حورية البحر ورجل - السمكة في حضارة بلاد الرافدين
بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023
حورية البحر ورجل-السمكة في حضارة بلاد الرافدين
شكل 1: طبعة ختم اسطواني من العصر الآشوري الحديث شجرة النخلة يحيط بها (شخصية ترتدي زي السمكة) يحمل جردل باليد اليمنى ويمسك باليد اليسرى سعفة النخلة، ويقف على الجانب المقابل (حورية البحر) (kuliltu)، ورجل-السمكة (kulullû) يرفعان اليد اليمنى باتجاه سعفات النخلة واليد اليسرى باتجاه ساق النخلة وكلاهما يرتدي قبعة خالية من القرون دليل الالوهية.
أن مادة الكون الأصلية هي مياه لانهائية أو أزلية وأن الآلهة الأولى هائمة بذاتها على وجه الماء (باللغة السومرية يطلق على الماء آسو A.zou) فلم يكن هناك مقر لها فقد كانت هائمة لان السماء لم تخلق بعد، وكانت هناك آلهة قديمة هما الإله أبزو abzu)) أو أبسو (apsû) إله المياه العذبة ومعنى الكلمة أب=ماء زو=عمق ومعناه (عمق المياه) فهو مصدر مياه الانهار والبحيرات واليانبيع العذبة، وزوجته تيامت أو تعامة (Tiâmat) إلهة المحيط الكبير المالح، وإن أصل كلمة تيامت لها ارتباط بكلمة (تاماتو) (DTI.AMAT) التي تعني بالأكدية (بحر) والتي بدورها مأخوذة من الكلمة الأكدية البدائية (تامتوم) (DTAM.TUM)، وايضا كلمة تيامت لها معنى قريب من كلمة (تهوم) ( (Tehumالتي وردت في (سفر التكوين) والتي تعني (المياه الجوفية)، ويعتقد الباحث (Crawford, Harriet) إن (فكرة مزج المياه المالحة والعذبة) ظاهرة طبيعية تحدث في وسط الخليج العربي حيث تمتزج المياه الجوفية العذبة مع مياه البحر المالحة، وهذه الظاهرة حية وصحيحة في دولة البحرين (Bahrain) التي يعتقد ان حضارة دلمون (Dilmun) نشأت هناك والتي هي الموقع الأصلي لمعتقدات الخلق السومرية.
ونتيجة للزواج المقدس (أبسو وتيامت) ولد الجيل الأول من الآلهة الشابة، واعتقد الإله أبسو أن الآلهة الشابة يخططون لقتله وسلبه عرشه وبالفعل شن عليهم الحرب لاحقاً، ونتيجة الحرب ان قتل أبسو على أيديهم، فغضبت الإلهة تيامت واندفعت لتنتقم لمقتل زوجها، فشنت حربا على الآلهة الشابة التي ترأسها الإله مردوخ (إله بابل القومي) (Marduk)، الذي بدوره قتل الإلهة تيامت وشطرها إلى قسمين، الشطر الأول: قام بتشكيل السماء والنجوم من أجزاء جسد تيامات المتناثرة، والشطر الثاني: شكل الأرض، ولكن الإلهة تيامت ارادت ان تنتقم لنفسها قبيل وفاتها من الآلهة الشابة فولدت أحد عشر وحشا، وأطلقت تلك الوحوش أو مجموعات من الوحوش في بلاد الرافدين ومن ضمنها التنانين التي مُلأت أجسادها بالسم بدل الدم.
يمكن استعراض اسماء الوحوش الأحد عشر وهم: ثلاثة أنواع من الثعابين ذات القرون، والتنين الثعبان ويدعى موششو mušhuššu)) (نقشت صورته على جدران شارع الموكب في بابل)، ولاخامو (laḫamu) ربما يكون مطابقا إلى شخصية البطل ذو الشعر الطويل، ووحش العاصفة العظيم ويدعى أوجالو (ugallu) أو الأسد الشيطاني، والأسد الهائج ويدعى اورديمو(uridimmu) أو الأسد البشري، والرجل-العقرب ويدعى كيرتبلولتو (girtablullû)، والعواصف القوية وتدعى أومو دبروتو (ūmu dabrûtu)، والرجل-السمكة (كولولو) (kulullû) ، و وحش أسطوري يدعى كوساريكو (kusarikku) ربما مشتق من الثور البيسون (bison)، وكل هؤلاء هزمهم مردوخ (وعند الآشوريين هزمهم البطل الإله آشور) في معركة عظيمة، وتم وضع تذكار لهم ولمردوخ في أبسو (أبزو) (اعماق المياه) حيث أقام نصب تذكاري للنصر، ي بعض الأحيان يتم استدعاء مخلوقات تيامت في التعويذات السحرية، وعثر على تماثيل لبعضهم تستخدم في السحر الوقائي من العهد الاشوري الحديث.
حورية البحر و (رجل-السمكة)
أحد الوحوش التي خلقتها الإلهة تيامت شخصية (رجل-السمكة) (كولولو) (kulullû) وهو شخصية ذات رأس وذراعين وجذع بشري ولكن الجزء السفلي من الجسم يأخذ شكل ذيل السمكة (شكل 2)، وقد صور في معظم الفترات الحكم ضمن فن بلاد الرافدين منذ العهد البابلي القديم فصاعدا، ربما في العهد الاشوري الوسيط (1521-911) ق.م، حل محله الرجل-الأسد الذي ظهر في المنحوتات الجدارية الآشورية، ولكن إذا كان الأمر كذلك فقد تم اعادة الشخصية الشعبية رجل-السمكة في العصر الآشوري الحديث، ثم استمر بالظهور في المنحوتات في فترات حكم الدولة الأخمينية (Achaemenid) (539-331) ق.م، والدولة السلوقية (Seleucid) (331-126) ق.م.
نجد في (الشكل 1) طبعة ختم اسطواني من العهد الآشوري الحديث (911-612) ق.م ربما يكون النموذج الأول لشخصية (حورية البحر) التي نراها في الفن اليوناني والأوروبي وفي العصور الوسطى وحتى في الكتابات الادبية، فقد ذكر الآشوريين المخلوق باسم كولولو (kulullû)، (رجل-السمكة)، كما ذكر ايضا الرجل-العقرب كيرتبلولتو (girtablultû)، والرجل-الأسد (Urmahlullû) أو القنطور-الأسد، وهذه الأشكال تشكل مجموعة بشرية هجينة بين الإنسان والحيوان جنبا إلى جنب مع الشياطين والوحوش الأخرى، وتم تمثيل هذه الشخصيات في الفن الآشوري الحديث عند نحت التماثيل الضخمة للقصور والمعابد، وعثر على تماثيل صغيرة من الطين وُضعت في المنازل أو دُفنت في الأساسات في طقوس الحماية السحرية وطرد الشر.
من المحتمل ان لحورية البحر ورجل-السمكة علاقة خاصة ومفهومة ولها ارتباط بإله المياه إيا (Ea) (بالسومري إنكي Enki)، فحسب المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين فان حياة الآلهة تشبه إلى حد ما حياة البشر فهناك آلهة ذكور واناث، ويتزوجون ولديهم نسلهم، وياكلون ويشربون..الخ ولهذا فرجل-السمكة لابد له من زوجة (حورية البحر)، ويبدو ان اختصاصها الوظيفي مكمل لزوجها وهو طرد الشر والحسد، وعموما في الفن من العهد البابلي القديم، والعهد الآشوري الحديث، والعهد البابلي الحديث، نرى احيانا نسخة أنثوية من حورية البحر (نصفها سمكة ونصفها امرأة) وتعرف ايضا باسم كوليلتو (kuliltu) ، ربما تعني (المرأة-السمكة) (شكل 1) .
شكل 2: منحوته جدارية ضخمة بالنحت البارز من القصر الملكي للملك الآشوري سرجون الثاني (Sargon) حكم (721-705) ق.م في دورشاروكين (Dūr-Šarkēn) (خرسباد) Khorsabad)). الارتفاع (255) ملم، يظهر رجل السمكة يسبح في الماء رافعا اليد اليمنى اللا الاعلى واليد اليسرى إلى الأسفل ويعتمر قبعة خالية من القرون. اونيس (Oannes) (رجل-السمكة) ظهر في عهد انطيوخس الأول الملك السلوقي مؤرخ بابلي اسمه برعوثا أو باليوناني بيروسوس (Berossus) كتب تاريخ بابل بناء على طلب الملك السلوقي أطلق عليه (بابيلونيكا) (Babyloniaca)، وقد عرفنا عن كتابه من الاقتباسات التي أشار اليها الكتبة الاغريق، وذكر برعوثا في حديثه عن أصل الحضارة البابلية بقوله: (ظهر من البحر الأحمر(يقصد هنا الخليج العربي) في منطقة قريبة من الحدود مع بابل، وحش مخيف يدعى اونيس (Oannes) (لاحظ التقارب في اللفظ بين اونيس=ادونيس= ادريس في الاسلام)، جسمه الأعلى انسان والأسفل سمكة (شكل 3 رقم 5)، فبدلا من القدمين لديه ذيل سمكة، وصوته مثل صوت الأنسان، وشكله نحت وبقي لحد يومنا هذا ... هذا الوحش قضى أيامه مع الرجال لا يأكل أي شيء، وكان يعلم الرجال المهارات للازمة للكتابة، والرياضيات، وجميع أنواع المعرفة: وكيفية بناء المدن، والمعابد، وكتابة القوانين، وعلم الرجال كيفية تحديد الحدود، وتقسيم الأرض، وأيضا كيفية زراعة البذور ثم جني الاثمار والخضروات ... وفي نهاية اليوم يذهب الوحش اونيس إلى البحر ليقضي الليل هناك). شكل 3: كاهن ابكالو (apkallu) يرتدي زي السمكة، ويؤدي طقوس دينية أمام إله يحمل كأس يخرج منه مياه نهري دجلة والفرات، والجهة المقابله نفس المشهد (شكل 1)، شكل الإله دجان أو دﮔان يرتدي زي السمكة، ويطلق عليه (دجان-السمكة) فهو أبن الإله أيا (شكل 2)، صورة الإله دجان يرتدي زي السمكة (شكل 3) ومقارنته مع قبعة البابا في روما الذي يرتدي قبعة مع شرائط متدلية إلى الخلف (شكل 4)، وكان للسمكة دور كبيرفي المسيحية، وشعارها في القرون الثلاث الأولى الميلادية، فقد وضع المؤمنون علامات ورموزا تحدثهم عن المسيح، وأشهرها علامة (السمكة) لان القصة الانجيلية تروي اعجوبة تكثير (الخبز والسمك)، كما وان السبب الذي ادى إلى اتخاذ السمكه كرمز للمسيحيين (قبل رمز الصليب المعروف الآن) يعود إلى حروف كلمة السمكة، وهي في اليونانية (ايكتيس) (IXƟYΣ)، وكانت تشير الحروف إلى كلمات تشكل اقرار ايمان مسيحي: (يسوع المسيح، أبن الله، المخلص) (شكل 4) ، شكل الإله اونيس نصفه الأعلى انسان والنصف الأسفل سمكة (شكل 5) هذه القصة لم ترد في النصوص البابلية القديمة، ولكن لدينا الإله اوننا (Uan-na) من اريدو (Eridu) (تل ابو شهرين في الناصرية) وهو الاسم الأول من أبكالو (apkallu) (الحكماء السبعة) (شكل 3 رقم 1) الذين خدموا الملوك في وقت مبكر، واعتبر الإله (اوننا) في العصر البابلي القديم ابن الإله (أيا)، وبذلك فهي إشارة إلى أنه (حكيم)، وكان كهنة ابكالو يرتدون زي السمكة عند أداء الطقوس الدينية، وأسم (اوننا) مرادفة إلى اونيس (Oannes) التي ذكره المؤرخ البابلي برعوثا، ولدينا نص حول عبادة تمثال مردوخ في بابل من قبل الحكماء السبعة وصفوا: (الأسماك المقدسة ... والكمال في الحكمة السامية)، ويبدو أن برعوثا على علم بوجود ارتباط بين الأسماك والمعرفة، وأما في فن بلاد الرافدين فيظهر رجال-أسماك أو شخصيات ترتدي زي الأسماك منذ العهد الكاشي ولغاية العصر السلوقي، ولكن المعنى غامض، وبذلك فان شخصية (اونيس) ووضيفته تختلف عن وضيفة وتخصص رجل-السمكة وحورية البحر وهما من نتاج الإلهة تيامت.