تصويت العراق على قرار وقف إطلاق النار في العدوان على غزة.. هل كان حقيقة بسبب خطأ بشري او تنكنولوجي؟ أم جاء حسب خطة مرسومة وباصابع إسرائيلية خفية؟
د. سعد ناجي جواد*
تصويت العراق على قرار وقف إطلاق النار في العدوان على غزة.. هل كان حقيقة بسبب خطأ بشري او تنكنولوجي؟ أم جاء حسب خطة مرسومة وباصابع إسرائيلية خفية؟
في يوم الجمعة 27/10 طُرِحَ في الجمعية العامة للامم المتحدة مشروع تقدمت به الاردن، وبتأييد من الدول العربية والاسلامية، يدعو الى هدنة انسانية فورية ودائمة في قطاع غزة،. ورغم النشاط الاسرائيلي – الأمريكي – البريطاني المحموم لمنع تمرير هذا القرار إلا أن النتيجة كانت حصول الموافقة عليه بأغلبية 120 دولة وإمتناع 45 أخرى و14 دولة ضده. المفاجأة الكبرى جاءت عند إعلان النتائج حيث ظهر ان العراق، الدولة العربية الأكثر إندفاعا في إدانة العدوان العسكري الصهيوني على غزة وما نتج عنه من سقوط أعداد هائلة من الشهداء (70% منهم من الأطفال والشيوخ والنساء)، كانت من ضمن الدول التي إمتنعت عن التصويت (اي رفضه). هذا القرار الغريب والمفاجيء، والذي أثار تعجب فضائية امريكية معروفة بتاييدها التام لإسرائيل، مثل CNN ، لا بد وان يثير فضول غالبية الشعب العراقي والعربي الذي جُبِلَ على مشاهدة العراق على رأس الدول المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، خاصة وان هذا الموقف كاد ان يتسبب في إسقاط وإفشال المشروع من خلال التصويت، إذا يُشتَرَط في تمرير هكذا مشاريع في الجمعية العامة الحصول على ثلثي المصوتين الحاضرين، وبما أن الحضور كان 179 دولة فان القرار كان يجب ان يحصل في الأقل على 120 صوتا او اكثر كي يمر. بكلمة أخرى ان القرار كان يمكن ان يسقط لو حصل على موافقة 118 دولة. ما أثار التعجب اكثر ان الخارجية العراقية سارعت الى قطع الشك باليقين واصدرت توضيحا على لسان الناطق الرسمي لها قال فيه ان العراق، وعلى الرغم من تأييده لهدنة إنسانية، إتخذ القرار بالإمتناع لأن المشروع ساوى بين الضحايا من المدنيين الفلسطينيين واعدائهم [الإسرائيلين]. (بالمناسبة كانت هناك صدمة أخرى تمثلت امتناع دولة عربية أخرى (تونس) عن التصويت مدعية ان المشروع كان اقل من السقف الأعلى المطلوب [ليشمل معاناة الفلسطينيين]). ثم جاء التخبط الأكبر في اليوم التالي عندما طالب المندوب الدائم للعراق في الأمم المتحدة من الأمانة العامة للمنظمة ان يتم تغيير تصويت العراق من ممتنع الى موافق مدعيا أن ما حصل كان نتيجة (وجود خطأ في منظومة التصويت في حينه [اي أثناء التصويت].
أن ما جرى بهذا الخصوص يجب ان لا يمر مرور الكرام لخطورته. ويجب ان يدفع السيد رئيس الوزراء، او السيد وزير الخارجية لكي يرفع عن نفسه شبهة إتخاذ هذا القرار الغريب، الى فتح تحقيق في هذا الحادث المعيب الذي مس بسمعة ومكانة العراق وتاريخه الطويل في الدفاع عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، هذا الموقف الثابت الذي جعل العراق يعاني طوال تاريخه من أزمات، إبتدأءا من الأعمال الإرهابية التي حدثت داخله على يد العصابات الصهيونية منذ ان بدات مشروعها الإستيطاني الإستعماري لفلسطين في اربعينيات القرن الماضي والموامرات الإسرائيلية على وحدة أراضيه، وإنتهاءا بإحتلاله في عام 2003 من قبل تحالف أمريكي-بريطاني-إسرائيلي. ناهيك عن انه يشكل إهانة للدبلوماسية العراقية العريقة التي عرفت بتاريخها الطويل والمشرف في مواجهة المخططات الاسرائيلية حول العالم.
ربما يكون ما حصل، من باب إفتراض حسن النية، نتيجة الفوضى الإدارية التي تعيشها وزارة الخارجية، شأنها شأن كل الوزارت والدوائر الرسمية العراقية منذ بداية الإحتلال ولحد الآن، والذي وضع العراق على راس الدول الفاشلة، لكن ذلك لا يمكن إثباته ألا من حلال التحقيق. وأن الإمتناع عن إجراء تحقيق شامل وصريح وشفاف سيؤكد الشعور السائد بين أوساط عديدة مفاده ان ما حدث كان مدبرا ومخططا له، وان إسرائيل نفسها غير بعيدة عن هذا التصويت. وهذا الكلام ليس فيه أية مبالغة، وليس الغرض منه التشهير بأحد، لكن هذا الأمر غير المسبوق يعطي الإنطباع انه في الوقت الذي بدات اوساط كثيرة تتحدث عن قرب نهاية الإحتلال الإسرائيلي، وعن تخلي اغلب الأطراف التي تعاونت معه بدات بالإبتعاد عنه نتيجة لإستمرار إحتلال الأراضي الفلسطينية والإمعان في قتل شعبها وتشريدهم، ياتي العراق الرافض دائما لوجود إسرائيل، بل البلد العربي الوحيد (من غير دول المواجهة) الذي شارك في كل الحروب العربية-الإسرائيلية والذي رفض توقيع هدنة مع الكيان الذي تشكل بعد الإحتلال في عام 1948، مما يجعله في حالة حرب دائمة معه، لكي يرمي طوق نجاة لعدوه الرئيسي. وفي كل الأحوال فان تحقيق سريع وشفاف مطلوب لعدة أسباب: اولا: حفاظا على سمعة العراق, و,إحتراما لموقفه الثابت من القضية الفلسطينية ثانيا، وإجلالا لأرواح ابنائه الابطال الذين إستشهدوا على أرض فلسطين الطااهرة ودفنوا فيها ثالثا، وإكرام لإرواح كل شهداء فلسطين رابعا.
التحقيق اولا يجب أن يبدأ مع السيد مندوب العراق الدائم في الأمم المتحدة الذي صوت على القرار، ليكشف فيما إذا كان هناك حقيقة وجود خطا تقني ادى الى ما حصل، ولمعرفة لماذا إنتظر لليوم التالي لكي يطالب بالتعديل ليحمي نفسه. وعلى فرض ان السيد المندوب الدائم استطاع ان يثبت ان الخطا التقني قد حصل، وان الوزارة لم تبلغه تعليمات السيد الوزير بالإمتناع عن الموافقة، وهو الأمر المتعارف عليه في مثل هذه الأمور الحساسة، فلماذ خرج المتحدث بأسم الوزارة واعلن ان العراق قرر ان يمتنع عن التصويت لكي يثبت حقيقة انه كان هناك قرار مسبق وواضح للتصويت بعدم الموافقة على المشروع من أجل إفشاله، الهدف الذي كان مثلث العدوان اسرائيل – والولايات المتحدة – وبريطانيا يسعى من أجله بصورة محمومة. اما الفيصل في هذا التحقيق فهو السيد وزير الخارجية نفسه. فهو الشخص الأول والأخير الذي يستطيع ان يوضح حقيقة ما جرى، وهو الوحيد الذي يستطيع ان يخبرنا اذا ما كان هو من إتخذ هذا القرار ولماذا، او يكشف عن الجهة التي تجاوزته واتخذت القرار وامرت المتحدث الرسمي ان يعلن ان العراق اراد ان يصوت بهذه الطريقة وابلغ المندوب الدائم للتصويت بالطريقة التي صوت بها. وفي حالة فشل السيد وزير الخارجية في فعل ذلك، فان المسؤولية تقع على عاتق السيد رئيس الوزراء الذي يجب ان يُخضِع كل وزارة الخارجية للتحقيق. وهذا ليس تضخيم لمسألة بسيطة، لأن ما حصل كان ولايزال يتعارض مع ماقاله هو بنفسه في الأمم المتحدة قبل اكثر من شهر من الآن، ويتعارض ويتقاطع مع تصريحات اغلب الأحزاب العربية الحاكمة او المشاركة في العملية السياسية، والتي تعلن يوميا أن العدو الأول للعراق هو الكيان الصهيوني وانها تعد العدة للمشاركة في اي حرب ضد هذا الكيان ويطالبون بفتح حدود الدول العربية المجاورة لفلسطين كي يساهموا في تحريرها. والسكوت عن هذه القضية يعني ان كل ما نسمعه منهم هو كلام فارغ ونفاق سياسي.
لغرض إستكمال الصورة يجب التطرق لمسالة مهمة تتمثل بحجم النفوذ الإسرائيلي الكبير داخل الدولة العراقية منذ بداية الإحتلال ولحد الآن. هذه المسالة لم تعد سرا أبدا، وتحدثت مصادر وصحف وسياسيين ومراكز أبحاث عن هذه الحقيقة المؤلمة. وان أعضاء برلمان وسياسيين عراقيين متنفذين تبجحوا بعلاقاتهم مع إسرائيل وقاموا بزيارتها علنا. وكيف أن السفارة الأمريكية في بغداد تعتبر سفارة إسرائيل غير الرسمية، وعن مراكز الموساد في داخل العراق، وخاصة في إقليم كردستان، والتي وصلت الى حد تدريب البيشمركة (تقرير البي بي سي BBC البريطانية في 20/9/2006) وان رئيس وزراء اسرائيل اعلن صراحة (13/9/2017) دعم الجهود لإقامة دولة كردية منفصلة في شمال العراق، وان العلاقات بين قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في اقليم كردستان العراق، والذي ينتمي له السيد وزير الخارجية، تعود لبداية ستينيات القرن الماضي، والتي نتج عنها زيارات متبادلة كثيرة، وان الصهيوني-الإسرائيلي برنار ليفي كان اكثر من شجع القيادات الكردية على الإستفتاء وعلى الأنفصال عن العراق، وكيف شجع وجوده على رفع الأعلام الإسرائيلية في اربيل، كل هذه الحقائق لابد وأن تثير تساؤل مفاده هل ان التصويت الذي جرى يوم الجمعة الماضية، كان نوعا من (رد الجميل) من القيادات الكردية للمواقف الإسرائيلية السابقة والمستمرة في ظل ضعف الدولة العراقية؟ وما دام الشيء بالشيء يذكر، فان هذه الحادثة اعادت الى أذهان المتابعين موقف برلماني بريطاني من اصول عراقية (ولو أنه يرفض ذلك ويصر على اعتبار نفسه كرديا مع العلم انه لا يتكلم اللغة الكردية)، أصر على الحديث في البرلمان البريطاني وبحماس كبير فاق حماسة زملائه من البريطانيين، مطالبا رئيس الوزراء فعل كل ما يمكن فعله من أجل دعم اسرائيل والوقوف الى جانبها في إزمتها الأخيرة، ولم يقل كلمة واحدة بحق الشعب الفلسطيني والجرائم التي ترتكب بحقه، كل ذلك من أجل رد الجميل الى صديقه الشخصي نتنياهو (كما يشير اليه هو في كلماته) والذي دعمه في مسيرته السياسية واثناء مواجهته لإوقات عصيبة بسبب اعماله التجارية.
في عالم المافيات هناك عبارة يستخدمها رؤوساء هذه العصابات عندما يحتاجون لمساعدة من تفضلوا عليهم كثيرا وجعلوهم يتمتعون بالثروة والنفوذ، تقول ((It is payback time، ومعناها جاء وقت التسديد. فهل كان موقف البرلماني البريطاني العراقي الأصل، والتصويت الأخير في الجمعية العامة ضمن هذا المفهوم، وجزءا من عملية رد الفضل وتسديد لدين سابق؟ أتمنى أن أكون مخطئا، واتمنى أكثر ان يثبت التحقيق، إذا ما حصل، ان كل ما جرى هو خطأ فني (لم نسمع بحصوله من قبل) وانه لن يتكرر.
الرحمة لارواح زهور غزة البريئة الذين وصل عددهم الى أكثر من 3500 طفلا، واراوح اكثر من 6500 شهيدة وشهيد ذهبوا ضحية القصف البربري لمدينة غزة، والأرقام تتصاعد في كل يوم، هذه الأعداد الرهيبة من الضحايا التي لا يمكن لأحد ان يتغافل عنها الا من كان في نفسه وقلبه مرض.
*اكاديمي وكاتب عراقي