام ابسط حقوق الانسان. لكن ما استفزني ودفعني للكتابة هو التقرير الذي اصدرته اللجنة التحقيقية التي شكلها السيد رئيس الوزراء لتقصي اسباب وقوع الكارثة. اذ كما كان متوقعا جاء التقرير باهتا ولا ينسجم مع حجم الكارثة، بل ولم يحترم حتى شعور ابناء المدينة والعوائل المنكوبة. لقد ركز التقرير على تحميل مالك القاعة لوحده كل المسوولية، والاكثر ايلاما في التقرير انه ثبت جملة وركز عليها كثيرا وهي انه (لا توجد شبهة جنائية)، وان ما حصل لم يكن بفعل فاعل، ناهيك عن تبرير ما حدث عن طريق اثارة المجمتع العراقي على طائفة معينة من الشعب العراقي (المسيحيين الكرام)، حيث ذكر ان سبب إنتشار النيران بصورة هائلة هو الكمية الكبيرة من الكحول (الخمور) التي كانت موجودة في القاعة. والأخطر في التقريرانه برأ كل المسؤولين الحقيقين عن الكارثة، مثل الجهة التي اجازت البناء والجهات التي يفترض بها متابعة التنفيذ والتاكد من توفر كل شروط السلامة والامان، وتوفر المخارج الطارئة واجهزة الانذار ومستلزمات اطفاء الحرائق وغير ذلك من الامور البديهية التي يجب التاكد منها قبل السماح لصاحب المشروع بافتتاحه واقامة الفعاليات فيه. كما اغفل الجهات السياسية والمليشيات التي تحمي صاحب المشروع وتمنع عنه المحاسبة على تجاوزات خطيرة مثل السماح لالف شخص في الحضور في قاعة صممت لإستيعاب خمسمائة إنسان فقط، كل هذه الاطراف يطالب ابناء الحمدانية وكل العراقيين، وبحق بمحاسبتها لانهم هم الالمسؤولون الحقيقون والمالكون للمشروع والمستفيدين منه مادياً. هؤلاء جميعا عمد التقرير الى تبرئتهم من الجريمة بصورة غير مباشرة وبجرة قلم. واغفلت الجهة التي كتبت التقرير ان هؤلاء يعتبرون في نظر القانون متهمين بصورة مباشرة ومشاركين في القتل العمد،. ولم يخطيء ابناء الحمدانية عندما اعلنوا انهم لم يفاجئوا بنتائج هذا التحقيق، وعزوا ذلك الى التاثيرات السياسية ومصالح الاحزاب والمليشيات المستفيدة، والى اسلوب على التستر على الرؤوس الكبيرة وحيتان الفساد التي تقف وراء تمكين صاحب القاعة من تشييد هكذا بناء وبمواصفات بعيدة كل البعد عن شروط السلامة، وعن الكيفية التي تم السماح له باستخدام مواد رخيصة معروفة عالميا بانها سريعة الاشتعال، والتي سبق وان تسببت في حرائق مشابهة (مستشفى ابن الخطيب في بغداد 2019، ومستشفى الحسين في الناصرية 2021) راح ضحيتها مئات الابرياء.
فاجعة الحريق الاخيرفي الحمدانية ذهب ضحيتها مائة وسبعة شهداء من الجنسين، وفي حالتين اودت بحياة افراد عائلتين بالكامل، كانوا يحاولون ان يقتنصوا بعض الوقت للفرح بعد ان عزَّت عليهم هذه الاوقات في عراق ما بعد الاحتلال، والضحايا الجدد انضموا الى المئات بل والالاف من ابناء الموصل الذين ذهبوا ضحية كوارث اهمال مشابهة، مثل حادثة العبارة (2019) التي راح ضحيتها اكثر من 180 طفلا بعمر الزهور، وقبلها المئات الذين ذهبوا ضحية احتلال تنظيم داعش الارهابي بعد أن هربت أربع فرق عسكرية وفرقتان من الشرطة الإتحادية، وتركت أسلحتها ومعداتها، بل وخلع قادتها بدلاتهم العسكرية ورموها على الارض قبل هروبهم، تاركين ابناء الموصل لمصير مجهول، والاعداد الاخرى التي قتلت اثناء تحرير المدينة (2016-2017)، ناهيك عن التدمير الشامل الذي لم تسلم منه حتى البيوت الصغيرة في كل الموصل، والعشرات الذين يفقدون حياتهم يوميا نتيجة غياب اقل متطلبات الرعاية الصحية في المحافظة وافتقار المستشفيات لكل مقومات القدرة على توفير هذه الرعاية. والكارثة الاكبر هي ان كل ذلك يجري امام اعين السلطات المختلفة المحلية والمركزية، او بصورة ادق بسبب فشل هذه السلطات وانصرافها الى الفساد وسرقة المال العام وتقاسم المغانم والاموال الكبيرة التي تخصص في كل عام لهذه المحافظة، وهذا امر مكرر في كل المحافظات عربية كانت ام كردية، مع الفارق ان نصيب الموصل (ومعها صلاح الدين) بالذات هو اكبر من غيرها، وذلك بسبب هيمنة فصائل مسلحة عليها معروفة، خارجية طارئة ومحلية، ويتعاون معها اصحاب النفوس الضعيفة من ابنائها. والى جيوب هولاء الفاسدون تذهب مخصصات الاعمار وكل موارد المحافظة
منذ أن تم تحرير الموصل من قبضة تنظيم داعش الإرهابي وابنائها يئنون من تغلغل وظلم وتسلط فصائل مسلحة لم تكتف بكتم انفاس ابنائها وفرض الأتاوات عليهم، وانما زادت على ذلك بان اسست لها مكاتب إقتصادية تستأثر بالمشاريع الاعمارية، والتي غالبا ما تحال الى شركات وهمية تقبض المخصصات المالية ولا تنفذ شيئا. اومشاريع تحال الى اشخاص عاديين، وهم في حقيقتهم واجهة لجهة او فيصل مسلح متنفذ، وقاعة الحمدانية هي واحدة من هذه المشاريع. وعندما تتم الموافقة على مشروع لمواطنيين عاديين فان ذلك لا يحصل إلا بعد دفع رشاوى كبيرة لتلك الفصائل والمليشيات، ومع الأسف فان هناك من ابناء الموصل وباقي المحافضات الغربية من يتعاون مع هذه الفصائل من اجل الكسب المادي. أما نواب وسياسي الموصل فمنهم من هو شريك في هذا الفساد او مكتفيا بالشجب الشفهي. وهذه ايضا مشكلة مزمنة. والكل يتذكر كيف جرى صراع بين بعض من أبنائها على منصب المحافظ بعد ان هرب محافظها امام إرهابيي داعش، هذا الصراع الذي ظل يجري والمحافظة محتلة من قبل التنظيم الإرهابي، ولم يتطوع واحد من المتنافسين على منصب المحافظ للقتال دفاعا عن مدينته. ولا اعتقد ان اهالي الموصل، والعراقيين جميعا، ينسون الحادثة التي عرض فيها احد إرهابيي داعش ملايين الدولارات وهي موضوعة في اقفاص خشبية مسلفنة، مما يدلل على انها اخذت من البنك المركزي، والتي تم العثور عليها في دار احد السياسيين الكبار من اهل الموصل.
طبعا الفساد في الموصل هو جزء من الفساد العام الذي ينتشر في كل العراق من شماله الى جنوبه، ولولا هذا الفساد المستشري لما وصل العراق الى هذا الدرك الذي لم تصله دولة في عالم اليوم، والمشكلة الاكبر ان الفساد والنهب المنظم لموارد الدولة اصبح ثقافة. أخبرني صديق اثق به ان ما يتسامر به كبار المسؤولين عندما يلتقون لا يكون حول ما يجب ان يفعلوه لبناء عراق جديد، او للحديث عن منجزاتهم في مجال البناء والإعمار، وانما تدور احاديثهم حول سؤال بعضهم البعض عن مجموع ما حصل عليه من السحت الحرام والتبجح بما سرقوه. ولهذا يصبح العراق من أفشل الدول ومن اكثرها فسادا، بل ويصبح نموذجا إقتصاديا نادرا وغريبا حيث تنهار عملة البلد الغني جدا وفي وقت يكون مورد الدولة من تصدير النفط يعادل ميزانية دولا كثيرة نجحت في تحقيق حياة كريمة لأبنائها، وآخر دليل على ذلك تبجح مسؤولين عراقيين كبار، وبدون خجل، بنجاح تجربة ربط الشبكة الكهربائية العراقية، التي صُرِفَ عليها اكثر من خمسين مليار دولار لم تات بنتيجة، مع شبكة كهرباء الأردن، هذا البلد الفقير الذي تبلغ ميزانيته السنوية اقل من وارد شهرين من تصدير النفط العراقي، (عُشر ميزانية العراق). واخيرا يبقى العراق البلد الوحيد الذي يتحدث فيه كل المسؤولين وعلى كافة المستويات عن الفساد وعن من يقوم به وعن كمية المبالغ المسروقة وعن كيفية سرقتها ومن سرقها، ومع ذلك تقف الدولة موقف المتفرج ولا تضع أية خطة لإسترداد تلك الاموال التي تقدر بمئات المليارات. وسيبقى لسان حال العراقيين في هذه الأوقات الصعبة يردد قول شاعرهم الكبير محمد مهدي الجواهري
الا من كريم يسر الكرام
بجيفة جلف زنيم عتى
*كاتب واكاديمي عراقي